الهدف هو تأليه الانسان؟؟
حضرتك تقصدها حرفيا؟
نعم يا أخي أقصدها حرفيا. "صار إنسانا كي نصير نحن آلهة": هذه من أشهر أقوال معلمنا قداسة البابا القديس العظيم أثناسيوس الرسولي. ولكن ليس المعنى كما تفهمه. هو بالأحرى عكس ما تفهمه. إذا فهمت أن المسيحي هو نفسه بذاته يصير إلها فأنت في الحقيقة لا تعرف حرفا واحدا في المسيحية. يقول السيد المسيح ـ في متى ومرقس ولوقا ـ "إن أراد أحد أن يأتي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني". أي أن أول خطوة نحو الخلاص ونحو التحرر ونحو هذا التأله هي إنكار النفس أولا. وفي لوقا، وفي مرقس، يقول السيد له المجد: "فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلصها". أي أن نقطة الانطلاق ليست هي النفس، ولو لأجل خلاصها، وإنما هي الله، الذي في سبيله تهلك النفس فتخلص! لماذا يتأله المسيحي إذن؟ لأن كل إنسان في الحقيقة يجب أن يختار: إما الأنا وإما الله، ولقد اختار المسيحي الله، وليس "أنا" في محضر الله أبدا! وهل أسطع من نجم القديس الشهيد يوحنا المعمدان في كل تاريخ البشر؟ وهل أعظم منه بين كل من ولدت النساء؟ ولكن تأمل ماذا قال المعمدان عندما تقاطع نور نجمه مع شمس المسيح: "ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص"! نفس هذه الأنا التي تنقص عند المعمدان هي التي اختفت بالتأله كليا عند لسان العطر فقال عبارته الخالدة: "أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ". فالتأله إذن ليس معناه أن يصير كل منا إلها بنفسه وذاته، وإنما التأله هو بالعكس أن ننطفئ نحن لكي تشرق فينا شمس الله، فيصير كل منا إعلانا عن حضوره الأبدي. التأله ليس تأله الذات البشرية، وإنما هو بالعكس نفيها لإثبات الذات الإلهية، ذات الإله الواحد القدوس الذي بالحقيقة ليس سواه، وليس معه.
* * *
بقية أسئلتك كما أرى مع الدكتور باول صاحب هذا الموضوع الرائع ومع الأستاذ مولكا ومع مَن هم أعلم مني عموما. فقط أريد أن أؤكد أنك لن تستطيع أبدا فهم كل شيء عن طريق العقل فقط. هناك أمور لا يفهمها الإنسان تماما ـ مهما تم شرحها ـ إلا حين يعيشها بنفسه وبعد أن يبلغ نضجا روحيا معينا. على سبيل المثال: أنت تسأل عن آدم وحواء والنسل والذرية. لقد بارك الله آدم وحواء في أول التكوين وقال: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض": هل كان ذلك قبل السقوط أم بعده؟ كان قبل السقوط! إذن لم يكن القصد الإلهي أبدا أن يظل آدم وحواء وحدهما بالجنة، دون نسل، ولم يكن اجتماعهما معا ونسلهما يتعارض أبدا مع حالة القداسة الأولى ومع الصورة الإلهية التي خلق الله الإنسان عليها. رغم ذلك حدث بالسقوط شيء مروّع حقا! ماذا حدث؟
هنا لابد لأجل الفهم أن نعود إلى الشجرة: لماذا قال الكتاب أنها شجرة "معرفة الخير والشر" ولم يقل شجرة "الخير والشر"؟ ما هو المعنى حقا وراء هذه الكلمات، أم تظنها جاءت عبثا؟ المعنى ببساطة هو أننا بالسقوط صرنا نعرف الخير والشر، أي أننا وقعنا فيما نسميه فكر "الثنائية" بعد أن كنا في فكر "الوحدة" مع الله وفي نعمة الشركة معه. بعبارة أخرى: صار ـ في عقولنا ـ خير وشر، ووجود وعدم، ونور وظلام، وشمال وجنوب، وموجب وسالب، إلى آخر الثنائيات التي يتأسس عليها الوجود كله كما نعرفه اليوم بعقولنا المحدودة. فمن هذه الثنائيات أيضا ثنائية الذكر والأنثى، ولذلك بالسقوط ظهرت الشهوات وبدأ الخجل وعرفنا العري، أي ظهر بالضرورة كل ما يتعلق بهذا الفكر الثنائي، الممزق بين المتناقضات في كل لحظة، المنقسم بين قطبي الثنائية.
