just4jesus
New member
مقدمة
إن مدرسة الإسكندريّة الفكريّة، في العالم القديم قبل المسيحيّة بقرون، مدرسة عريقة وراقيّة. فقد حملت إرث الفلسفة اليونانيّة واشتهرت خصوصاً بميلها إلى الأفلاطونيّة، على عكس المدرسة الأنطاكيّة التي انتهجت الأسلوب الأرسطي. ولقد تأسست، على غرار هذه المدرسة الفلسفيّة العريقة، مدرسة مسيحيّة خاصة مع بانتينوس في أواخر القرن الثاني، ولمع فيها القديس اكلمنضس الإسكندري، وزادها شهرة وارتقاءً العلاّمة الكبير أوريجانوس.
لا شكّ أن الظروف والتحديّات التي أحاطت بالآباء المدافعين، الدمويّة والفكريّة، واجهها أيضاً آباء مدرسة الإسكندريّة، ولكن بخصائص جديدة، هي:
1. استقلال علم اللاهوت وتخلّيه تماماً عن الطابع اليهودي.
2. تبنّي أعمق في منهج استعمال الفلسفة، الأفلاطونيّة تحديداً، لخدمة التفكير اللاهوتي والتعبير عنه.
3. تبنّي أعمق للأسلوب المنهجي العلمي المنظّم في العمل اللاهوتي.
4. غزارة الإنتاج الفكري.
5. حريّة البحث.
6. اتّباع الطريقة الأليّغورية الرمزية في تفسير نصوص الكتاب المقدّس (Allégorie).
7. التشديد على الطبيعة الإلهية في الخريستولوجيا.
8. التشديد على إبراز أهميّة "النفس" في الأنثربولوجيا.
9. الاستمرار في الأسلوب الدفاعي والتعليمي في التعبير عن الإيمان.
استمرّت المدرسة اللاهوتيّة الإسكندرية فترة طويلة، وكان لها الشأن الكبير في الخلافات الخريستولوجية في القرنين الرابع والخامس، ولكننا نكتفي بالتعرّف على القديس اكلمنضس وعلى أوريجانوس مؤسس علم النقد الكتابي، ضمن مجال دراستنا لعلم الآباء في القرون الثلاثة الأولى.
1 - حياته :
ولد تيتوس فلافيوس إكليمنضس حوالي سنة 140/150 في مدينة أثينا على الأرجح، أو ربما في الإسكندريّة، أي أنه كان معاصراً ليوستينوس وإيرناوس ولحقبة الآباء المدافعين. كان يميل إلى التعمّق في فلسفات العصر منذ فتوّته، فانكبّ على دراسة الأفلاطونية والرواقية وغيرها. وأخذ ينهل من منصّفاتها العلم والمعرفة، وعلى غرار يوستينوس أفضى به سعيه الدائب للحقيقة إلى اعتناق المسيحية. ورغبة منه في التبحّر في أسرار المسيحية ومبادئها قام بعدّة أسفار زار خلالها جنوب إيطاليا وسوريا وفلسطين، متقصّياً أخبار المفكّرين من ذوي الشهرة الواسعة ليقف عن كثب على مبادئهم وتعاليمهم (1) . هكذا تنقّل من بلد إلى آخر حتى استقرّ في نهاية المطاف في الإسكندرية، وكانت المدينة آنذاك، كما رأينا في المقدّمة، موئلاً للفكر والعلم، يؤمّها كل طامح إلى المعرفة ليعبّ من معين إشعاعها الفكري العذب. وفي الإسكندرية تعرَّف إكليمنضس إلى العّلامة الشهير بانتينوس (2) مؤسّس المدرسة اللاهوتية فيها، فخلب عقله وارتاحت نفسه إليه. وما لبث أن انتسب إلى مدرسته، ولم يمضِ وقت يسير حتى أصبح اليد اليمنى لمعلّمه في كل شيء، فذاع صيته في كل الأمصار. ولمّا توفي بانتينوس في أواخر القرن الثاني أسندت إدارة المدرسة إلى إكليمنضس فعمل بدأب ونشاط على متابعة رسالة معلّمه، وقد توصّل بفضل درايته وسداد رأيه إلى مدّ جسر التقارب بين الفلسفة الهلّينية من جهة والمسيحية من جهة أخرى.
كان إكليمنضس، إلى جانب تمكّنه من الثقافة الهلّينية العميقة، ملمّاً بالكتاب المقدّس حتى أضحى شغله الشاغل يركن إليه في معظم أوقاته.
ثارت الاضطرابات من جديد في الإمبراطورية الرومانية في مطلع القرن الثالث، وناصب الإمبراطور سبتيموس ساويروس الكنيسة العداء وراح يفتك بأبنائها، فاضطرّ إكليمنضس إلى ترك الإسكندرية هارباً إلى بلاد الكبّاذوك، وحلَّ ضيفاً على تلميذه ألكسندروس الذي أضحى في ما بعد أسقفاً على أورشليم (3) . وربما رُسم كاهناً كما ذكر هو نفسه، في نص من كتابه "المربي" الذي لم تثبت صحّته، وكما ورد في رسالة يذكرها أوسابيوس، لم تثبت صحتها أيضاً.(4)
توفّي سنة 215 على الأرجح.
2 - مؤلّفاته :
قلَّ أن نجد مثيلاً لمكانة اكليمنضس في دنيا الفكر واللاهوت في القرون الأولى. فمؤلّفاته كانت ولم تزل معيناً فكرياً لا يجفّ، فهو المعلّم الملهم، والخطيب المفوَّه، والشاهد الأمين على ثقافة عصره، حتى قال نيومن عنه وعن تلميذه أوريجانوس: "إنّ فلسفة إكليمنضس وأوريجانوس جذبتني، إذ أنّ بعض تعاليمها الرائعة كان له وقع الموسيقى على أذني"(5) . لم يترك باباً فكرياً إلاّ طرقه، فجمع بين الفلسفة والشعر وعلم الآثار والميثولوجيا والأدب، واستشهد بالعهد القديم أكثر من ألف وخمس مئة مرّة، وبالعهد الجديد أكثر من ألفي مرّة، واستوحى الأدب اليوناني أكثر من ثلاث مئة وستين مرّة .(6)
أدرك إكليمنضس بثاقب بصره أن لا مفرّ من مواجهة الفلسفة الهلّينية، فانبرى ينسّق الفكر المسيحي تنسيقاً منظّماً كي يكون على المستوى المطلوب. وقد أعلن في أكثر من موضع أن لا تناقض بين الفلسفة الحقيقية والإيمان، أو بين الإنجيل والأدب، معتبراً أنّ العلوم تخدم علم اللاهوت وأنّ المسيحية هي تاج جميع الحقائق ومجدها.
ترك إكليمنضس مؤلّفات جمّة فُقد معظمها، بيد أنّ ما تبقّى منها كافٍ ليعطينا صورة جليّة عن أهميّة الكاتب. وإنّ أبرز ما بقي من مؤلّفاته تفسير عن الفصل العاشر (17 – 31) من إنجيل مرقس عنوانه "أيّ من الأغنياء يفوز بالخلاص"، و"مقتطفات من مؤلّفات ثاوذورس". وأخيراً ثلاثّيته الشهيرة التي تضمّ الكتب التالية: "المحرّض" و"المربّي" و"البُسُط" (7). تشكّل هذه الثلاثية وحدة فكرية متماسكة لا تنفصم. فقد ورد في كتاب "المربّي" ما يلي: "في عزم منه مضطرم، ومن أجل أن يقودنا بخطى وئيدة إلى الخلاص، اتّبع المخلّص هذا التنسيق المدهش: فهو أوّلاً يحرّض، ثم يربّي، وأخيراً يثقّف" (8) ، وربما كان اكلمنضس ينوي كتابة جزء رابع يسميه "المعلّم (9 )" Didaskalos .
أ – "المحرّض" Protreptikos :
كتاب دفاعي مؤلف من إثنا عشر فصلاً. الغرض الأساسي منه "تحريض" اليونانيين على ترك عبادة الآلهة الوثنية السخيفة، "وقد كُتب "بحسب فنٍّ أدبيّ معروف.. وبطريقة منهجيّة" (10).
يستهلّ إكليمنضس كتابه بعرض مسهب لبعض الأقاصيص الخرافية السائدة في الأوساط الوثنية، ولاسيما اليونانية منها ويسميها بـ"لعبة الأطفال" ويدعو إلى تركها: "يجب علينا أن لا نذهب بعد إلى أيّة مدرسة بشريّة، فلا نأبه لا لأثينة ولا لإيونية ولا لسائر اليونان... لأنه بالكلمة صار العالم بأجمعه من الآن فصاعداً هو نفسه أثينا واليونان"(11) ، وذلك في القسم الأول من الكتاب. أما في القسم الثاني من الكتاب فيخلص إلى القول إنّ تعليم الكلمة – اللوغس الذي تنبّأ عنه الأنبياء هو التعليم الصحيح، لأنّه يفضي بنا إلى السعادة والتناغم مع شخص الله. يقول: "هذا الذي من ذريّة داود، كلمة الله، الموجود قبل داود، الذي استخفّ بالطنبور والقيثارة، قد نظّم عالمنا الصغير (12) ، الإنسان النفس والجسد، واستخدم هذه الآلة ذات الألف صوتاً للاحتفاء بالله، منشداً هو نفسه بإيقاع رنّان مع هذه الآلة البشرية" . (13)
يظهر اكلمنضس أن "تحريضه" إنما بدافع بحث الله عن أحبائه: "إن الله، في محبّته العظيمة للبشريّة، يرتبط بالإنسان، وكما أن العصفورة الأم تطير إلى صغيرها عندما يسقط من العش.. هكذا يبحث الله عن خليقته بأبوّة ويلتقط من جديد الصغير مشجّعاً إياه ليطير ثانيةً نحو العش" .(14)
إنّ هذا المصنّف، على الرغم من أهمّيته، لا يتعدى إطار الكتب الدفاعية التي كانت رائجة في القرون المسيحية الأولى. بيد أنّ جديده يتجلّى في اقتناع إكليمنضس بعدم الرد على أصحاب الفتن والوشايات التي كانت تحاك ضدّ المسيحية آنذاك، وتلك خطوة مهمّة لصالح المسيحية . (15)
ب - " المربّي " Pedagogos :
يتألف كتاب "المربّي" من ثلاثة أجزاء. يظهر اكلمنضس في الجزء الأول من الكتاب صورة الكلمة – المسيح على أنّه المربّي والمعلّم الأوحد لجميع المسيحيين، والهدف من ذلك "تحسين النفس، وتعليمها وتدريبها على الفضيلة، لا على الحياة العقلية" (16) . ويحدّد إكليمنضس في هذا الكتاب مفهوم التربية (17) . ويشبّه المسيحيين كافة بالأطفال: "يسموننا أطفالاً. نقبل بفرح هذه التسمية... فالطفولة تعني لنا أن حياتنا هي ربيع دائم. وهي كذلك لأن الحقيقة فينا لا تعتورها شيخوخة، وفيها يتحرّك وجودنا كلّه" . (18)
إن المبدأ الأساسي الذي يعتمده المسيح في تربية أبنائه هو المحبة، لا الخوف والتهويل كما ورد في العهد القديم، على أنّ ذلك لا يمنع المخلّص من اللجوء أحياناً إلى نوع من الشدّة كي يعيد الأمور إلى نصابها.
ويتطرَّق إكليمنضس في الجزأين الثاني والثالث من الكتاب إلى كل ما يمتّ بصلة إلى الحياة اليومية، كالمأكل والمشرب والأمور المنزلية والموسيقى والرقص وغيرها. ويصوّر لنا مظاهر الحياة اليومية في مدينة الإسكندرية وما كان يشوبها من ترف وضياع، محّذراً المسيحيين من الانغماس في هذا النمط من الحياة.
ولقد استعان إكليمنضس في تأليف كتابه، فضلاً عن العهد الجديد، بالمؤلّفات الفلسفية الرائجة في عصره، لاسيّما مؤلفات أفلاطون وبلوتارك (19) والرواقية.
ج - " البُسُط " Stromatis :
يحتوي كتاب "البُسُط" على ثمانية أجزاء تهدف بمجملها إلى توطيد العلاقة بين الإيمان المسيحي من جهة والفلسفة من جهة أخرى. فيلعب إكليمنضس في الجزء الأوّل دور محامي الدفاع عن الفلسفة اليونانية، معتبراً أنّ الفلسفة هبة من الله وأنّها بالتالي تجدي نفعاً كلَّ مسيحي يرغب في التعمّق بإيمانه. يقول: "قبل مجيء الرب كانت الفلسفة ضرورية من أجل تبرير اليهود، وهي الآن مفيدة أيضاً كي تقود النفوس إلى الله" (20) . وفي الجزء الثاني من الكتاب، يقارن بين العهد القديم والفلسفة اليونانية، مؤكّداً أنّ الوحي الإلهي لا يمكن أن يستعاض عنه بالفلسفة. أمّا الجزء الثالث فقد أفرده للزواج مبيّناً بجلاء شرعيّته وقدسيّته، داحضاً بذلك الفكر الغنوصي الذي يقلّل شأن سّر الزواج!
ويشيد في الجزء الرابع بمآثر الشهداء الذين سكبوا دمهم محرقة من أجل أن يشهدوا للحق، إلا أنّه بالمقابل يلوم المسيحيين الذين يسعون إلى الشهادة من تلقاء أنفسهم من دون مبرّر. ثم يتابع بحثه في عرض وجه جديد للغنوصية المسيحيّة الحقة، فيرى أنّ المعرفة لا تتعارض والإيمان، لأنّ من يتوق إليها لا بدّ له من أن ينعتق من كل الأهواء ويصل إلى حالة من الهدوء والطمأنينة (21) .
وجاء الجزء الخامس عرضاً مسهباً لوسائل المفترض إنتاجها للحصول على معرفة الله الكاملة. لذا نراه يركّز على ضرورة الإيمان كمبد أوّل، لكي يتخطّى الإنسان العقبات التي تعترض سبيله. كما يتكلّم، على غرار يوستينوس، عن "اللاهوت التنزيهي"، فينسب إلى الله كل الكمالات بالمقارنة مع المخلوقات الناقصة. ويعالج كاتبنا في الجزء السادس موضوع المعرفة الدينية، مقارناً إيّاها بالمعرفة الدنيوية التي يراها أدنى بكثير منها.ويصوّر لنا في الجزء السابع بالتفصيل حياة الإنسان المسيحي الذي يعتمد على "المعرفة" الحقة، الـ Gnosis، مركّزاً خصوصاً على النواحي الإيجابية. فالغنوصي الصحيح هو من اتّحد بالله بواسطة الكلمة باتّباعه إرشاداته، وهو الذي يتّصل بالله بواسطة الصلاة اليومية، وهو من يعيش أخلاقاً رفيعة يسمو بها فوق الجميع. ويختتم المؤلَّف في الجزء الثامن بمجموعة من الدراسات عالجها في الأجزاء السابقة.
3 - تعاليمه :
أ - اللوغس :
إنّ فكرة اللوغس – الكلمة هي البنية التحتية لكل مذهبه الفكري. فقد شغف إكليمنضس بدور اللوغس – الوسيط بين الله والإنسان، وراح يسعى بكل ما أوتي من عزم ونشاط إلى جلاء مفهومه. ومع أنّ فكرة اللوغس هي قديمة العهد في الأوساط الفلسفية (22) ، واللاهوتيّة، كما رأينا عند القدّيس يوحنا والقديس يوستينوس الفيلسوف وغيرهما، إلاّ أنّ مفهومه عن اللوغس فاق بكثير أسلافه. إنّ اللوغس في رأيه المرجع الأسمى، على المرء التعرّف إليه لتفسير أسرار الكون. فهو الخالق والمحرّك الأوّل لظهور العظمة الإلهية في العهد القديم وفي الفلسفة اليونانية نفسها.
