2- لا يمكن ان يقوم الرومان بصلب المسيح او اي كان غيره بلا اي ذنب لمجرد الخضوع لصراخ يهود يعتبروه مجدفا مطالبين بصلبه اذ تظهر راوية الانجيل بيلاطس بمظهر العاجز امامهم ومساله اعتبار اليهود للمسيح مجدفا في عقيدتهم هي مساله لا علاقه للرومان بها.
نعم، ظهر بيلاطس بائسا عاجزا بالفعل في رواية الإنجيل، وهو ما يتعارض حتى مع
شخصيته كما صوّرها التاريخ كرجل شديد
العناد والقوة. من هنا نظر بالفعل كثير من الباحثين ـ ناهيك عن المُغرضين ـ بعين الشك والريبة لرواية الإنجيل، حتى رغم اتفاق الأربعة عليها! لكن سبب هذا التعارض هو ببساطة
فهمنا نحن الخاطئ لطبيعة ما حدث وللدور الذي كان يلعبه كل طرف من أطراف الصراع!
أولا كانت "
المحكمة" الرئيسية التي أدانت السيد المسيح هي "
المجمع" نفسه، أو
السَنهِدرين. هناك للأسف خلط كثير حول معنى السنهدرين ودوره ولكن السنهدرين باختصار هو "
السلطة القضائية" في اليهودية: تحت إمرته جنود وقوة
بوليسية مسلحة، يملك سلطة
القبض على أي متهم، كما أن لديه
سجون أيضا يحبس فيها هؤلاء المتهمين. (هذا بالتالي ليس هو نفس السنهدرين كـ"مجمع ديني" في الهيكل، يختص بأمور دينية فقهية وطقسية بحتة ولا علاقة له بالجرائم والمنازعات أو بالقضاء عموما). أما القانون الذي يعمل بموجبه هذا السنهدرين فهو بالطبع قانون الكتاب أو الناموس إضافة للتقليد وقوانين الأحبار وغيرها مما يُطلق عليه إجمالا "
الهالاكا".
قبض إذاً هذا السنهدرين على السيد المسيح،
وحاكمه،
وأدانه! لذلك ـ أي لأن السنهدرين هو السلطة المنوطة حقا بالأمر ومن ثم فهذه هي المحاكمة الرئيسية والفيصلية ـ فقد كانت إدانة المسيح في هذا السنهدرين كافية تماما كي يندم
يهوذا فيرد الفضة وينتحر، كل هذا قبل أن تصل القضية حتى إلى بيلاطس! لاحظ قول متى:
«حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة...». الإدانة إذاً هي إدانة المجمع، قيافا وحنان وبقية السبعين الذي يتكون منهم السنهدرين، لا بيلاطس. (كان يهوذا يعتقد أن هذا المجمع ـ قياسا إلى قامة سيده ـ لن ينجح أبدا في النهاية في إدانته، أنه "سيخرج منها" بشكل أو بأخر كما يقال، وسيخرج هو أيضا بالفضة. من ثم فقط حين دين المسيح أدرك يهوذا أخيرا هول ما فعل)!
السنهدرين ـ محاكمة المسيح
ثانيا: حسب هذه المحاكمة ما هي تهمة المسيح التي أدانوه بسببها؟
التجديف! (
«فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم التجاديف!»). فما هي عقوبة التجديف حسب الهالاكا؟ العقوبة هي
الرجم (ثم التعليق بعد الموت على
مشنقة، وهو
مربوط اليدين، ثم دفنه أخيرا
ودفن المشنقة معه: لهذه التفصيلات الثلاثة ـ الغائبة في سردية الصليب ـ لا يمكن الربط بين عود الصليب وعود المشنقة كما حاول البعض). أما وأن العقوبة هي
الرجم، وقد دين بالفعل المتهم، فقد تحقق المراد من رب العباد وتخلصوا أخيرا من الرجل! تبقى فقط مشكلة واحدة: هي أن السنهدرين ـ وإن كان له تنفيذ العقوبات ـ لم يكن من سلطته توقيع عقوبة الموت تحديدا قبل "
التصديق" أولا عليها من الوالي الروماني! عقوبة الإعدام بالذات ـ رجما أو شنقا أو بأية طريقة ـ كات العقوبة الوحيدة خارج نطاق سلطتهم، وهكذا دخل بيلاطس البنطي أخيرا إلى المشهد!
(
فقال لهم بيلاطس: «خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم». فقال له اليهود: «لا يجوز لنا أن نقتل أحدا»)
ثالثا: بالنسبة لبيلاطس كان القانون الحاكم في اليهودية ـ ككل المحافظات الرومانية الأخرى ـ هو "القانون المحلي"، أو "
قانون الأرض" كما كان يُسمى، وليس القانون الروماني. الوالي الروماني هو السلطة القضائية
الأعلى بلا شك، مع ذلك فدوره محدود قياسا لدور السنهدرين، كما أن "تصديقه" على أحكام الإعدام التي يصدرها السنهدرين أمر روتيني لا مشكلة فيه إلا في
حالة واحدة فقط: إذا تعارضت أحكام قانون الأرض ـ الهالاكا ـ مع أحكام القانون الروماني. هنا يمتنع الوالي الروماني عن التصديق على الحكم، وفي حالة الخلاف يُرفع الأمر إلى
القيصر.