مشكلتك إذن، ومشكلتنا جميعا في الحقيقة، أننا نحاول فهم أو شرح الحالة الأولى، حالة "الوحدة" مع الله ومع الحياة والوجود، أي ما قبل السقوط، بينما نحن كلنا هنا أسرى لفكر "الثنائية" وما بعد السقوط! لذلك نقول مثلا: لم يكن هناك جنس قبل السقوط، أو لم يكن هناك شر قبل السقوط. خطأ. كل ذلك بل كل ما نقوله بالجملة لا يعبر أبدا عن الحقيقة. نحن نحاول فقط تقريب المعاني قدر المستطاع لكن ذلك كله غير دقيق بالمرة، لأننا هنا ما زلنا نفكر جميعا بنفس الطريقة الثنائية ـ التي لا نملك غيرها ـ وبالتالي ما زلنا نتحدث عن الشر مقابل الخير، مثلا، أو حتى عن الروحي مقابل الجسدي! لقد كان أدم عاريا، لكن مفهوم العري نفسه ـ ثنائية العري مقابل الستر ـ لم تكن بالأساس موجودة قبل السقوط. المفهوم نفسه ظهر بالعقل كثنائية أخرى، لأن آدم ببساطة وقع عقله في فخ كل هذه التناقضات بعد أن أكل من "معرفة الخير والشر"! هذا تحديدا من أهم معاني السقوط، أي السقوط في وهم الثنائية وكما نعيشه نحن اليوم جميعا. لذلك يقول الكتاب "علما أنهما عريانان"، وحين اختبأ آدم من وجه الرب لأنه عريان كان أول سؤال يسأله الرب على الفور: "من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟" أي كأن الله بعبارة أخرى يسأل: كيف أصبحت تميّـز يا آدم بين العري والستر؟ كيف انشطر عقلك بين الخير والشر؟ هل أكلت من الشجرة؟
بالتالي نعم، كان هناك ذكر وأنثى وجنس وتناسل وذرية قبل السقوط، بنص الكتاب المقدس ذاته. لكن ذلك كله كان يختلف عما نفهمه نحن اليوم من هذه الكلمات. كان ذلك كله يتم في إطار "الوحدة" الشاملة مع الله، إذ لم يكن هناك ابتداء ثنائية الذكر مقابل الأنثى، أو ثنائية الأنا مقابل الآخر، أو حتى ثنائية الإنسان مقابل الله! هذا نفسه يرتبط كما ترى بحديثنا عن التأله ويأخذنا خطوة أعمق في الفهم. إن التأله هو هذه الحال التي يتحرر عندها الإنسان كليا من وهم الثنائية أخيرا فتتحقق له الوحدة مع الله. هذه الوحدة، وهذا "الواحد" الذي نصير إليه جميعا، هو بالحقيقة هدف الوجود كله! تأمل صلاة المسيح الأخيرة على الأرض وانظر كم بها من أسرار. يقول السيد المسيح: "ليكون الجميع واحدا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا"!
فهذا أخي هو آخر ما يمكن أن تصل إليه عقولنا المحدودة شرحا وتفصيلا. أما الخبرة الروحية نفسها وإدراك هذه الوحدة مع الله، بعقلك وقلبك وكل وجودك، فهذا هو ما تعجز الكلمات عنه، لا يستطيع العقل أبدا فهمه، ولا يستطيع أي إنسان شرحه. هذا هو ما تعرفه أنت بذاتك ووجدانك، فقط عندما تعيش "الخبرة" نفسها، واسأل أي مسيحي حقيقي يخبرك.
* * *