ب- الخريستولوجيا :
تجسّد اللوغوس لمّا بلغ ملء الزمان واتّحدت الأرض بالسماء بواسطته ، فأزاح الستار عن الغموض الذي كان يكتنف سر الله، إذ يشكّل مع الآب والروح القدس الثالوث الأقدس (23) . من دونه أصبح لا يمكننا أن نعرف الله – الآب مطلقاً. لقد بات اللوغس المرشد والموجّه الوحيد لشؤون البشرية جمعاء، به يغدو الإنسان خليقة جديدة حيّة ومخلّصة، وحياة الإنسان هذه الجديدة إنّما تبدأ بالإيمان فترقى صعداً نحو العلم والتأمّل حيث دار الخلود والتألّه. وما المسيح، أي اللوغس، إلا إله وإنسان معاً، فلا غوص في أسرار الله إلاّ به دون سواه. وقصارى القول أنّ اللوغس – الوسيط هو محور لاهوت إكليمنضس، حتى إنّه تغافل بعض الشيء عن دور الله – الآب الذي هو مبدأ كل الخليقة ونهايتها.
يؤخذ على اكلمنضس بأن بعض جوانب خريستولوجيته خاطئة، بتأثير أفلاطوني واضح، إذ يعتبر أن المسيح قد أعفي جسدياً من الضرورات الماديّة، ونفسيّاً من الانفعال، رغم أنه يعترف بطبعتي المسيح الإلهيّة والبشرية.
ت - الأنثربولوجية والمعرفة Gnosis :
إن التدرج في معرفة الله هو أنثربولوجيّة اكلمنضس الأفلاطونيّة التي ترى في "عالم المثل" الانشداد. وبالمقابل، إن التوق إلى اجتناء المعرفة الحقّة إنّما يسهّل على المرء التدرّج في معرفة الله. هذه المعرفة ليست وليدة التأمّل النظري فحسب، بل هي أيضاً وليدة وحي إلهي ينعم به كل إنسان يسعى إلى الكمال. وقد بيّن إكليمنضس في مؤلّفاته المواهب التي يسبغها الله على الإنسان لقاء سعيه الدائب إلى الحقيقة. فالمعرفة تبدّل كيان الإنسان الأخلاقي والديني، وتعتقه من العبودية التي يتخبّط فيها، فيضحي صورة وضّاءة لله على الأرض.. "لقد نال الإنسان منذ ولادته الصورة وكلّما تقدّم في الكمال، تقبّل في ما بعد في ذاته المثال" (24) .
ولئن ركّز إكلمنضس على المعرفة كسبيل إلى الامتلاء من الله (25) ، فإنّه لم يهمل النواحي الأخرى من الحياة كالمحبة والصلاة والتنقية، فقد صرّح في أكثر من موضع أنّ الكمال إنّما يجتني بطرق متعدّدة تقود كلّها في نهاية الأمر إلى الله مصدر الخير والكمال.
إن الرغبة في معرفة الله تقود اكلمنضس إلى الكلام عن "اللاتأثرية" Apathia... لاشك أنه أخذ هذه الفكرة "عدم التأثر" أو "اللاهوى" من الفلسفة. فالمعرفة الحقيقة الـGnosis تقود إلى الامتلاء من الله، وبالتالي إلى حالة عميقة من الهدوء وعدم الانفعال، وإلى تمام السيطرة على الذات. لعلّ السطوة الأفلاطونيّة التي تدعو إلى التحرّر من أهواء الجسد الماديّة هي أساس هذه الفكرة، التي لا تخلو من أثر للغنوصيّة المنحرفة التي دافع ضدها الآباء، ومنهم اكلمنضس نفسه، للحفاظ على الإيمان المستقيم.
ث - الكنيسة :
يشدّد اكليمنضس على ترسيخ الوحدة بين المسيحيين، لاقتناعه بأنّ الكنيسة هي صورة الثالوث الأقدس على الأرض. فقد جاء في كتاب "المربّي": "يا له من سرّ عجيب! هناك آب واحد للكون، وكلمة واحد للكون، وروح قدس واحد.. وهناك بتول واحدة صارت أمّاً، ويسرّني أن اسمّيها الكنيسة" (26) .
ولقد أدرك أنّ العائق الأوّل الذي يمنع انتشار الكنيسة في العالم إنّما مردّه الانقسامات والهرطقات التي تعبث بجسمها في كل مكان. يقول في كتاب "البسط": "هنالك من يحتجّ علينا فيقول: لا أحد يرغمنا على الإيمان، بسبب الخلاف الناشب بين البدع المسيحية، لأنّ الحقيقة تكون مشوّهة عندما يعلّم البعض نمطاً معّيناً من العقائد والبعض نمطاً آخر.. نجيب على هؤلاء: لقد تألّف عند اليهود واليونانين من بين الفلاسفة عدد لا بأس به من البدع، فهل تستخلصون أنّه ينبغي التخلّي عن الفلسفة؟" (27) . وعلى كل حال، ألم يتنبأ السيّد المسيح بأنّ الهرطقات ستزرع في حقل الحقيقة كالزؤان مع القمح؟ فمن غير المعقول أن لا تتحقّق النبوءة.
ويذكر إكليمنضس أخيراً الرتب الكنسيّة الثلاث، الأسقفية والكهنوتية والشموسية، فيشهد بذلك على استمرارية الكنيسة ومدى تفاعلها مع تقليد الرسل ومع تراثها.
ج - المعمودية :
عكف إكليمنضس، إلى جانب انشغاله بنظرية اللوغس، على دراسة الأسرار المسيحية وفي طليعتها المعمودية. فاللوغس والسرّ هما في نظره محورا بحثه في المسيح والكنيسة. وقد عدّد في كتاب "البُسُط" المواهب التي يمطرها المسيح على الإنسان يوم يحصل على سرّ العماد. يقول: "أصغوا إلى المخلّص. لقد جدّدتك يا من ولد من أجل الشقاء والموت. لقد حرّرتك وشفيتك وافتديتك. لذا سأنعم عليك بالحياة الفائقة الطبيعة الخالدة التي لا نهاية لها، وسأريك وجه الله الأب الصالح" (28). ويعتبر اكلمنضس أن الخطيئة الأصلية تصل إلينا من خلال "المثل العاطل" وليس عن طريق الإرث. كما يبرز، علاوة على المواهب التي يسبغها الله على المسيحيين في المعمودية، "ختم الرب" (29) الذي كان يمهرهم به في سرّ التثبيت عند المعمودية مباشرة.
ح - الإفخارستيا :
يشير إكليمنضس، في الجزء السابع من كتاب "البُسُط"، إلى مفهوم الذبيحة عند المسيحيين: "أننا نمجّد ذاك الذي أسلم ذاته ذبيحة عنّا. فنحن بدورنا نقرّب ذواتنا ... لأنّ الله لا يبتهج إلاّ بخلاصنا" (30) . فالمسيح هو الذبيحة إذاً أما نحن فنشترك معه في هذه الذبيحة بواسطة الإفخارستيا: "لدم الرب وجهان، الأوّل مادّي وبه افتدينا من الهلاك، والثاني روحي محض وبه مسحنا. إنّ شرب دم المسيح يشركنا في خلود المسيح. إنّ المناولة الإفخارستيّة هي اتّحاد بالكلمة ونعمة مجيدة وعظيمة، من يشترك فيها بإيمان يتقدّس بجسده وروحه" (31).
خ - التوبة :
لا شكّ في أنّ النقاشات الحادّة التي كانت تجري بين إكليمنضس والغنوصيين من حين إلى آخر قد أسهمت كثيراًُ في بلورة عقيدته اللاهوتية والأخلاقية على حدّ سواء. فبينما يرى الغنوصيون أنّ المادة هي أصل الشرّ والخطيئة في العالم، يعلّم إكليمنضس أنّ الشرّ هو نتيجة حتمية لتصرّفات المرء الشاذّة، ويردف أنّ الخطيئة هي رفض الإنسان الله ومخططه الخلاصي. ويتّفق إكليمنضس مع راعي هرماس على أنّه ليس سوى توبة واحدة بعد المعمودية، فإذا صدف أنّ خطئ الإنسان بعد عماده، فعليه أن ينتظر رحمة الله الوافرة (32) .
د - الزواج والبتولية :
إنّ أجمل ما فاضت به قريحة إكليمنضس ما قاله عن الزواج والبتولية، مجارياً بذلك أعظم اللاهوتيين المعاصرين. فهو يعلّم أنّ الزواج سرّ شريف ومقدّس، يشترك فيه الإنسان مع الله بالخلق للحفاظ على الاستمرارية في الحياة. وهو بذلك ينافي تعليم الغنوصيين الذين يحطّون من قدر الزواج وأهميّته. يقول: "في الزواج يمسي الإنسان صورة الله بقدر ما يتعاون معه في خلق الإنسان" (33) . على أنّ الإنجاب ليس الغاية الوحيدة للزواج، فالحب والانتباه المتبادلان يشكّلان أيضاً دعامة راسخة لا تلتوي. وهنالك تشبيه رائع ورد في الجزء الثالث من كتاب "البُسُط" يعطينا صورة جليّة عن المكانة التي يتمتّع بها سرّ الزواج في نظر إكليمنضس. فقد رأى في قول السيّد، إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه فإنّه يكون بينهم، إشارة إلى الزواج. فالاثنان هما الزوج والزوجة، والثالث هو الولد الذي يربط بينهما (34). لذلك فإنّ الزواج ليس في العلاقة الجنسية وحسب، بل إنّما هو علاقة روحية بين الرجل والمرأة. وهذا ما حمل إكليمنضس على رفض كل زواج بعد الزواج الأوّل.
أمّا عن البتولية فيقول إكليمنضس: "نحن نشيد بالبتولية وبالذين حصلوا عليها من الله" (35)، "لأنّ من يعيش وحده ليخدم الله ينال مجداً سماوياً" (36) . ولقد اختار هو أن يكون بتولاً "حباً بالله". إلاّ أنّه حين يفاضل بين البتولية والزواج يقرّ بأنّ المرء المتزوّج يفوق البتول في أمور كثيرة.
خاتمة
إن اكلمنضس الإسكندري وجه آخر لمحبي جعل الإيمان المسيحي لا يتناقض مع "المعرفة" والعلم في عصره. وما تبوءه عمادة مدرسة الإسكندرية إلا علامة عمليّة لهذه النظرية. قد لا نفهم أفكاره تماماً، أسوة بغيره من الآباء، ولكننا في مشروع رغبتنا التعبير عن الإيمان بلغة الواقع والعصر، تدفعنا هذه المنهجيّة إلى التشبّه به، وبأمثاله.
1 - حياته :
ولد أوريجانوس في الإسكندرية من والدين مسيحيّين تقييّن سنة 185. ونشأ منذ طفولته على حبّ المطالعة، فشغف بالكتاب المقدّس حتى الولع. فكان والده يطلب منه أن يحفظ كلّ يوم قسماً يحدّده له، يؤدّي عنه حساباً عند المساء (37)، كما كان ينحني على صدره بينما يكون نائماً ويُقبله لأنه يعتبره "هيكلاً ممتازاً للروح القدس، معتبراً نفسه أنه تبارك بذريّة صالحة" (38).
تاق أوريجانوس إلى الاستشهاد منذ صغره. فحدث في إثر الاضطهاد الذي شنّه الإمبراطور سبتيموس ساويروس على المسيحيين (39) أن سيق والده ليونيداس إلى العذاب. فعصفت في نفس الصبي نار الشوق إلى الاستشهاد. وكانت والدته تحضّه لكي يشفق على أمومتها، فأبى أن يصغي لتوسّلاتها وهمَّ بالذهاب لملاقاة أبيه، فعمدت إلى إخفاء ثيابه وأجبرته هكذا على البقاء في البيت (40) . بيد أنّه لم يقف مكتوف اليدين، بل بعث إلى والده برسالة يحثّه فيها على الاستشهاد قائلاً: "إحذر أن تبدّل موقفك من أجلنا" (41) .
عيَّنه ديمتريوس، أسقف الإسكندرية آنذاك، على الرغم من حداثة سنّه، رئيساً على مدرسة "التعليم المسيحي" الكرازيّة (Ecole catéchétique) ليدير شؤونها، فذاع صيتها في جميع أرجاء البلاد (42). يقول العلاّمة أوسابيوس المؤرخ في كتابه الشهير "التاريخ الكنسي" عنه: "كان له من العمر 18 سنة عندما أوكلت إليه مدرسة الكرازة.. وللحال ترك تدريس علوم الصرف والنحو.. وتخلّى عن كلّ ما كان في حوزته من الكتب القديمة التي كانت منسوخة نسخاً رائعاً .. (43)
اكتفى بالضروري من مستلزمات العيش. وتخلّى عن ممتلكاته ولم يستبقِ إلاّ القليل من ثيابه، وعاف السرير مؤثراً النوم على الأرض. وكان يقضي معظم لياليه في درس الكتب المقدّسة (44).. ويكرّس بدون تردّد كل أوقات فراغه لدراساته المتنوّعة ولكلّ الذين يأتون إليه فكان يهيئهم إما للمعموديّة وإما للاستشهاد (45).. فثار غضب الوثنيين والمدينة كلها لم تكن كافية لتُخبّئه...
لقد حمل أوريجانوس الناس على الإقتداء به، بنوع خاصّ بأعمال حياته، بفضل القدرة الإلهيّة التي كانت تحييه"(46). كما اهتمّ بمتابعة تدريسه علوم عصره، وكان يؤم هذه المدرسة، إضافة للمسيحيين، الوثنيون والهراطقة، وكانوا جميعاً "يعدّون هذا الرجل فيلسوفاً عظيماً" (47).
قام بإخصاء نفسه، مطبقاً كلام الإنجيل حرفيّاً (48) على خلاف عادته في التفسير الرمزي الذي اشتهرت به مدرسة الإسكندريّة.. ربما فعل ذلك لدرء التجارب التي كانت تعكّر صفوه خصوصاً بوجود الكثير من تلاميذه من النساء، أو ربما رغبةً منه في الكمال والبلوغ إلى درجة أسمى من القداسة.
استاء البطريرك ديمتريوس من فعله هذا، فكتب إلى الأساقفة في جميع أنحاء الإمبراطورية ناعتاً أوريجانوس بالطيش وعدم الرويّة. أمّا أسقفا أورشليم وقيصرية فاعتبراه خليقاً بأعظم درجات الإكرام والسموّ. بيد أنّ أوريجانوس نفسه اعترف في السنين اللاحقة بخطئه وندم عليه طيلة حياته. ومهما يكن من أمر هذه الحادثة، فإنّها تشير بوضوح تامّ إلى أنّ أوريجانوس كان يعيش بمقتضى التعاليم الإلهية قبل أن يعلّمها (49) .
وإبّان إقامته في الإسكندرية أرسل حاكم بلاد العرب (حوران) في طلبه ليلقّنه أصول الديانة المسيحية، فلبّى النداء على جناح السرعة وأتمَّ مهمّـته في وقت وجيز. وفي طريق عودته إلى الإسكندرية عرّج على فلسطين، فرسمه أسقف أورشليم كاهناً، لما رأى فيه من رفعة الخلق وسموّ الفضيلة. غير أنّ هذا العمل لم يرق بطريرك الإسكندرية، فعقد مجمعاً محلياً قرّر فيه تجريد أوريجانوس من رتبته الكنسية لأنّه رسم على يد أسقف لا سلطان له عليه، ولأنّه خصى نفسه، ولأنّ أفكاره اللاهوتيّة كانت غامضة وغير مطابقة لتعليم الكنيسة، على حدّ تعبيره. فلجأ أوريجانوس إلى فلسطين بعد هذا القرار، فاستقبله أسقف قيصرية، فأنشأ فيها مدرسة لاهوتية عظيمة وتتلمذ له كثيرون من بينهم غريغوريوس العجائبي وأخوه أثينورس (50) . ولمّا عزل ديمتريوس عن كرسي الإسكندرية خلفه بريكلاس، فرفع الحرم عن أوريجانوس، وطلب منه العودة إلى الوطن، لكنّه آثر البقاء في فلسطين صارفاً بقيّة حياته في التعليم بالمدرسة التي أنشأها.