قضاء الحاكم الروماني ـ بعبارة أخرى ـ أقرب إلى قضاء
الاستئناف أو حتى القضاء
الدستوري. الوالي الروماني لا ينظر في قضية
المتهم نفسه أو يبحث في
براءته بقدر ما ينظر في دستورية هذا الحكم
ومدى اتفاقه أو تعارضه مع القانون الروماني. وعليه: لو أنك مثلا طلبت من بيلاطس التصديق على إعدام شخص لأنه قاتل: أخذت التصديق على الفور. أما لو طلبت التصديق على إعدام شخص لأنه مثلا يجدّف على يهوه رب الجنود: لن تحصل على هذا التصديق أبدا!
هذا ما كان يفهمه السنهدرين تماما وكان عليهم بالتالي أن يعيدوا
صياغة القضية مرة أخرى أمام بيلاطس! هكذا تحولت التهمة من "
التجديف"، كما حكموا أولا فيما بينهم، إلى "
ادعاء الملكية على اليهود"، أي
التمرد ضد سلطة قيصر! وهكذا كانت خطة السنهدرين التي ظهرت ـ في الأناجيل الأربعة ـ
منذ اللحظة الأولى لرفع القضية أمام بيلاطس!
هذه بالتالي هي ورطة بيلاطس وكيف تم تقييد سلطته تماما: من ناحية
الدور: دوره كان فقط التصديق على الحكم. من ناحية
القضية: القضية سياسية لا دينية. ومن ناحية
الحكم: الحكم ينسجم تماما مع القانون الروماني. ما دامت التهمة هي
التمرد فالعقوبة هي لا شك
الصليب!
من هنا ندرك أن بيلاطس كان بالعكس في غاية
العناد والمقاومة ضد مؤامرة اليهود، إذ كان يعرف أو على الأقل يستشعر أن المتهم ـ رغم كل ذلك ـ بريء! هكذا راح بالتالي يناور ويداور، يخلو تارة بالمسيح، يخرج تارة إليهم، يعرض تارة بديل باراباس، ويبذل بالفعل كل ما بوسعه لكي يكسر هذا المخطط الشيطاني. وصل أخيرا ـ وقد زاد الهياج والصراخ وكاد الأمر ينفلت إلى الشغب والفوضى ـ إلى أنه
«أخذ ماء وغسل يديه» لكي ينجو على الأقل بنفسه من هذا الدم البريء الذي يوشك أن يُسفك، رغما حتى عنه شخصيا!
ولنلاحظ أن في خلفية هذا المشهد رجلان:
متهم يرفض الدفاع عن نفسه، من ثم لا يساعد أبدا في كشف هذه المؤامرة،
وقيصر هو على الأرجح غاضب بالفعل على بيلاطس (غاضب حتى "غضبا عارما" حسب رواية فيلو السكندري، وإن كان سبب غضبه هذا قديم نسبيا)! أما صمت السيد تبارك اسمه فيحتاج لا شك رسالة أخرى بحد ذاته! وأما طيباريوس فما نعرفه أنه كان
ألعن حتى من هيرودس نفسه في شكه وتوجسه وامتلائه بهواجس الخيانة! فإن كان هيرودس قد وصل به الأمر إلى قتل زوجته وأطفاله فما بالك بمَن هو ألعن منه!
هذا يوضح
خطورة التهديد الذي رفعه اليهود أخيرا برفع الأمر إلى قيصر واتهام بيلاطس بأنه لا يحبه (
«إن أطلقت هذا فلست مُحبا لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكا يقاوم قيصر»). بالنسبة لشخصية تملؤها الهواجس بالفعل كطيباريوس
فاتهام الخيانة قد يكون له في الحقيقة نفس أثر
الخيانة الفعلية! اتهام كهذا قد لا يكلف بيلاطس منصبه فحسب بل ربما حتى رأسه أيضا!
ختاما ليس المقصود بلطبع هو
تبرئة بيلاطس تماما، فالسيد نفسه قد أدانه ولو بطريق غير مباشر (
«... الذي أسلمني إليك له خطية أعظم»). المقصود هو فقط شرح هذا العجز الغريب الذي بدا على بيلاطس ولماذا استسلم هكذا في النهاية لحكم اليهود رغم رغبته الواضحة في إطلاق المسيح!
أطلنا كثيرا.. ولكن نرد على مسألة الدفن أيضا باختصار:
.............