سيق إلى السجن في عهد الإمبراطور داكيوس الدموي (251 – 253) ، فتحمّل عذابات كثيرة، ولم يُرَد قتله لينتزعوا منه جحوداً علنيّاً ليذلّوا المسيحيين بهذا الجحود فلم يستطيعوا.. ولكن صحته تدهورت كثيراً بسبب هذا الاضطهاد إلى أن مات في مدينة صور وهو في السبعين من عمره، سنة 253/254 على الأرجح (51) وبقي ضريحه معروفاً في المدينة حتى القرن الثالث عشر (52) .
2 - مؤلفاته :
لم تعرف المسيحية في تاريخها كاتباً غزير الإنتاج مثل أوريجانوس. فقد طرق كل المجالات الفكرية من شرح للكتاب المقدّس وتفسير للعقائد المسيحية ودحض للبدع الشاذّة وغيرها من المواضيع المختلفة. يعزو أبيفانوس أسقف سلمين (53) إليه ستة آلاف مجلّد وأوسابيوس يشهد بألفين كتاب. بيد أنّ هذه الأرقام الخيالية تبقى موضوع تساؤل، لاسيّما أنّ المجلّدات في العصور الغابرة يختلف كليّاً عن تحديدها الحاضر. فالكتابة آنذاك كانت تتمّ على نوع من الرقّ لا يتجاوز طوله المترين. وعلى كلّ حال فإنّ أكثر من نصف مؤلّفات أوريجانوس فُقد، لاسيّما من جرّاء الأحكام التي فرضت عليه في المجمع القسطنطيني الثاني (553). يقول أوسابيوس: "كتب أوريجانوس تفسيراً لأشعيا وتفسيراً لحزقيال في الحقبة نفسها. ومن هذه التفاسير وصلنا ثلاثون كتاباً عن أشعيا ... وخمسة وعشرون عن حزقيال .. وإبّان ذهابه إلى أثينا أنجز تفسير حزقيال، ثمّ شرع في دراسة سفر نشيد الأناشيد فكتب عنه عشرة" (54) .
يمكننا تصنيف مؤلفاته على النحو التالي:
أ - المؤلّفات الكتابية :
لم يترك أوريجانوس سفراً من الكتاب المقدّس إلاّ وأنعم فيه درساً وتمحيصاً. ولقد حصلنا على قائمة واضحة بكتبه في هذا الحقل، من الكتاب السادس لأوسابيوس المؤرخ في "تاريخه الكنسي". أمّا أهمّ كتاب تركه فهو بلا منازع " السداسي " (55).
1) "السداسي" Exapla Vivlia :
بدأ أوريجانوس كتابة هذا المؤلَّف سنة 212 ولم ينته من إنجازه إلاّ سنة 243، وقد أسهم أمبروسيوس أحد تلاميذه المرتدّين (56) في سدّ نفقات القسم الأكبر منه.
قسَّم أوريجانوس كتابه إلى ستة أعمدة متوازية، يحوي العمود الأوّل نصّ العهد القديم بالعبرية، والثاني النصّ العبري ولكن بحرف يوناني، والثالث الترجمة اليونانية المنسوبة إلى أكويلا (57)، والرابع ترجمة يونانية المنسوبة إلى سيماخوس (58) ، والخامس الترجمة السبعينية، والسادس الترجمة اليونانية المنسوبة إلى تيودوتيون اليهودي(59) . وقابل أوريجانوس هذه النصوص بعضها ببعض مركّزاً خصوصاً على العمود الخامس ومصححاً الترجمات الردئية.
يهدف الكتاب إلى عرض نصّ مضبوط للترجمة السبعينية التي كانت تعدّ ملهمة في ذلك الحين (60) ، وله منزلة خاصة في الأوساط العلمية لأنّه أوّل محاولة جريئة لضبط نصوص العهد القديم على أساس منطقي سليم، وقد فتح أمام علماء الكتاب المقدّس آفاقاً واسعة خصوصاً في ما نسمَّيه اليوم بالأناجيل الإزائية Synoptique.
لم يبق من هذا المؤلَّف الضخم إلاّ اليسير. ولقد استعان به القديس ايرونيموس في ترجمته اللاتينيّة للكتاب المقدّس المعروفة باسم "الشعبية" (Vulgata).
2) العظات والتفاسير الكتابية:
إلى جانب "السداسي" ترك أوريجانوس مخطوطات متنوّعة حول الكتاب المقدّس، جاءت إما شرحاً للمقاطع الصعبة Scholia، وإمّا وعظاً Omilia، وإمّا تفسيراً Ermyneia.
لم يبقَ إلاّ بعض النُتَف الضائعة من السخوليات في كتاب "الفيلوكالية" الذي نسّقه ورتّبه في ما بعد القدّيس باسيليوس الكبير مع صديقه القدّيس غريغوريوس النازيانزي (61) . أمّا العظات فقد حفظ منها قسم لا بأس به وهي على النحو التالي: 20 عظة عن إرميا، واحدة عن صموئيل، 13 عن سفر الخروج، 16 عن سفر التكوين، 16 عن سفر الأحبار، 22 عن سفر أيّوب, وأمّا المؤلّفات التفسيرية فقد ترك أوريجانوس منها 25 تفسيراً لإنجيل متى لم يبق منها إلاّ 8، و 32 تفسيراً لسفر يشوع بن نون لم يبق منها إلاّ 8 (62) .
ب - المؤلّفات اللاهوتيّة :
يتفرّد أوريجانوس في مؤلّفاته العقائدية بأنّه أقدر لاهوتي أقحم الفكر المسيحي في قالب منهجي منظّم، مكمّلاً ما بدأه كل من القديسين يوستينوس وإيرناوس واكلمنضس الإسكندري، وسابقاً القدّيسين يوحنا الدمشقي (749) وتوما الاكويني (1274) بأجيال. ومن المؤلّفات المهمّة التي خلّفها في هذا الحقل نذكر "الرد على كِلْسُ" و"حول المبادئ" و"الحوار مع هراقليذس" و"حول القيامة" و"كتاب البسط"..
1) "الردّ على كِلْسُو" (63) Kata Kelsou :
تجرّأ أحد المفكّرين الوثنيين يدعى كلس فنشر كتاباً ضدّ المسيحيين عنوانه "اللوغوس الصادق" في عام 180 ، لبث فترة طويلة مجهولاً في الأوساط المسيحية إلى أن تنبّه لخطره أمبروسيوس أحد تلاميذ أوريجانوس، فحثّ معلّمه بإلحاح على الردّ عليه، على حسب ما ورد في المقدّمة، لتلافي كلّ ضرر ممكن في المستقبل: "عندما شهد شاهد الزّور على مخلّصنا وربّنا يسوع المسيح لزم الصمت. وعندما أتّهم باطلاً لم يجب بشيء. لقد كان مقتنعاً أنّ كلّ حياته وأعماله بين اليهود أفضل من أيّ كلام لدحض شهادة الزور وأسمى من أيّ كلام يقوله للردّ على الاتهامات. ولست أدري يا أمبروسيوس المحبّ لله لماذا تريدني أن أكتب للردّ على اتهامات كلس الباطلة التي وردت في كتابه ضدّ المسيحيين وضدّ إيمان الكنيسة..." (64) .
اتبع كلسُ في كتابه مبدأ التهكّم على المسيحيين. يقول: "ليرجع المسيحيون إلى طرقهم القديمة ويكّفوا عن اتّباع هذه السخافة التي اخترعت حديثاً وهي عبادة يهودي صلب في ظروف مشينة. ليرجعوا إلى العبادة، عبادة الآلهة الكثيرة، إلى عادات آبائهم. إنّ المسيحية بدعة حديثة وخطرة، وإن لم توقف أضحت نكبة على الإمبراطورية الرومانية" (65) .
ردّ أوريجانوس على هذا التهكّم الساخر مفنّداً آراء كلس واحدة واحدة، وداحضاً أقواله الكاذبة عن المسيح وأتباعه. وقد ردّد في كتابه أكثر من مرّة أنّ رسالة المسيح ستبقى عرضة للاتهامات لأنّ الشرّ لم يندثر بعد نهائياً من العالم، يقول: "على كل حال، إنّ يسوع معرَّض لشهادات الزور في كل الأوقات. وطالما أنّ الشرّ باقٍ في العالم فهو معرّض للاتهامات بصفة دائمة. وعلى الرغم من ذلك فإنّه يبقى صامتاً أمامها دون أن يقدّم إجابة مسموعة، واضعاً دفاعه في حياة تلاميذه الحقيقيين. وهذه الحياة تعتبر شهادة سامية جدّاً تسمو فوق كلّ شهادة زور وتفنّد وتهدم كلّ الهجمات وكلّ التّهم التي لا أساس لها" (66) .
2) "حول المبادئ" (67) :
يعالج أوريجانوس في مؤلّفه هذا أربعة مواضيع رئيسة هي تساؤلات يطرحها كلّ إنسان يبحث عن الحقيقة: الله والعالم والحريّة والوحي.
يبدأ أوريجانوس كتابه بمقدّمة تعرّف عن أنّ المصدر الرئيس لكلّ معرفة دينية هو يسوع المسيح ورسله. يقول: "إنّ كلّ الذين يؤمنون ويعتقدون أنّ النعمة والحقيقة تنجمان عن يسوع المسيح، وأنّ المسيح هو الحقيقة بالذات بحسب تأكيده الثابت "أنا الحق"، لا يبحثون عن حقيقة الفضيلة والسعادة في موضع آخر بل في كلام المسيح وعقيدته" (68) . وبعد التشديد على شخص المسيح كمصدر لكلّ حقيقة، يتابع أوريجانوس بحثه معلناً أنّ كلّ الذين يؤمنون به لا يتّفقون على إيمان واحد، خصوصاً في المعضلات الصعبة. لذلك ينصح الجميع بالعودة إلى الينابيع الرسولية والتقليد الكنسي. وهنا يبتدع علامتنا منهج التساؤل الذي بواسطته يفتتح باب النقد اللاهوتي والكتابي: "ينبغي أن نفقه أنّ الرسل القدّيسين بينما كانوا يبشّرون بالمسيح أوضحوا للمؤمنين... بعض الحقائق الضرورية... أمّا الباقي فقد اكتفوا بتأكيده من دون أن يتطرّقوا لا إلى الـ"لماذا" وإلى الـ"كيف"، مفسحين في مجال العمل بدون شكّ لهواة العلم والحكمة في القرون اللاحقة" (69) .
بعد أن حدّد أويجانوس الخطّة التي سوف ينتهجها في بحثه اللاهوتي انتقل إلى معالجة المواضيع الأربعة في أربعة كتب:
ففي الكتاب الأوّل يتطرّق إلى وحدانية الله والأقانيم الثلاثة وعلاقتهم المتبادلة حيال الخليقة. فالآب يملك على كل الخلائق، والكلمة على الكائنات العقلية أو النفوس، والروح القدس على الكائنات العقلية والمقدّسة. ومن ثمّ ينتقل إلى مسألة سقوط الملائكة، وخصوصاً فكرة الإصلاح النهائي.
وفي الكتاب الثاني يشرح أوريجانوس قصّة خلق العالم وسقوط الإنسان. فالإنسان هو ملاك ساقط حكم عليه أن يسجن في الجسد لوقوعه في الخطيئة، بيد أنّ المسيح سوف يخلّصه من السجن والظلمة.
أمّا في الكتاب الثالث فيعالج مواضيع أخلاقية مشدداً على موضوعي الإرادة والحريّة، ومنتقلاً من ثم إلى مسألة إصلاح الله لصورة الإنسان الأصلية.
وأخيراً يشدّد أوريجانوس في الكتاب الرابع على أهميّة الكتاب المقدّس وكيفية وحيه، معتبراً إيّاه المصدر الأوّل لإيماننا.
3) "الحوار مع هراقليذس" :
تتحدّث قصة الكتاب عن استدعاء أوريجانوس إلى بصرى، وكان راعيها الأسقف هراقليذس، للنقاش معه بسبب انتشار بدعة جديدة عرفت بالمونارخية، في بلاد العرب، في القرنين الثاني والثالث، وبالتحديد في بصرى – حوران، غاية هذه البدعة التأكيد على وحدانية الله. ولقد جرى نقاش بينه وبين الأسقف في الكنيسة على مرأى من الأساقفة والكهنة والشعب واتّفق الاثنان في نهاية الحوار على القول بإلهين وبقدرة واحدة (70).
بقي هذا الكتاب ضائعاً إلى أن اكتشف في طرّة بمصر 1941، وترجع المخطوطة إلى القرن السادس.
ت - المؤلّفات الروحية :
إلى جانب المؤلّفات الكتابية والدفاعية والعقائدية ترك أوريجانوس مؤلّفات روحية مهمّة أسهمت كثيراً في إحياء الحياة الروحية في الأوساط الشعبية والرهبانية على حدّ سواء. نذكر الأهم:
1) " في الصلاة " :
كتب أوريجانوس مؤلّفه هذا بناء على طلب من صديقه أمبروسيوس وهو يحتوي على موضوعين، الأوّل يدور حول الصلاة بشكل عام والثاني يتضمّن شرحاً للصلاة الربيّة (الأبانا).
يبدأ أوريجانوس كتابه مبيّناً أنّ ما يستحيل على الطبيعة البشرية يضحي ممكناً بواسطة نعمة الله ومعونة المسيح والروح القدس. ثم يتابع بحثه معلناً أنّ غاية الصلاة في النهاية هي الدخول في شركة مع روح الرب المالئ السماء والأرض، للإطلاع على جماله الإلهي. أخيراً، في الجزء الثاني، يسترسل في تفسيره "الأبانا"، فيقول: "إنّ الذين حصلوا على روح التبنّي يمكنهم وحدهم بحقًّ أن يصلّوا هذه الصلاة، شرط أن يبرهنوا بأفعالهم أنّهم أبناء على صورة الله" . (71)
2) " رسالة في التحريض على الاستشهاد " :
يدعو فيها كلّ مسيحي ملتزم إلى التمسّك بإيمانه حتى ولو أدّى إلى الاستشهاد.
3) " رسالة إلى تلميذه غريغوريوس العجائبي " :
يحثّه فيها على الأخذ من الفلسفة اليونانية بما هو مفيد للمسيحية، مع التشديد على أوّلية الأسفار المقدّسة كمرجع أوّل لكلّ مسيحي.
4) " رسالة إلى يوليوس الأفريقي " :
هي دراسة عن قانونية بعض الفصول اليونانية من سفر دانيال النبي، كنشيد الفتية الثلاثة في الأتون (3:24 – 49) وغيرها...
3 - تعاليمه :
يبقى أوريجانوس، في غزارة كتاباته المتشعّبة، معلّم الكنيسة على مدى الأجيال، فالمجالات التي تطرّق إليها تخوّله بحقّ أن يكون في طليعة أصحاب الفكر المسيحي، ممّا جعل المفكّرين والكتّاب المسيحيين في القرون اللاحقة يتسارعون لينهلوا من معينه الصافي، لاقتناعهم بغنى عبقريته ورجاحة حكمته. وإنّه ليصعب علينا في هذه العجالة أن نفيه حقّه، لذا سنحاول أنّ نطّلع باقتضاب على ما جاد به فكره.
أ - علوم الكتاب المقدّس :
تأثّر أوريجانوس بطريقة الفلسفة الأفلاطونية في تفسير النصوص الرمزيّة الأليغورية Allégorique الرائجة في عصره. التي أبدع فيها الفيلسوف الكبير فيلون الإسكندري اليهودي الذي لقب بـ"أفلاطون اليهود" (72) ، مبتكراً "علم التأويل".
لقد طبعت الأليغوريّة والتأويليّة مجمل مؤلّفات أوريجانوس. ففي تفسيره للكتاب المقدّس استعار تحديد أفلاطون للكائن البشري المركّب من ثلاثة عناصر، الجسد والنفس والروح، وطبّقه عليه بقوله إنّ للكتاب المقدّس طبقات عدّة للفهم، أو هناك ثلاثة مفاهيم له: المفهوم الحرفي (الجسدي)، والمفهوم الأخلاقي (النفسي)، والمفهوم الروحي الذي يفضي بنا إلى فهم الأسرار المسيحية العويصة.
هذه المفاهيم الثلاثة تشبه إلى حد كبير الطباع البشرية وقد قسمها أوريجانوس ثلاث فئات: البسطاء الذين يفهمون الكتاب المقدّس بحرفه، والمقدّمين الذين يذهبون إلى أبعد من النص الحرفي مستندين إلى استعارات ورموز أدبية، والكاملين الذين يلجون في تفسيرهم إلى جوهر النصوص وأبعادها الروحية.
بهذا التفسير الجديد للكتاب المقدّس قلب أوريجانوس مفهوم التفسير الكتابي رأساً على عقب، فاتحاً أمام الأجيال المسيحية آفاقاً واسعة لا تحد. ولا عجب، فالمفهوم التاريخي لأحداث الكتاب المقدّس ليس إلاّ خطوة أولى نحو صميم الحياة الروحية، غاية كلّ مسيحي.
"عندما يتوّجه إلينا كلام الله، لابدّ لنا، لنستطيع أن نفهمه، من الصلاة وطلب نعمة الإصغاء.. "ولا يرفع البرقع إلا متى رجعوا إلى الرب" (2كور3/16): فالانتقال من الحرف إلى الروح، في نظر أوريجانس، يتمّ في الوقت عينه في التاريخ وفي داخل كلّ نفس. إن مجيء المسيح قد أعطى العهد القديم معناه، وحركة التوبة تزيل عنّا البرقع. فإن فهم الكتاب المقدّس لا يُعطى لحذاقة الفكر بل لنقاوة القلب"(73) . يقول: "ارتكز أولاً في قراءة الكتب المقدّسة على مبدأي الإيمان وقصد إرضاء الله، والأشد ضرورة للفهم إنما هي الصلاة" (74) .
يستعير أوريجانوس فكرة "الصيرورة" من الفلسفة، الهيراقليطيّة خصوصاً، ليُطبقها على "الفهم المتدرّج" للكتاب المقدس.. هناك "عبور في الفهم من الحرف إلى التاريخ ومن التاريخ إلى الروح. "الأعمال التي يذكرها لنا الإنجيليون، يريد المسيح أن يجعل منها رموزاً لما يقوم به من أعمال روحيّة فينا" (75).
يركّز أوريجانوس على أن أهميّة القراءة المتكرّرة لنصوص الكتاب المقدّس تكمن في تطبيقها على واقع الحياة الآنية التي تسير في صيرورة" وتغيّر، ما سميّ اليوم في علم التربية المسيحية "التأوين" Actualisation: "إن ميلاد يسوع وتربيته وقدرته وآلامه وقيامته، لم تحدث في الزمن المعيّن فحسب، بل تعمل فينا اليوم أيضاً"(76) ... "عليك أن ترى في الإنجيل يسوع يشفي كل سقم ومرض، ليس في الزمن الذي صنع فيه هذه الأشفية بحسب الجسد وحسب، بل اليوم أيضاً؛ وتراه لا ينزل إلى البشر في ذلك الزمان وحسب، بل اليوم أيضاً، حيث هو حاضر، كما قال: ها أنا ذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (77).
ب - الثالوث الأقدس :
تضاربت الآراء حول مفهوم أوريجانوس لسرّ الثالوث الأقدس، فمنهم من جاراه في أفكاره حتى النهاية، ومنهم من شجبها جملة وتفصيلاً، ومنهم من أخذ عليه انغماسه في مبدأ التبعية أو الثالوث المتدرّج المتأثر بالمونارخيّة، على الرغم من تشديده على المساواة في الجوهر بين الآب والابن. فالآب هو القائم الأوّل بذاته والخير المطلق، والكلمة الابن هو ثان وصورة لهذا الخير، والروح القدس أدنى مرتبة من الابن. لاشك أن الأفلاطونيّة واضحة في هذه المفاهيم. التي تنافي كلّياً تعليم كنيسة المجامع المسكونية، ولكن لا يغب عن بالنا أنّ العقيدة المسيحية في تلك الآونة كانت تتلمّس طريقها لتجد صيغة تسبك فيها الأسرار المسيحية على أساس سليم.
ت - اللوغس :
المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان: "لمّا كانت طبيعة الله لا تتمازج مع جسم بدون أداة وسيطة، وكانت مادة روح يسوع وسطاً بين الله والجسد، ولد الإله – الإنسان"(78) . هكذا تفرّد أوريجانوس دون سواه باستعمال لفظة واحدة إله – إنسان Theanthropos وأطلقها على المسيح. كما أنّ معظم المصطلحات الخريستولوجية اليونانيّة الشائعة من ابتكاره: "طبيعة"، "أقنوم"، "جوهر"، "مساوٍ في الجوهر"، و"ثالوث" . ولقد لعبت هذه المصطلحات دوراً مهمّاً في النقاشات اللاهوتية الحادّة في المجامع المسكونية خلال القرنين الرابع والخامس.
ث - الأنثروبولوجية والإصلاح الأخير :
لا يختلف أوريجانوس عن الأفلاطونيّة في مفهومه حول الإنسان كثيراً من حيث هو جسد ونفس وروح، لا بل أعطى المعنى المسيحي لهذا المفهوم، خصوصاً عندما يتكلّم عن فكرة الإصلاح النهائي للعالم Apokatastsis.
لقد اعتبر أنّ كل شيء في العالم له حدود ما خلا الله. وبما أنّ الشرّ هو عنصر من عناصر العالم فهو زائل لا محالة، أضف إلى ذلك أنّ الشرّ يتنافى وإرادة الله مصدر كلّ خير وكلّ صلاح (79).
يعلّم أوريجانوس، على ضوء هذا المبدأ، أنّ الكائن البشري مدعوّ برمّـه إلى الخلاص الشامل، لاقتناعه بأنّ محبة الله تعلو سخافات البشر وتفاهاتهم. لإنه من غير المعقول أن يبقى الشرّ إلى الأبد ما دام الله هو الأبدي، لا بدّ للشرّ أن يزول. وبما أن العذاب شرّ، لا بدّ بدوره أن يزول أيضاً، لكي لا يبقى ألا الخير الذي مصدره الله نفسه. وبالتالي لا يوجد عذاب أبدي للإنسان.
إنّ نظرية أوريجانوس عن "الإصلاح الأخير" مرتبطة بنظرية الوجود السابق للنفس. فالنفس كائن روحي، حكم عليها بأن تعيش معذّبة في جسد بشري لانغماسها في الشرّ والخطيئة. ويوضح أوريجانوس أن لفظة نفس Psychi مشتقة من فعل Psychesthai الذي يعني البرد. فالنفس مع الأيّام بردت حيويتها فوقعت في الشرّ (80). فالإصلاح النهائي هو إذاً إعادة الصورة القديمة للنفس إلى أصلها بمعونة المسيح مخلّص العالم.
لكي تتخلّص النفس من الخطيئة، حسب أوريجانوس، ولكي تحصل على التنقية ينبغي لها أن تتوجّه بعد الموت إلى مكان التنقية Katharsis، فترتقي سلّم الكمال درجة درجة حتى تتّحد بالله بعد أن تكون قد تنقّت كلّياً. ويضيف أوريجانوس أنّ هذا الإصلاح لا يعني مطلقاً نهاية العالم، فقبل عالمنا كان يوجد عوالم أخرى، وسوف تظهر بعده عوالم غيرها.
لم تلق فكرة "الإصلاح النهائي" ترحيباً واسعاً في الأوساط الفكرية المسيحية، خصوصاً فكرة عودة الأنفس الساقطة إلى حالتها السابقة. رغم أن بعض الآباء اللاحقين قد تبنّوا فكرة الإصلاح النهائي كالقديس غريغوريوس النيصي (القرن الرابع) شجبت الكنيسة في المجمع المسكوني الخامس (553) الفكرة كلّياً والحكم عليه وعلى أتباعه: "إنّ كلّ من يعلّم وجوداً سابقاً وميثولوجياً للنفوس، يكون الإصلاح النهائي نتيجته، يحرم من الكنيسة" (81).
ج - مريم العذراء :
إنّ أوريجانوس أول من أطلق تعبير Theotokos "والدة الإله" على مريم العذراء. وقد رافقت هذه التسمية معظم الكتّاب الاسكندرانيين ودافعوا عنها خصوصاً في مجمع أفسس (431) الذي رأسه القديس كيرلّس الاسكندري.
ومريم هي أيضاً "أمّ المؤمنين" جميعاً. ففي تعليقه على إنجيل يوحنا يعلن أوريجانوس: "لا أحد يمكنه فهم الإنجيل [إنجيل يوحنا] إلاّ إذا اتّكأ على صدر يسوع وقبل مريم أمّا له" (82) .
ح - الكنيسة :
يحدد أوريجانوس، على غرار بولس الرسول، أن الكنيسة هي جسد المسيح المنظور. فكما أنّ الروح يسكن في الجسد، هكذا يسكن الكلمة – المسيح في الكنيسة جسده السرّي (83). يعلن، في إحدى عظاته عن كتاب إرميا النبي مستعيراً التعبير الأفلاطوني، أنّ الكنيسة هي "مدينة الله" على الأرض، تعيش جنباً إلى جنب مع الدولة، ولكن سوف يأتي يوم تتغلب فيه عليها بمعونة المسيح.
خ - الخطيئة الأصلية والمعمودية :
يعلّم أوريجانوس أنّ جميع الناس خطأة، وأنّ الخطيئة هي نتيجة اتصال النفس بالجسد الفاسد. لذلك فهو أول من بدأ تعليم مفهوم "الخطيئة الأصلية" الذي تبلور مع أغسطينوس في القرن الرابع . لذلك هناك ضرورة للمعمودية منذ الطفولة لمحو هذه الخطيئة. وبواسطتها يحصل المعتمد على غفران الخطايا ، وعلى الولادة الجديدة بالمسيح. وإذا اتّفق أن وقع المعتمد في الخطيئة يمكنه أن ينهض من جديد إذا استعاض ببعض الوسائل الأخرى كالاستشهاد والصدقة والصلاة والتوبة (84).
د - التوبة :
بقي سرّ التوبة في تاريخ الكنيسة موضوع جدل ونقاش حادّ بسبب الغموض الذي كان يكتنفه. فالتيار السائد آنذاك كان يميل إلى عدم تجديد سرّ التوبة، على اعتبار أنّ المسيحي قد استنار وتنقّى من خطاياه في المعمودية فلا يجوز له أن يسقط في الخطيئة من بعد. لكنّ المبدأ شيء والواقع شيء آخر. فقد ظل المسيحيون بعد المعمودية يخطئون ويتصرّفون كباقي الشعوب، فهل يجوز أن يقبعوا في خطيئتهم من دون أن يحصلوا على الغفران؟
لم يكن أوريجانوس بعيداً عن فكرة معاصريه، إلاّ أنّه كان يجيز للخاطئ أن يقرّ بخطاياه أمام الأسقف على مرأى من الجميع، شرط أن يمضي وقتاً في الصوم والتقشّف يحددّها الأسقف نفسه (85).
لقد ميّز أوريجانوس بين الخطايا العرضية التي يسهل محوها بواسطة الصلاة والصوم، والخطايا الرئيسية الثلاث، الجحود والقتل والزنى، التي يمكن محوها مرّة واحدة في الحياة فقط. إلاّ أنّ هذه التشدّد حمل الكنيسة في القرون اللاحقة على اتّباع خطّ معتدل يتناسب وحاجة المؤمنين.
ذ - الإفخارستيا :
يشدّد أوريجانوس على الحضور الفعلي للمسيح في الخبز والخمر في سياق الحديث عن ذبيحة الشكر: "إنّنا نشكر الخالق على كل شيء، متناولين الخبز الذي قدّم إلينا في الشكر والصلاة، لأنّه أضحى بالصلاة جسداً مقدّساً يقدّس الذين يتناولون منه عن استحقاق" (86).
يشدّد أوريجانوس حول أهميّة الفعل الأسراري في الإفخارستيا على أمرين هما: "كلام الرب" و"حلول الروح القدس". وبذلك يجمع بين مفهوم يوستينوس وإيرناوس حول ذلك كما رأينا في حاشية سابقة.
ر- المعلّم الروحي :
إنّ الغرض الأوّل من كلّ تعليم لاهوتي وتفسيري، في رأي أوريجانوس، هو الدخول في شركة روحية وعميقة مع المسيح. ولقد رسم المراحل التي ينبغي أن يتبعها كلّ مسيحي ليحصل على هذه الشركة.
إنّ درب الكمال في المرحلة الأولى طويل وشاق، لذلك ينصح المؤمن بأن يعرف أوّلاً ذاته معرفة حقيقية. وفي المرحلة الثانية يدعو المسيحيين إلى شنّ حرب متواصلة على الأهواء وكلّ تعلّق دنيوي مفرط، لتفادي الوقوع في الخطيئة. فكلّما سيطر الإنسان على ميوله شعر براحة داخلية تحمله على التعلّق بالروحيات.
كما يحرّض عليها أوريجانوس: السهر والتأمّل العقلي والصوم والقراءة اليومية للكتاب المقدّس. وبذلك كلّه يدخل المسيحي في علاقة حميمة مع الكلمة – المسيح، فيضحي هذا الأخير محور حياته وتفكيره (87).
خاتمة :
لقد حلّق العلاّمة أوريجانوس في جميع الميادين، وطرق أبواب العلم كلّها، وكان انتقائياً في تفكيره ولامعاً في تدريسه. لذلك فهو واحد من قلّة من آباء الكنيسة، كان له، بالرغم مما نسج حوله، ولم يزل، تأثير عميق وواسع.
1 - حياته :
إنه البطريرك العشرون على كرسي الإسكندرية ومعروف بـ"حامي الإيمان القويم". ولد في صعيد مصر حوالي سنة 296 من أبوين مسيحيَين فقيرين. كان والده كاهناً، علّم ابنه روح التقوى والاتضاع. عاش طفولته في مدينة اخيم ويرجح أنه كان يمارس مهنة البناء.
التحق بمدرسة الإسكندرية الشهيرة، وتردد على البادية حيث تتلمذ على القديس أنطونيوس الكبير، كما يشهد هو نفسه قائلاً: "لقد رأيت أنطونيوس مراراً وتعلّمت منه لأنني لازمته زمناً طويلاً وسكبت ماءً على يديه" (88) . وأنهى سنة 313 دروسه اللاهوتية والفلسفة والبلاغة والشعر وعلم القانون الروماني، وألّف كتابين: "ضد الوثنيين" و" تجسد الكلمة" وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره, فلفت انتباه اسقفه الكسندروس لحدة ذكائه وسعة إمكاناته فاهتم بمتابعته عن كثب. فرسمه شماساً عام 319، ثم رئيساً للشمامسة. وجعله البطريرك أمين سرّه، وبادر معه إلى ترتيب أمور الكنيسة التي خرجت من مرحلة اضطهاد الإمبراطور ذيوكليسيانوس، ورافقه إلى مجمع نيقية عام 325، لمواجهة بدعة آريوس.
توفى البطريرك الكسندروس سنة 328، فخلفه تلقائيّاً تلميذه أثناسيوس، فرُسم أسقفاً على الإسكندرية عن يد العديد من الأساقفة وكان عمره لا يتجاوز الثانية والثلاثين. ليبدأ رحلة طويلة وشاقّة مع اتباع آريوس والآريوسيّة المنتشرة بكثافة من جهة، ومن جهة أخرى تدخلات الأباطرة في الشأن الكنسي، وانحياز بعضهم إلى الآريوسيّة. فتعرّض للقسوة والأكاذيب والوشايات والنفي إلى أبعد الأماكن، إذ إنه قضى ما يزيد على الثمانية عشرة سنة في المنفى من فترة اسقفيته التي دامت خمساً وأربعين سنة (328-373) (89) . حيث قام أولاً بمواجهة الآريوسية على عهد الإمبراطور قسطنطين (328-337)، الذي نفاه إلى تريف بفرنسا لمدة 18 شهراً، خوفاً على حياته من تهديدات الآريوسيين، الذين اتهموه باطلاً بأنه منع تأدية ضريبة الحنطة إلى القسطنطينية، بأنه قتل أسقف، وزنى، وقام بتكسير أوانٍ مقدسة… ثم عُزل أيضاً في مجمع أنطاكية سنة 339 على عهد الامبراطور قسطندس الثاني (337- 361)، وعيّن غريغوريوس مكانه فدخل الإسكندرية بالقوة وبمعاونة الجيش إلى الإسكندرية. إذاك توجه أثناسيوس إلى روما ليحظى بحماية البابا يوليوس. ولمّا توفى البابا سنة 350 وأصبح الامبراطور الآريوسي هو الآمر الوحيد عقد مجمعَين في آرل بفرنسا سنة 353 وفي ميلانو بإيطاليا سنة 355 واجبر فيهما الأساقفة الغربيين على توقيع حكم النفي على أثناسيوس مخيّراً إياهم بين النفي والتوقيع.
عاد إلى رعيته بسلام في عهد الأمبراطور قسطندس الثاني (361-373) إلى يوم وفاته سنة 373.
2 - كتاباته : (90)
أسلوبه بسيط، منسّق، منطقي، منظّم، فيه شيء من البلاغة والمنطق.
حاول تحرير اللاهوت من فلسفة أفلاطون، على حدّ قوله، ليبنيه "على تجسّد المسيح".. فكان في هذا الاتجاه متصلّب الرأي.
يكرّر في كتاباته الأفكار والتعابير، فيُبرّر ذلك بقوله: "وجب علينا توضيح المعنى الواحد على وجوه مختلفة، لكي لا يظن بنا أننا تركنا ناحية من النواحي كأننا نتكلم عن عجز وتقصير. لأنه خير لنا أن نتعرّض للانتقاد واللوم بسبب التكرار من أن نترك ناحية كان يجب تفصيلها".
يستخدم "وجوهاً وصوراً مختلفة" من خلال طريقة "التكرار" التي يتبعها، فتبدأ بحلقة صغيرة تضم فكرة رئيسية ثم تتسع الحلقة إلى حلقة أخرى يضيف فيها فكرة أخرى رئيسية، وهكذا حتى يصل إلى نهاية الموضوع، وهذا ما نلحظه بوضوح في كتابه " تجسد الكلمة"...
يمكننا تصنيف كتاباته كما يلي:
أ - عقائدية :
"ضد الوثنيين"، "تجسّد الكلمة" (سنة 318)، "احتجاج ضد الآريوسيين" (351)، "تاريخ الآريوسية"، أربع مقالات "ضد الآريوسية" (358)، "في الثالوث والروح القدس" (365)، بالإضافة إلى رسائل موجهة إلى أساقفة، أباطرة، مجامع، …الخ.
ب - كتابيّة :
"تفسير المزامير"، هو عبارة عن عناوين وشروحات وجيزة تتقدم كل مزمور لتبيّن موضوعه العام.
لديه مقال آخر على "تفسير المزامير" موجه إلى مرسيلّينوس يتمحور حول استعمال المزامير في الصلاة ويؤكد شيوع استعمالها في الكنيسة، لأنها تجمع في إيجاز روح أسفار الكتاب المقدس مع تطبيقها للاحتياجات الروحية، فيقول: "إن ترتيل المزامير ليس بقصد تأثيرها الموسيقي بل ليتمكن المصلّي من التأمل الهادئ في معانيها".
وكتب أيضاً بعض التفاسير على إنجيل متّى وإنجيل لوقا.
ج - روحيّة :
كتب "حياة وسيرة القديس أنطونيوس الكبير" الذي تأثر به كثيراً، وذلك خلال فترات نفيه بين تريف في فرنسا وروما وغيرهما. وحيث نمت صداقات بينه وبين أساقفة الغرب، رأى الفرصة مؤآتية لتعريف الغرب بالرهبنة المصرية، فكتب هذه السيرة التي لقيت إعجابًا منهم.
كتب أيضاً مؤلفات ذكرها المؤرخون القريبون من عصره لكنّها مفقودة: "خطاب بعثه لتعزية العذارى اللواتي أساء معاملتهن الوالي جاورجيوس الآريوسي فلم يسمح بدفن موتاهن"؛ "رسائل فصحية" إلى القديس باسيليوس الكبير.
3 - تعاليمه :
لم يأتِ أثناسيوس بجديد، ولكن مما لا شك فيه أن فكره ومصطلاحاته، بما في ذلك تعبير "المساوي في الجوهر" النيقاوي، متأثّرة بـ"مدرسة الإسكندرية"، التي كانت ولم تزل إلى أيام أثناسيوس وبعده مشبعة من الفكر الأوريجانّي في طُرق البحث والشرح والتحليل، وفي الوقت ذاته كان يصحّح ويقوّم أفكار سابقيه على ضوء الوحي المقدس في الإنجيل؛ فحاول الذهاب من "لوغوس" الفلسفة إلى "لوغوس" إنجيل يوحنا، ومن إله الفلاسفة إلى الله المعتلن في المسيح يسوع. لقد أكد دوماً على الحفاظ على "التقليد والعقيدة والإيمان الذي تركه لنا الرب يسوع وأعلن عنه الرسل وحافظ عليه الآباء". فاستعمل الفلسفة في خدمة اللاهوت لتوضيح العقيدة الإيمانية. إذ إن العقل لوحده لا يستطيع أن يبلغ عمق اللاهوت. وقد دافع بوضوح عن تساوي الابن في جوهر الآب, وتكلّم بوضوح, فاق من جاء قبله, عن طبيعة وولادة الكلمة... فحقق للأجيال القادمة, أساساً راسخاً للعمق اللاهوتي في الخريستولوجيا والثالوث.
أ – الثالوث الأقدس :
يؤكد أثناسيوس أن الثالوث ليس في داخله خالق ومخلوق, بل إنه قوةٌ خالقة. وبهذا يستبعد الفكرة الهلينية التي تؤكد على ضرورة "الوساطة" لخلق العالم. وبذلك فهو يرفض تعاليم آريوس في هذا الموضوع. وبينما يضع آريوس "اللوغوس الكلمة" في دائرة المخلوقات, يضعها أثناسيوس في دائرة الخالق، إنه "مولودٌ غير مخلوق"، وبما أنه "ابنٌ" فهذا بطبيعته من جوهر الآب, وليس من إرادة الآب، لذلك لا نستطيع أن نقول عن الابن أنه مخلوق من قبل الآب، بل هو من جوهر الآب ومولود قبل كل الدهور، إنه إله من إله، نور من نور،... وهذه الولادة مختلفة عن ولادة البشر لأن الله غير متجزئ إنه إله واحد. ولهذا السبب فإن الابن أزلي كأزلية الآب. وبما أنّهما من طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهيّة فإنهما ليسا اثنان عددياً بل واحد في الجوهر، وهو ابنٌ وحيد من طبيعة الآب، ولذلك قال يسوع: "أن الآب أعظم مني"، لأنه وَلَدَ الكلمة قبل الدهور... فالكلمة إذن, كما شهد مجمع نيقيا, من جوهر الآب, ومساوٍ للآب في الجوهر (Omo-ousios)...
ب - الخريستولوجيا والخلاص :
لم يمنع تركيز لاهوت أثناسيوس على علاقة الآب والابن, من أن يهتم أيضاً بقضايا خريستولوجيّة. ورغم أنه كان يؤكد على اختلاف جوهر الطبيعة الإلهية عن جوهر الطبيعة البشرية, فقد كان يؤكد أيضاً على وحدة شخص المسيح. فكل ما فعله السيّد لكونه إلهاً وكونه إنساناً ينبع من شخصٍ واحد.
إن المخلص كان دوماً إلهاً وابناً بما أنه الكلمة, بهاء وحكمة الآب, وبعد ذلك ومن أجل خلاصنا, أخذ جسداً من مريم العذراء, والدة الإله, وصار إنساناً.. إنّ جذور "الكلمة" عند أثناسيوس هي في المخطط الإلهي الخلاصي. وبهذا يؤكد أثناسيوس ضرورة تجسد وموت كلمة الله الخلاصية. فلولا التجسد لما كان الخلاص، ولولا ألوهية المسيح لما كان الخلاص حقيقياً. ففي تجسّد الله الكلمة تألّه جنس البشر، لأنه غلب الموت، لا من أجل ذاته، بل من أجلنا نحن البشر. وهكذا يُجذّر أثناسيوس ضرورة التجسّد وضرورة موت المسيح في إرادة الله الخلاصية. ويتساءل: بعد سقوط الإنسان، مَن ذا يستطيع أن يرى الله؟.. أو حتى أن يعرفه؟!.. فيجيب قائلاً: "مَن الذي يقوم بتعليم العالم عن الآب؟… لعل أحداً يقول أن العقل البشري يدرك الآب من تلقاء نفسه. ولكن العقل البشري يعجز عن مقاومة غواية الأرواح الشريرة. ولعل أحداً يقول أن الخليقة تتحدث بمجد الله. ولكن الخليقة موجودة والبشر لا يزالون يتخبّطون في ضلال عن الله!.. تركوا الله وأظلمت أنفسهم فصوَّروا لأنفسهم تماثيل وأصنام، حولوا مجد الله إلى الخشب والحجارة. حلّ الكون مكان الله لا بل نصّب البشر أنفسهم آلهة. وعندما احتلت كل هذه مكان الله في نفس الإنسان، لم يعد هذا الأخير محتاجاً إلى نظام فلسفي ينقذه من ضلاله، بل إلى قوة الله القادرة على تجديد النفس أو الميلاد الثاني.. انحطَّت نظرات البشر إلى أسفل، وكأنهم غاصوا في العمق باحثين عن الله في الطبيعة وفي الحسّيات. فجاء الإله المتجسد وأعلن عن نفسه. إن مخلص الكل، المحبَّ البشر، كلمةَ الله اتخّذ لنفسه جسداً، وكإنسان مشى بين الناس وقابل إحساسات كلّ البشر في منتصف الطريق حتى يتعرفوا على الله في الجسد، وأن يدركوا الحقّ بما يعلنه الربُّ في جسده ويُدركوا الآب به"(91).
لذلك، فإن وحدة شخص المسيح تسمح لنا أن نعبده في طبيعته البشرية، وتجسده وموته لا يُحسبا عاراً بل فرط من المحبة والعطاء.
ج – الروح القدس :
إن الروح القدس هو إله من إله, لأنه لو كان خليقة لما كانت أية شراكة في الدائرة الإلهية. إنه من جوهر الآب, وينبثق عنه.
د - الكتاب المقدّس و"التقليد" :
أن الآريوسيين وأنصارهم استعملوا نصوص الكتاب المقدّس ليدافعوا عن موقفهم، وأرادوا حصر البحث اللاهوتي فيه وحده، فاختاروا منها ما يؤيّد موقفهم اللاهوتي.
احتكم أثناسيوس في تصديه لهم، كما ايريناوس قبله، إلى "قوانين الإيمان" الأولى، البسيطة والوجيزة، التي درسنا في القسم الأول؛ فقال أن التفسير الصحيح لآيات الكتاب المقدس يصبح ممكناً من خلال المنظور الإيماني كاملاً. لاشكّ أن الكتاب المقدس كافٍ بحد ذاته: "إني أعتقد أن الأسفار المقدسة الملهمة كفيلة بحد ذاتها أن تُعلن الحق"(92) ، ولكن إن فُهم في إطار الإيمان الحيّ، وبتوجيه من قانون الإيمان نفسه، الحاضر بكثافة في خبرة الكنيسة المعاشة، كما حفظها لنا "التقليد المقدّس"، الذي تناقلته جيلاً بعد جيل بفعل "تسلسل الخلافة الرسوليّة".
يؤكد أثناسيوس أن "التقليد" هو من المسيح نفسه، أما التعليم فيتم بواسطة الرسل، والإيمان هو من الكنيسة الجامعة. يقول في رسالته إلى سيرابيون: "لننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها الذي أعطاه الرب وبشّر به الرسل وحفظه الآباء، لأن الكنيسة أَُسست عليه، ومن يسقط منه شيئاً لا يُعتَبَر، بل ولا يكون، مسيحياً"(93) . فالكتاب المقدس بنظره هو من نتاج "التقليد الرسولي". ولم يستخدم لفظة "التقليد" بصيغة الجمع لأن وحدة التقليد، برأيه، هي البرهان الحاسم الذي قدّمه ضدّ الآريوسيين.
هـ - الأنثربولوجيّة المسيحيّة والمعرفة اللاهوتيّة (Gnosis) :
المسيحية ليست اعتناقاً لأفكار خيالية لا جذور لها في الكيان الإنساني، بل إن معرفة المسيح مبنيّة على جذور عميقة في النفس. تحتاج هذه الجذور إلى تجديد وانتباه لكون الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.
إن دراسة الإيمان المسيحيّ هي دراسة حياة الإنسان وتطوره ودراسة "صيرورته إلهاً"، إنها أنثروبولوجيّة بامتياز، كما رأينا في فكر إيرناوس. لذلك يحتاج الإنسان إلى المعرفة الـGnosis الآتية من الخالق لكي يتمكن من العيش كإنسان ويتمتع بالقدرات والمواهب التي وهبها الله للطبيعة الإنسانية، فـالـ Gnosis الآتية من الطبيعة يجب أن تخضع للـ Gnosisالآتية من المسيح. فلو كان الإنسان في حالته الأصليّة، كما خُلق قبل السقوط، لتمكّن من أن يتعلّم الكثير عن الله من الخليقة ومن الكون ومن الآخرين. ولكن بسبب وضعه الطارئ، فإن هذه المعرفة ليست كافية. فلو كانت كافية لما حدثت كل هذه الشرور الجسيمة مطلقاً. فبعد السقوط لم يكن الإنسان بحاجة إلى نظام فلسفي لينقذه من ضلاله بل كان بحاجة إلى قدرة الله لكي تجدّده وتجدّد نفسه. ما جعله يحتاج إلى "معرفة" الله حتى يكوِّن "غنوصيّاً حقيقياً"، فجاء الإلـه المتجسد وكشف عن نفسه: "الـ Gnosis الحقيقيّة لا تتم الاّ في اشتراك الإنسان في لاهوت الكلمة".
يحاور القديس أنطونيوس الكبير الفلاسفة الوثنيين الذين جاؤوا للاستهزاء به، بحسب السيرة التي كتبها اثناسيوس، فيقول لهم: "إن الإيمان الحيّ أسبق من البرهان المنطقي، إنّه المعرفة الحقيقيّة، والإيمان يستند إلى ميل النفس، أمّا الجدلية فتستند إلى فنِّ الكلام".. "البراهين المنطقية ليست مهمة عند الذين يملكون الإيمان الحي، والمسيحيون لا يملكون سرّ الحياة المسيحية في حكمة كلام اليونانيين بل في قوة الإيمان الحقيقي".
يدعو أثناسيوس إلى ضرورة مقارنة الديانة المسيحية مع غيرها من الديانات، فالمقارنة لازمة لفهم الإيمان الذي نؤمن به. الـ Gnosis اللاهوتيّة، في نظره كما عند إيرناوس وأويجانوس، هي "تدرّج" في فهم "التدبير الإلهي". لأن "التدرّج" في "التدبير" ينطلق من العهد القديم إلى العهد الجديد، ويستمرّ. فبتنازل الإله نتدرّج في "معرفة التدبير" بحدّ ذاته، ويصبح التجسد "كشفاً عن الله، وارتفاعاً إلى معرفة حقيقته".
و- الخلق والخالق :
لم تؤمن الفلسفة اليونانيّة بالخلق، فالكون (Cosmos) أزليّ أبديّ، غير حادث ولا مخلوق. لذلك شكّلت البشارة المسيحية عند انتشارها تحديّاً لهذا المنطق. إنها رسالة صعبة على الفلاسفة طالما أنّ الكتاب المقدس يفتتح كلامه بـ"في البدء خلق الله العالم..".
أشار أثناسيوس في حديثه عن فعل "الخلق" إلى "هوّة" بين الكائن المطلق (الله) والعالم المُحدَث (الكون Cosmos). هناك نوعان من الوجود، يختلفان اختلافاً جذرياً. فمن جهة، هناك كيان الله "اللامتغيّر"، "السرمدي"، الذي "لا يعرف الفساد ولا الفنـاء"؛ ومن جهة أخرى، هناك صيرورة العالم، وتغيّره، وفساده، وفناؤه؛.. هناك مفارقة أساسيّة بين "اللافساد الإلهي" و"فساد العالم المتغير". فلا وجود للتشابه بين المخلوق والخالق. وإن كان لابدّ من تلاقٍ بينهما فقد تحقّق بواسطة "الـLogos" الذي به تمّ فعل "الخلق". إن كلمة الله هو خالق، لأنه صورة الآب ووجوده لا يرتبط بالخليقة ولا بمخطط الله للخلق.
يشبّه أثناسيوس العلاقة بين الكلمة (Logos) والخليقة (Cosmos) بالموسيقيّ الذي يضبط أوتار القيثارة، ويجعل النغمات ترتفع وتنخفض حسبما يشاء: "هكذا إذ أمسك حكمة الله الكون كقيثارة جعل ما في الهواء متوافقاً مع ما في الأرض، وما في السماء متوافقاً مع ما في الهواء، وأَتحَد الجزء مع الكل"(94) . فالثبات والترتيب في الكون (Cosmos) تحقّقا بواسطة الكلمة (Logos). فالخليقة تصمد بتأثير مباشر من الكلمة الإلهي (أي العناية الإلهية). والإنسان نفسه يشارك في عدم ثبات العالم لكونه خليقة من العدم، مائت بطبيعته، ولكنه يثبت ويستمرّ بنعمة الله وكلمته. كلمة الله حاضر في العالم حضوراً دينامياً (بالقوة) وليس بالطبيعة. إنه خارج العالم من حيث الطبيعة. يقول: "إنه خارج كل شيء من حيث الجوهر وفي كل شيء من حيث قواه. هذا التمييز بين الجوهر والقوة هو تمييز بين كيان الله الداخلي وظهوره الخلاّق في عمل الخليقة".
الخليقة بحسب أثناسيوس هي عمل إلهي وإرادة مشتركة بين الأقانيم الثلاثة. فوجود الابن يعود إلى الجوهر الإلهي أمّا وجود الخليقة فيستند إلى الإرادة الإلهية فقط. إذ كان الكلمة ليس ابناً حقيقياً للآب فالله نفسه ليس أباً حقيقياً وإنما مشكّل ومكوّن للخليقة، وطبيعة الله ستكون عاقرة في وقتٍ ما وغير مخصبة، ستكون نوراً لا يضيء وينبوعاً جافاً وسيكون شمساً بلا شعاع.
لم يكتف الله بخلق الإنسان كما فعل بسائر الخلائق غير العاقلة على الأرض، بل خلقه على صورته ومثاله، إنه مخلوق على صورة الله وليس هو صورة الله، لكنه أعطاه نصيباً من قوة كلمته لكي ينال هذه القوة كما لو كانت انعكاساً للكلمة، ويصبح بفضلها عاقلاً. وعندما خلق الله الضابط الكل الجنس البشري أعطاه نصيباً من صورته، ربنا يسوع المسيح، حتى إذا ما رأى الصورة أي كلمة الآب، استطاع أن يكّون فكرة عن الآب الذي أبدعه"(95) .
ز- التألُّه :
إن أنثربولوجيّة القديس إيرناوس في الدعوة لتأليه الإنسان وجدت أصداء عميقة عند العديد من الآباء، وها هو أثناسيوس يؤكّد عليها بقوله: "صار الإله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً"، لتصبح مقولته المشهورة، التي تلخّص لاهوته فيما يتعلّق بعلاقة الله بالإنسان وبالعكس. ويشرح قديسنا هذه العلاقة فيقول: "لقد تأنّس ابنُ الله لكي نتألّه نحن، واعتلن في جسد إنسان منظور لكي نتقبّل نحن صورة الآب غير المنظور، واحتمل ظلم ووقاحة الإنسان لكي نحتمل نحن ميراث الخلود" (96). حينما نشترك في المسيح الكلمة (Logos) نشترك في الآب لأن الكلمة هو كلمة الآب.
فلو كان المسيح هو في الآب بالمشاركة وليس من ذات جوهره (Omo-ousios)، لما استطاع أن يؤلِّهنا، إذ يكون هو نفسه مؤلَّهاً وحسب. فإذا كان الذي يملكه المسيح هو بسبب المشاركة (مع الآب) لاستحال عليه أن يعطيه للآخرين، لأن الذي له لا يكون حينئذ ملكه، بل يكون ملكاً للذي وهبه" (97).
ويشدد أثناسيوس على إلوهيّة المسيح كحجرٍ للزاوية في تحقيق خلاص الإنسان فيقول: "لا يمكن للإنسان أن يتأله إذا كان إتحاده بالمسيح إتحاد مخلوق بمخلوق، أو إذا لم يكن المسيح هو من جوهر الله بالحق. كذلك لا يمكن للمسيح أن يُحضر الإنسان أمام الآب وفي حضرته لو لم يكن هو كلمة الله بالطبيعة والحق… هكذا لا يمكن للإنسان أن يتأَّله لو لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو بالحقيقة من جوهر الآب وهو كلمة الآب الخاصة" (98).
إن الركن الأساسي للخلاص عند القديس أثناسيوس الكبير هو في كمال طبيعتي المسيح، أي أنه إله تام، حقيقي، من جوهر الآب نفسه، القادر وحده على خلاص البشر، وأيضاً إنسان تام، آخذاً طبيعتنا بتمامها، ليخلص ما اتّخذه. "المسيح لم يكن إنساناً ثم صار إلها، ولكنه كان إلهاً وصار إنساناً لكي يؤلِّهنا… لذلك فكل الذين دعاهم الله أبناء فهؤلاء اختارهم وألّههم بواسطة الكلمة الابن المساوي له في الجوهر"(99) . "مَن الذي لا يتعجب ويكرِّم هذا.. فلولا أن أعمالاً إلهية للمسيح الكلمة قد حدثت بالفعل بواسطة الجسد لما كان ممكناً للإنسان أن يتألّه. وكذلك وبنفس المعنى فلولا أن خواص الطبيعة البشرية الضعيفة (كالموت مثلاً) قد أُسـندت للكلمة لما كان ممكناً للإنسـان أن يتخلّص منها"(100). "وكما أن الربّ صار إنساناً لما لبس جسداً، هكذا نحن نتألّه بالكلمة إذ نتحد بجسده. وحينئذ نرث الحياة الأبدية معه"(101). "لقد صار إنساناً ليؤلهنا في نفسه، هو حُبل به ووُلد من امرأةٍ عذراء حتى ينسب لنفسه جنسنا الخاطئ لكي نصير نحن جنساً مقدَّساً، شريكاً في الطبيعة الإلهية، على حدِّ قول بطرس الرسول"(102) . "نحن لا نتألّه إن كنا نشترك في جسد إنسان عادي ولكننا نتألّه لأننا نأخذ جسد المسيح الكلمة بذاته" (103).
ح – المعمودية :
لم يعترف أثناسيوس بمعمودية الآريوسيين ليست فقط لأنّها تتمّ فقط باسم الآب أو باسم الابن، بل لأنها تحمل إيماناً باطلاً: "من يرفض هذا الاقنوم أو ذاك من الثالوث الأقدس واعتمد باسم الآب فقط أو الابن وحده، أو الآب والابن بدون الروح القدس، فذاك لا يشترك بالسرّ أصلاً لأن الكمال والخلاص هما في الثالوث"(104) .
ط – الإفخارستيا :
إنّ إيمان أثناسيوس في التحويل الجوهري, عند لفظ كلمات التقديس واضح, فإن الخبز والخمر يبقيان هكذا لو لم نتلفّظ بكلمات المخلص التذكارية, أما عندما تنطق الجماعة بالصلوات العظيمة والبهيّة فإنّ الخبز يتحوّل إلى جسد المسيح والخمر إلى دمه المقدّسين.
خاتمة :
إن مرسوم ميلانو سنة 313 الذي أصدر الإمبراطور قسطنطين الكبير قد منح الكنيسة المضطهدة حرية الوجود العلني، فتبدّد ولو لحين الاضطهاد الدموي، ولكنّها لم تُعفى القلق الفكري. فالهرطقات المتوالية عليها فرضت عليها تحديدات دقيقة لإيمانها.. ولولاها، ربما بقيت المسيحيّة في بساطة الإنجيل!
خاتمة آباء مدرسة ألإسكندريّة
تدين الكنيسة اليوم لآباء مدرسة الإسكندريّة في مجمل تعابيرها ومصطلحاتها العقائديّة واللاهوتيّة التي ابتكرها بنوع خاص العلامة أوريجانوس كما رأينا، واستعملها بمرونة القديس أثناسيوس الإسكندري المحرّك الأهم لمجمع نقية (سنة 325) الذي حدّد قانون الإيمان الذي لا نزال نتلوه إلى اليوم.
إن مدرسة الإسكندريّة الفكريّة، في العالم القديم قبل المسيحيّة بقرون، مدرسة عريقة وراقيّة. فقد حملت إرث الفلسفة اليونانيّة واشتهرت خصوصاً بميلها إلى الأفلاطونيّة، على عكس المدرسة الأنطاكيّة التي انتهجت الأسلوب الأرسطي. ولقد تأسست، على غرار هذه المدرسة الفلسفيّة العريقة، مدرسة مسيحيّة خاصة مع بانتينوس في أواخر القرن الثاني، ولمع فيها القديس اكلمنضس الإسكندري، وزادها شهرة وارتقاءً العلاّمة الكبير أوريجانوس.
لا شكّ أن الظروف والتحديّات التي أحاطت بالآباء المدافعين، الدمويّة والفكريّة، واجهها أيضاً آباء مدرسة الإسكندريّة، ولكن بخصائص جديدة، هي:
1. استقلال علم اللاهوت وتخلّيه تماماً عن الطابع اليهودي.
2. تبنّي أعمق في منهج استعمال الفلسفة، الأفلاطونيّة تحديداً، لخدمة التفكير اللاهوتي والتعبير عنه.
3. تبنّي أعمق للأسلوب المنهجي العلمي المنظّم في العمل اللاهوتي.
4. غزارة الإنتاج الفكري.
5. حريّة البحث.
6. اتّباع الطريقة الأليّغورية الرمزية في تفسير نصوص الكتاب المقدّس (Allégorie).
7. التشديد على الطبيعة الإلهية في الخريستولوجيا.
8. التشديد على إبراز أهميّة "النفس" في الأنثربولوجيا.
9. الاستمرار في الأسلوب الدفاعي والتعليمي في التعبير عن الإيمان.
استمرّت المدرسة اللاهوتيّة الإسكندرية فترة طويلة، وكان لها الشأن الكبير في الخلافات الخريستولوجية في القرنين الرابع والخامس، ولكننا نكتفي بالتعرّف على القديس اكلمنضس وعلى أوريجانوس مؤسس علم النقد الكتابي، ضمن مجال دراستنا لعلم الآباء في القرون الثلاثة الأولى.
القديس إكلمنضس الإسكندريّ
1 - حياته :
ولد تيتوس فلافيوس إكليمنضس حوالي سنة 140/150 في مدينة أثينا على الأرجح، أو ربما في الإسكندريّة، أي أنه كان معاصراً ليوستينوس وإيرناوس ولحقبة الآباء المدافعين. كان يميل إلى التعمّق في فلسفات العصر منذ فتوّته، فانكبّ على دراسة الأفلاطونية والرواقية وغيرها. وأخذ ينهل من منصّفاتها العلم والمعرفة، وعلى غرار يوستينوس أفضى به سعيه الدائب للحقيقة إلى اعتناق المسيحية. ورغبة منه في التبحّر في أسرار المسيحية ومبادئها قام بعدّة أسفار زار خلالها جنوب إيطاليا وسوريا وفلسطين، متقصّياً أخبار المفكّرين من ذوي الشهرة الواسعة ليقف عن كثب على مبادئهم وتعاليمهم (1) . هكذا تنقّل من بلد إلى آخر حتى استقرّ في نهاية المطاف في الإسكندرية، وكانت المدينة آنذاك، كما رأينا في المقدّمة، موئلاً للفكر والعلم، يؤمّها كل طامح إلى المعرفة ليعبّ من معين إشعاعها الفكري العذب. وفي الإسكندرية تعرَّف إكليمنضس إلى العّلامة الشهير بانتينوس (2) مؤسّس المدرسة اللاهوتية فيها، فخلب عقله وارتاحت نفسه إليه. وما لبث أن انتسب إلى مدرسته، ولم يمضِ وقت يسير حتى أصبح اليد اليمنى لمعلّمه في كل شيء، فذاع صيته في كل الأمصار. ولمّا توفي بانتينوس في أواخر القرن الثاني أسندت إدارة المدرسة إلى إكليمنضس فعمل بدأب ونشاط على متابعة رسالة معلّمه، وقد توصّل بفضل درايته وسداد رأيه إلى مدّ جسر التقارب بين الفلسفة الهلّينية من جهة والمسيحية من جهة أخرى.
كان إكليمنضس، إلى جانب تمكّنه من الثقافة الهلّينية العميقة، ملمّاً بالكتاب المقدّس حتى أضحى شغله الشاغل يركن إليه في معظم أوقاته.
ثارت الاضطرابات من جديد في الإمبراطورية الرومانية في مطلع القرن الثالث، وناصب الإمبراطور سبتيموس ساويروس الكنيسة العداء وراح يفتك بأبنائها، فاضطرّ إكليمنضس إلى ترك الإسكندرية هارباً إلى بلاد الكبّاذوك، وحلَّ ضيفاً على تلميذه ألكسندروس الذي أضحى في ما بعد أسقفاً على أورشليم (3) . وربما رُسم كاهناً كما ذكر هو نفسه، في نص من كتابه "المربي" الذي لم تثبت صحّته، وكما ورد في رسالة يذكرها أوسابيوس، لم تثبت صحتها أيضاً.(4)
توفّي سنة 215 على الأرجح.
2 - مؤلّفاته :
قلَّ أن نجد مثيلاً لمكانة اكليمنضس في دنيا الفكر واللاهوت في القرون الأولى. فمؤلّفاته كانت ولم تزل معيناً فكرياً لا يجفّ، فهو المعلّم الملهم، والخطيب المفوَّه، والشاهد الأمين على ثقافة عصره، حتى قال نيومن عنه وعن تلميذه أوريجانوس: "إنّ فلسفة إكليمنضس وأوريجانوس جذبتني، إذ أنّ بعض تعاليمها الرائعة كان له وقع الموسيقى على أذني"(5) . لم يترك باباً فكرياً إلاّ طرقه، فجمع بين الفلسفة والشعر وعلم الآثار والميثولوجيا والأدب، واستشهد بالعهد القديم أكثر من ألف وخمس مئة مرّة، وبالعهد الجديد أكثر من ألفي مرّة، واستوحى الأدب اليوناني أكثر من ثلاث مئة وستين مرّة .(6)
أدرك إكليمنضس بثاقب بصره أن لا مفرّ من مواجهة الفلسفة الهلّينية، فانبرى ينسّق الفكر المسيحي تنسيقاً منظّماً كي يكون على المستوى المطلوب. وقد أعلن في أكثر من موضع أن لا تناقض بين الفلسفة الحقيقية والإيمان، أو بين الإنجيل والأدب، معتبراً أنّ العلوم تخدم علم اللاهوت وأنّ المسيحية هي تاج جميع الحقائق ومجدها.
ترك إكليمنضس مؤلّفات جمّة فُقد معظمها، بيد أنّ ما تبقّى منها كافٍ ليعطينا صورة جليّة عن أهميّة الكاتب. وإنّ أبرز ما بقي من مؤلّفاته تفسير عن الفصل العاشر (17 – 31) من إنجيل مرقس عنوانه "أيّ من الأغنياء يفوز بالخلاص"، و"مقتطفات من مؤلّفات ثاوذورس". وأخيراً ثلاثّيته الشهيرة التي تضمّ الكتب التالية: "المحرّض" و"المربّي" و"البُسُط" (7). تشكّل هذه الثلاثية وحدة فكرية متماسكة لا تنفصم. فقد ورد في كتاب "المربّي" ما يلي: "في عزم منه مضطرم، ومن أجل أن يقودنا بخطى وئيدة إلى الخلاص، اتّبع المخلّص هذا التنسيق المدهش: فهو أوّلاً يحرّض، ثم يربّي، وأخيراً يثقّف" (8) ، وربما كان اكلمنضس ينوي كتابة جزء رابع يسميه "المعلّم (9 )" Didaskalos .
أ – "المحرّض" Protreptikos :
كتاب دفاعي مؤلف من إثنا عشر فصلاً. الغرض الأساسي منه "تحريض" اليونانيين على ترك عبادة الآلهة الوثنية السخيفة، "وقد كُتب "بحسب فنٍّ أدبيّ معروف.. وبطريقة منهجيّة" (10).
يستهلّ إكليمنضس كتابه بعرض مسهب لبعض الأقاصيص الخرافية السائدة في الأوساط الوثنية، ولاسيما اليونانية منها ويسميها بـ"لعبة الأطفال" ويدعو إلى تركها: "يجب علينا أن لا نذهب بعد إلى أيّة مدرسة بشريّة، فلا نأبه لا لأثينة ولا لإيونية ولا لسائر اليونان... لأنه بالكلمة صار العالم بأجمعه من الآن فصاعداً هو نفسه أثينا واليونان"(11) ، وذلك في القسم الأول من الكتاب. أما في القسم الثاني من الكتاب فيخلص إلى القول إنّ تعليم الكلمة – اللوغس الذي تنبّأ عنه الأنبياء هو التعليم الصحيح، لأنّه يفضي بنا إلى السعادة والتناغم مع شخص الله. يقول: "هذا الذي من ذريّة داود، كلمة الله، الموجود قبل داود، الذي استخفّ بالطنبور والقيثارة، قد نظّم عالمنا الصغير (12) ، الإنسان النفس والجسد، واستخدم هذه الآلة ذات الألف صوتاً للاحتفاء بالله، منشداً هو نفسه بإيقاع رنّان مع هذه الآلة البشرية" . (13)
يظهر اكلمنضس أن "تحريضه" إنما بدافع بحث الله عن أحبائه: "إن الله، في محبّته العظيمة للبشريّة، يرتبط بالإنسان، وكما أن العصفورة الأم تطير إلى صغيرها عندما يسقط من العش.. هكذا يبحث الله عن خليقته بأبوّة ويلتقط من جديد الصغير مشجّعاً إياه ليطير ثانيةً نحو العش" .(14)
إنّ هذا المصنّف، على الرغم من أهمّيته، لا يتعدى إطار الكتب الدفاعية التي كانت رائجة في القرون المسيحية الأولى. بيد أنّ جديده يتجلّى في اقتناع إكليمنضس بعدم الرد على أصحاب الفتن والوشايات التي كانت تحاك ضدّ المسيحية آنذاك، وتلك خطوة مهمّة لصالح المسيحية . (15)
ب - " المربّي " Pedagogos :
يتألف كتاب "المربّي" من ثلاثة أجزاء. يظهر اكلمنضس في الجزء الأول من الكتاب صورة الكلمة – المسيح على أنّه المربّي والمعلّم الأوحد لجميع المسيحيين، والهدف من ذلك "تحسين النفس، وتعليمها وتدريبها على الفضيلة، لا على الحياة العقلية" (16) . ويحدّد إكليمنضس في هذا الكتاب مفهوم التربية (17) . ويشبّه المسيحيين كافة بالأطفال: "يسموننا أطفالاً. نقبل بفرح هذه التسمية... فالطفولة تعني لنا أن حياتنا هي ربيع دائم. وهي كذلك لأن الحقيقة فينا لا تعتورها شيخوخة، وفيها يتحرّك وجودنا كلّه" . (18)
إن المبدأ الأساسي الذي يعتمده المسيح في تربية أبنائه هو المحبة، لا الخوف والتهويل كما ورد في العهد القديم، على أنّ ذلك لا يمنع المخلّص من اللجوء أحياناً إلى نوع من الشدّة كي يعيد الأمور إلى نصابها.
ويتطرَّق إكليمنضس في الجزأين الثاني والثالث من الكتاب إلى كل ما يمتّ بصلة إلى الحياة اليومية، كالمأكل والمشرب والأمور المنزلية والموسيقى والرقص وغيرها. ويصوّر لنا مظاهر الحياة اليومية في مدينة الإسكندرية وما كان يشوبها من ترف وضياع، محّذراً المسيحيين من الانغماس في هذا النمط من الحياة.
ولقد استعان إكليمنضس في تأليف كتابه، فضلاً عن العهد الجديد، بالمؤلّفات الفلسفية الرائجة في عصره، لاسيّما مؤلفات أفلاطون وبلوتارك (19) والرواقية.
ج - " البُسُط " Stromatis :
يحتوي كتاب "البُسُط" على ثمانية أجزاء تهدف بمجملها إلى توطيد العلاقة بين الإيمان المسيحي من جهة والفلسفة من جهة أخرى. فيلعب إكليمنضس في الجزء الأوّل دور محامي الدفاع عن الفلسفة اليونانية، معتبراً أنّ الفلسفة هبة من الله وأنّها بالتالي تجدي نفعاً كلَّ مسيحي يرغب في التعمّق بإيمانه. يقول: "قبل مجيء الرب كانت الفلسفة ضرورية من أجل تبرير اليهود، وهي الآن مفيدة أيضاً كي تقود النفوس إلى الله" (20) . وفي الجزء الثاني من الكتاب، يقارن بين العهد القديم والفلسفة اليونانية، مؤكّداً أنّ الوحي الإلهي لا يمكن أن يستعاض عنه بالفلسفة. أمّا الجزء الثالث فقد أفرده للزواج مبيّناً بجلاء شرعيّته وقدسيّته، داحضاً بذلك الفكر الغنوصي الذي يقلّل شأن سّر الزواج!
ويشيد في الجزء الرابع بمآثر الشهداء الذين سكبوا دمهم محرقة من أجل أن يشهدوا للحق، إلا أنّه بالمقابل يلوم المسيحيين الذين يسعون إلى الشهادة من تلقاء أنفسهم من دون مبرّر. ثم يتابع بحثه في عرض وجه جديد للغنوصية المسيحيّة الحقة، فيرى أنّ المعرفة لا تتعارض والإيمان، لأنّ من يتوق إليها لا بدّ له من أن ينعتق من كل الأهواء ويصل إلى حالة من الهدوء والطمأنينة (21) .
وجاء الجزء الخامس عرضاً مسهباً لوسائل المفترض إنتاجها للحصول على معرفة الله الكاملة. لذا نراه يركّز على ضرورة الإيمان كمبد أوّل، لكي يتخطّى الإنسان العقبات التي تعترض سبيله. كما يتكلّم، على غرار يوستينوس، عن "اللاهوت التنزيهي"، فينسب إلى الله كل الكمالات بالمقارنة مع المخلوقات الناقصة. ويعالج كاتبنا في الجزء السادس موضوع المعرفة الدينية، مقارناً إيّاها بالمعرفة الدنيوية التي يراها أدنى بكثير منها.ويصوّر لنا في الجزء السابع بالتفصيل حياة الإنسان المسيحي الذي يعتمد على "المعرفة" الحقة، الـ Gnosis، مركّزاً خصوصاً على النواحي الإيجابية. فالغنوصي الصحيح هو من اتّحد بالله بواسطة الكلمة باتّباعه إرشاداته، وهو الذي يتّصل بالله بواسطة الصلاة اليومية، وهو من يعيش أخلاقاً رفيعة يسمو بها فوق الجميع. ويختتم المؤلَّف في الجزء الثامن بمجموعة من الدراسات عالجها في الأجزاء السابقة.
3 - تعاليمه :
أ - اللوغس :
إنّ فكرة اللوغس – الكلمة هي البنية التحتية لكل مذهبه الفكري. فقد شغف إكليمنضس بدور اللوغس – الوسيط بين الله والإنسان، وراح يسعى بكل ما أوتي من عزم ونشاط إلى جلاء مفهومه. ومع أنّ فكرة اللوغس هي قديمة العهد في الأوساط الفلسفية (22) ، واللاهوتيّة، كما رأينا عند القدّيس يوحنا والقديس يوستينوس الفيلسوف وغيرهما، إلاّ أنّ مفهومه عن اللوغس فاق بكثير أسلافه. إنّ اللوغس في رأيه المرجع الأسمى، على المرء التعرّف إليه لتفسير أسرار الكون. فهو الخالق والمحرّك الأوّل لظهور العظمة الإلهية في العهد القديم وفي الفلسفة اليونانية نفسها.
ب- الخريستولوجيا :
تجسّد اللوغوس لمّا بلغ ملء الزمان واتّحدت الأرض بالسماء بواسطته ، فأزاح الستار عن الغموض الذي كان يكتنف سر الله، إذ يشكّل مع الآب والروح القدس الثالوث الأقدس (23) . من دونه أصبح لا يمكننا أن نعرف الله – الآب مطلقاً. لقد بات اللوغس المرشد والموجّه الوحيد لشؤون البشرية جمعاء، به يغدو الإنسان خليقة جديدة حيّة ومخلّصة، وحياة الإنسان هذه الجديدة إنّما تبدأ بالإيمان فترقى صعداً نحو العلم والتأمّل حيث دار الخلود والتألّه. وما المسيح، أي اللوغس، إلا إله وإنسان معاً، فلا غوص في أسرار الله إلاّ به دون سواه. وقصارى القول أنّ اللوغس – الوسيط هو محور لاهوت إكليمنضس، حتى إنّه تغافل بعض الشيء عن دور الله – الآب الذي هو مبدأ كل الخليقة ونهايتها.
يؤخذ على اكلمنضس بأن بعض جوانب خريستولوجيته خاطئة، بتأثير أفلاطوني واضح، إذ يعتبر أن المسيح قد أعفي جسدياً من الضرورات الماديّة، ونفسيّاً من الانفعال، رغم أنه يعترف بطبعتي المسيح الإلهيّة والبشرية.
ت - الأنثربولوجية والمعرفة Gnosis :
إن التدرج في معرفة الله هو أنثربولوجيّة اكلمنضس الأفلاطونيّة التي ترى في "عالم المثل" الانشداد. وبالمقابل، إن التوق إلى اجتناء المعرفة الحقّة إنّما يسهّل على المرء التدرّج في معرفة الله. هذه المعرفة ليست وليدة التأمّل النظري فحسب، بل هي أيضاً وليدة وحي إلهي ينعم به كل إنسان يسعى إلى الكمال. وقد بيّن إكليمنضس في مؤلّفاته المواهب التي يسبغها الله على الإنسان لقاء سعيه الدائب إلى الحقيقة. فالمعرفة تبدّل كيان الإنسان الأخلاقي والديني، وتعتقه من العبودية التي يتخبّط فيها، فيضحي صورة وضّاءة لله على الأرض.. "لقد نال الإنسان منذ ولادته الصورة وكلّما تقدّم في الكمال، تقبّل في ما بعد في ذاته المثال" (24) .
ولئن ركّز إكلمنضس على المعرفة كسبيل إلى الامتلاء من الله (25) ، فإنّه لم يهمل النواحي الأخرى من الحياة كالمحبة والصلاة والتنقية، فقد صرّح في أكثر من موضع أنّ الكمال إنّما يجتني بطرق متعدّدة تقود كلّها في نهاية الأمر إلى الله مصدر الخير والكمال.
إن الرغبة في معرفة الله تقود اكلمنضس إلى الكلام عن "اللاتأثرية" Apathia... لاشك أنه أخذ هذه الفكرة "عدم التأثر" أو "اللاهوى" من الفلسفة. فالمعرفة الحقيقة الـGnosis تقود إلى الامتلاء من الله، وبالتالي إلى حالة عميقة من الهدوء وعدم الانفعال، وإلى تمام السيطرة على الذات. لعلّ السطوة الأفلاطونيّة التي تدعو إلى التحرّر من أهواء الجسد الماديّة هي أساس هذه الفكرة، التي لا تخلو من أثر للغنوصيّة المنحرفة التي دافع ضدها الآباء، ومنهم اكلمنضس نفسه، للحفاظ على الإيمان المستقيم.
ث - الكنيسة :
يشدّد اكليمنضس على ترسيخ الوحدة بين المسيحيين، لاقتناعه بأنّ الكنيسة هي صورة الثالوث الأقدس على الأرض. فقد جاء في كتاب "المربّي": "يا له من سرّ عجيب! هناك آب واحد للكون، وكلمة واحد للكون، وروح قدس واحد.. وهناك بتول واحدة صارت أمّاً، ويسرّني أن اسمّيها الكنيسة" (26) .
ولقد أدرك أنّ العائق الأوّل الذي يمنع انتشار الكنيسة في العالم إنّما مردّه الانقسامات والهرطقات التي تعبث بجسمها في كل مكان. يقول في كتاب "البسط": "هنالك من يحتجّ علينا فيقول: لا أحد يرغمنا على الإيمان، بسبب الخلاف الناشب بين البدع المسيحية، لأنّ الحقيقة تكون مشوّهة عندما يعلّم البعض نمطاً معّيناً من العقائد والبعض نمطاً آخر.. نجيب على هؤلاء: لقد تألّف عند اليهود واليونانين من بين الفلاسفة عدد لا بأس به من البدع، فهل تستخلصون أنّه ينبغي التخلّي عن الفلسفة؟" (27) . وعلى كل حال، ألم يتنبأ السيّد المسيح بأنّ الهرطقات ستزرع في حقل الحقيقة كالزؤان مع القمح؟ فمن غير المعقول أن لا تتحقّق النبوءة.
ويذكر إكليمنضس أخيراً الرتب الكنسيّة الثلاث، الأسقفية والكهنوتية والشموسية، فيشهد بذلك على استمرارية الكنيسة ومدى تفاعلها مع تقليد الرسل ومع تراثها.
ج - المعمودية :
عكف إكليمنضس، إلى جانب انشغاله بنظرية اللوغس، على دراسة الأسرار المسيحية وفي طليعتها المعمودية. فاللوغس والسرّ هما في نظره محورا بحثه في المسيح والكنيسة. وقد عدّد في كتاب "البُسُط" المواهب التي يمطرها المسيح على الإنسان يوم يحصل على سرّ العماد. يقول: "أصغوا إلى المخلّص. لقد جدّدتك يا من ولد من أجل الشقاء والموت. لقد حرّرتك وشفيتك وافتديتك. لذا سأنعم عليك بالحياة الفائقة الطبيعة الخالدة التي لا نهاية لها، وسأريك وجه الله الأب الصالح" (28). ويعتبر اكلمنضس أن الخطيئة الأصلية تصل إلينا من خلال "المثل العاطل" وليس عن طريق الإرث. كما يبرز، علاوة على المواهب التي يسبغها الله على المسيحيين في المعمودية، "ختم الرب" (29) الذي كان يمهرهم به في سرّ التثبيت عند المعمودية مباشرة.
ح - الإفخارستيا :
يشير إكليمنضس، في الجزء السابع من كتاب "البُسُط"، إلى مفهوم الذبيحة عند المسيحيين: "أننا نمجّد ذاك الذي أسلم ذاته ذبيحة عنّا. فنحن بدورنا نقرّب ذواتنا ... لأنّ الله لا يبتهج إلاّ بخلاصنا" (30) . فالمسيح هو الذبيحة إذاً أما نحن فنشترك معه في هذه الذبيحة بواسطة الإفخارستيا: "لدم الرب وجهان، الأوّل مادّي وبه افتدينا من الهلاك، والثاني روحي محض وبه مسحنا. إنّ شرب دم المسيح يشركنا في خلود المسيح. إنّ المناولة الإفخارستيّة هي اتّحاد بالكلمة ونعمة مجيدة وعظيمة، من يشترك فيها بإيمان يتقدّس بجسده وروحه" (31).
خ - التوبة :
لا شكّ في أنّ النقاشات الحادّة التي كانت تجري بين إكليمنضس والغنوصيين من حين إلى آخر قد أسهمت كثيراًُ في بلورة عقيدته اللاهوتية والأخلاقية على حدّ سواء. فبينما يرى الغنوصيون أنّ المادة هي أصل الشرّ والخطيئة في العالم، يعلّم إكليمنضس أنّ الشرّ هو نتيجة حتمية لتصرّفات المرء الشاذّة، ويردف أنّ الخطيئة هي رفض الإنسان الله ومخططه الخلاصي. ويتّفق إكليمنضس مع راعي هرماس على أنّه ليس سوى توبة واحدة بعد المعمودية، فإذا صدف أنّ خطئ الإنسان بعد عماده، فعليه أن ينتظر رحمة الله الوافرة (32) .
د - الزواج والبتولية :
إنّ أجمل ما فاضت به قريحة إكليمنضس ما قاله عن الزواج والبتولية، مجارياً بذلك أعظم اللاهوتيين المعاصرين. فهو يعلّم أنّ الزواج سرّ شريف ومقدّس، يشترك فيه الإنسان مع الله بالخلق للحفاظ على الاستمرارية في الحياة. وهو بذلك ينافي تعليم الغنوصيين الذين يحطّون من قدر الزواج وأهميّته. يقول: "في الزواج يمسي الإنسان صورة الله بقدر ما يتعاون معه في خلق الإنسان" (33) . على أنّ الإنجاب ليس الغاية الوحيدة للزواج، فالحب والانتباه المتبادلان يشكّلان أيضاً دعامة راسخة لا تلتوي. وهنالك تشبيه رائع ورد في الجزء الثالث من كتاب "البُسُط" يعطينا صورة جليّة عن المكانة التي يتمتّع بها سرّ الزواج في نظر إكليمنضس. فقد رأى في قول السيّد، إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه فإنّه يكون بينهم، إشارة إلى الزواج. فالاثنان هما الزوج والزوجة، والثالث هو الولد الذي يربط بينهما (34). لذلك فإنّ الزواج ليس في العلاقة الجنسية وحسب، بل إنّما هو علاقة روحية بين الرجل والمرأة. وهذا ما حمل إكليمنضس على رفض كل زواج بعد الزواج الأوّل.
أمّا عن البتولية فيقول إكليمنضس: "نحن نشيد بالبتولية وبالذين حصلوا عليها من الله" (35)، "لأنّ من يعيش وحده ليخدم الله ينال مجداً سماوياً" (36) . ولقد اختار هو أن يكون بتولاً "حباً بالله". إلاّ أنّه حين يفاضل بين البتولية والزواج يقرّ بأنّ المرء المتزوّج يفوق البتول في أمور كثيرة.
خاتمة
إن اكلمنضس الإسكندري وجه آخر لمحبي جعل الإيمان المسيحي لا يتناقض مع "المعرفة" والعلم في عصره. وما تبوءه عمادة مدرسة الإسكندرية إلا علامة عمليّة لهذه النظرية. قد لا نفهم أفكاره تماماً، أسوة بغيره من الآباء، ولكننا في مشروع رغبتنا التعبير عن الإيمان بلغة الواقع والعصر، تدفعنا هذه المنهجيّة إلى التشبّه به، وبأمثاله.
العلاّمة أوريجانوس
1 - حياته :
ولد أوريجانوس في الإسكندرية من والدين مسيحيّين تقييّن سنة 185. ونشأ منذ طفولته على حبّ المطالعة، فشغف بالكتاب المقدّس حتى الولع. فكان والده يطلب منه أن يحفظ كلّ يوم قسماً يحدّده له، يؤدّي عنه حساباً عند المساء (37)، كما كان ينحني على صدره بينما يكون نائماً ويُقبله لأنه يعتبره "هيكلاً ممتازاً للروح القدس، معتبراً نفسه أنه تبارك بذريّة صالحة" (38).
تاق أوريجانوس إلى الاستشهاد منذ صغره. فحدث في إثر الاضطهاد الذي شنّه الإمبراطور سبتيموس ساويروس على المسيحيين (39) أن سيق والده ليونيداس إلى العذاب. فعصفت في نفس الصبي نار الشوق إلى الاستشهاد. وكانت والدته تحضّه لكي يشفق على أمومتها، فأبى أن يصغي لتوسّلاتها وهمَّ بالذهاب لملاقاة أبيه، فعمدت إلى إخفاء ثيابه وأجبرته هكذا على البقاء في البيت (40) . بيد أنّه لم يقف مكتوف اليدين، بل بعث إلى والده برسالة يحثّه فيها على الاستشهاد قائلاً: "إحذر أن تبدّل موقفك من أجلنا" (41) .
عيَّنه ديمتريوس، أسقف الإسكندرية آنذاك، على الرغم من حداثة سنّه، رئيساً على مدرسة "التعليم المسيحي" الكرازيّة (Ecole catéchétique) ليدير شؤونها، فذاع صيتها في جميع أرجاء البلاد (42). يقول العلاّمة أوسابيوس المؤرخ في كتابه الشهير "التاريخ الكنسي" عنه: "كان له من العمر 18 سنة عندما أوكلت إليه مدرسة الكرازة.. وللحال ترك تدريس علوم الصرف والنحو.. وتخلّى عن كلّ ما كان في حوزته من الكتب القديمة التي كانت منسوخة نسخاً رائعاً .. (43)
اكتفى بالضروري من مستلزمات العيش. وتخلّى عن ممتلكاته ولم يستبقِ إلاّ القليل من ثيابه، وعاف السرير مؤثراً النوم على الأرض. وكان يقضي معظم لياليه في درس الكتب المقدّسة (44).. ويكرّس بدون تردّد كل أوقات فراغه لدراساته المتنوّعة ولكلّ الذين يأتون إليه فكان يهيئهم إما للمعموديّة وإما للاستشهاد (45).. فثار غضب الوثنيين والمدينة كلها لم تكن كافية لتُخبّئه...
لقد حمل أوريجانوس الناس على الإقتداء به، بنوع خاصّ بأعمال حياته، بفضل القدرة الإلهيّة التي كانت تحييه"(46). كما اهتمّ بمتابعة تدريسه علوم عصره، وكان يؤم هذه المدرسة، إضافة للمسيحيين، الوثنيون والهراطقة، وكانوا جميعاً "يعدّون هذا الرجل فيلسوفاً عظيماً" (47).
قام بإخصاء نفسه، مطبقاً كلام الإنجيل حرفيّاً (48) على خلاف عادته في التفسير الرمزي الذي اشتهرت به مدرسة الإسكندريّة.. ربما فعل ذلك لدرء التجارب التي كانت تعكّر صفوه خصوصاً بوجود الكثير من تلاميذه من النساء، أو ربما رغبةً منه في الكمال والبلوغ إلى درجة أسمى من القداسة.
استاء البطريرك ديمتريوس من فعله هذا، فكتب إلى الأساقفة في جميع أنحاء الإمبراطورية ناعتاً أوريجانوس بالطيش وعدم الرويّة. أمّا أسقفا أورشليم وقيصرية فاعتبراه خليقاً بأعظم درجات الإكرام والسموّ. بيد أنّ أوريجانوس نفسه اعترف في السنين اللاحقة بخطئه وندم عليه طيلة حياته. ومهما يكن من أمر هذه الحادثة، فإنّها تشير بوضوح تامّ إلى أنّ أوريجانوس كان يعيش بمقتضى التعاليم الإلهية قبل أن يعلّمها (49) .
وإبّان إقامته في الإسكندرية أرسل حاكم بلاد العرب (حوران) في طلبه ليلقّنه أصول الديانة المسيحية، فلبّى النداء على جناح السرعة وأتمَّ مهمّـته في وقت وجيز. وفي طريق عودته إلى الإسكندرية عرّج على فلسطين، فرسمه أسقف أورشليم كاهناً، لما رأى فيه من رفعة الخلق وسموّ الفضيلة. غير أنّ هذا العمل لم يرق بطريرك الإسكندرية، فعقد مجمعاً محلياً قرّر فيه تجريد أوريجانوس من رتبته الكنسية لأنّه رسم على يد أسقف لا سلطان له عليه، ولأنّه خصى نفسه، ولأنّ أفكاره اللاهوتيّة كانت غامضة وغير مطابقة لتعليم الكنيسة، على حدّ تعبيره. فلجأ أوريجانوس إلى فلسطين بعد هذا القرار، فاستقبله أسقف قيصرية، فأنشأ فيها مدرسة لاهوتية عظيمة وتتلمذ له كثيرون من بينهم غريغوريوس العجائبي وأخوه أثينورس (50) . ولمّا عزل ديمتريوس عن كرسي الإسكندرية خلفه بريكلاس، فرفع الحرم عن أوريجانوس، وطلب منه العودة إلى الوطن، لكنّه آثر البقاء في فلسطين صارفاً بقيّة حياته في التعليم بالمدرسة التي أنشأها.
سيق إلى السجن في عهد الإمبراطور داكيوس الدموي (251 – 253) ، فتحمّل عذابات كثيرة، ولم يُرَد قتله لينتزعوا منه جحوداً علنيّاً ليذلّوا المسيحيين بهذا الجحود فلم يستطيعوا.. ولكن صحته تدهورت كثيراً بسبب هذا الاضطهاد إلى أن مات في مدينة صور وهو في السبعين من عمره، سنة 253/254 على الأرجح (51) وبقي ضريحه معروفاً في المدينة حتى القرن الثالث عشر (52) .
2 - مؤلفاته :
لم تعرف المسيحية في تاريخها كاتباً غزير الإنتاج مثل أوريجانوس. فقد طرق كل المجالات الفكرية من شرح للكتاب المقدّس وتفسير للعقائد المسيحية ودحض للبدع الشاذّة وغيرها من المواضيع المختلفة. يعزو أبيفانوس أسقف سلمين (53) إليه ستة آلاف مجلّد وأوسابيوس يشهد بألفين كتاب. بيد أنّ هذه الأرقام الخيالية تبقى موضوع تساؤل، لاسيّما أنّ المجلّدات في العصور الغابرة يختلف كليّاً عن تحديدها الحاضر. فالكتابة آنذاك كانت تتمّ على نوع من الرقّ لا يتجاوز طوله المترين. وعلى كلّ حال فإنّ أكثر من نصف مؤلّفات أوريجانوس فُقد، لاسيّما من جرّاء الأحكام التي فرضت عليه في المجمع القسطنطيني الثاني (553). يقول أوسابيوس: "كتب أوريجانوس تفسيراً لأشعيا وتفسيراً لحزقيال في الحقبة نفسها. ومن هذه التفاسير وصلنا ثلاثون كتاباً عن أشعيا ... وخمسة وعشرون عن حزقيال .. وإبّان ذهابه إلى أثينا أنجز تفسير حزقيال، ثمّ شرع في دراسة سفر نشيد الأناشيد فكتب عنه عشرة" (54) .
يمكننا تصنيف مؤلفاته على النحو التالي:
أ - المؤلّفات الكتابية :
لم يترك أوريجانوس سفراً من الكتاب المقدّس إلاّ وأنعم فيه درساً وتمحيصاً. ولقد حصلنا على قائمة واضحة بكتبه في هذا الحقل، من الكتاب السادس لأوسابيوس المؤرخ في "تاريخه الكنسي". أمّا أهمّ كتاب تركه فهو بلا منازع " السداسي " (55).
1) "السداسي" Exapla Vivlia :
بدأ أوريجانوس كتابة هذا المؤلَّف سنة 212 ولم ينته من إنجازه إلاّ سنة 243، وقد أسهم أمبروسيوس أحد تلاميذه المرتدّين (56) في سدّ نفقات القسم الأكبر منه.
قسَّم أوريجانوس كتابه إلى ستة أعمدة متوازية، يحوي العمود الأوّل نصّ العهد القديم بالعبرية، والثاني النصّ العبري ولكن بحرف يوناني، والثالث الترجمة اليونانية المنسوبة إلى أكويلا (57)، والرابع ترجمة يونانية المنسوبة إلى سيماخوس (58) ، والخامس الترجمة السبعينية، والسادس الترجمة اليونانية المنسوبة إلى تيودوتيون اليهودي(59) . وقابل أوريجانوس هذه النصوص بعضها ببعض مركّزاً خصوصاً على العمود الخامس ومصححاً الترجمات الردئية.
يهدف الكتاب إلى عرض نصّ مضبوط للترجمة السبعينية التي كانت تعدّ ملهمة في ذلك الحين (60) ، وله منزلة خاصة في الأوساط العلمية لأنّه أوّل محاولة جريئة لضبط نصوص العهد القديم على أساس منطقي سليم، وقد فتح أمام علماء الكتاب المقدّس آفاقاً واسعة خصوصاً في ما نسمَّيه اليوم بالأناجيل الإزائية Synoptique.
لم يبق من هذا المؤلَّف الضخم إلاّ اليسير. ولقد استعان به القديس ايرونيموس في ترجمته اللاتينيّة للكتاب المقدّس المعروفة باسم "الشعبية" (Vulgata).
2) العظات والتفاسير الكتابية:
إلى جانب "السداسي" ترك أوريجانوس مخطوطات متنوّعة حول الكتاب المقدّس، جاءت إما شرحاً للمقاطع الصعبة Scholia، وإمّا وعظاً Omilia، وإمّا تفسيراً Ermyneia.
لم يبقَ إلاّ بعض النُتَف الضائعة من السخوليات في كتاب "الفيلوكالية" الذي نسّقه ورتّبه في ما بعد القدّيس باسيليوس الكبير مع صديقه القدّيس غريغوريوس النازيانزي (61) . أمّا العظات فقد حفظ منها قسم لا بأس به وهي على النحو التالي: 20 عظة عن إرميا، واحدة عن صموئيل، 13 عن سفر الخروج، 16 عن سفر التكوين، 16 عن سفر الأحبار، 22 عن سفر أيّوب, وأمّا المؤلّفات التفسيرية فقد ترك أوريجانوس منها 25 تفسيراً لإنجيل متى لم يبق منها إلاّ 8، و 32 تفسيراً لسفر يشوع بن نون لم يبق منها إلاّ 8 (62) .
ب - المؤلّفات اللاهوتيّة :
يتفرّد أوريجانوس في مؤلّفاته العقائدية بأنّه أقدر لاهوتي أقحم الفكر المسيحي في قالب منهجي منظّم، مكمّلاً ما بدأه كل من القديسين يوستينوس وإيرناوس واكلمنضس الإسكندري، وسابقاً القدّيسين يوحنا الدمشقي (749) وتوما الاكويني (1274) بأجيال. ومن المؤلّفات المهمّة التي خلّفها في هذا الحقل نذكر "الرد على كِلْسُ" و"حول المبادئ" و"الحوار مع هراقليذس" و"حول القيامة" و"كتاب البسط"..
1) "الردّ على كِلْسُو" (63) Kata Kelsou :
تجرّأ أحد المفكّرين الوثنيين يدعى كلس فنشر كتاباً ضدّ المسيحيين عنوانه "اللوغوس الصادق" في عام 180 ، لبث فترة طويلة مجهولاً في الأوساط المسيحية إلى أن تنبّه لخطره أمبروسيوس أحد تلاميذ أوريجانوس، فحثّ معلّمه بإلحاح على الردّ عليه، على حسب ما ورد في المقدّمة، لتلافي كلّ ضرر ممكن في المستقبل: "عندما شهد شاهد الزّور على مخلّصنا وربّنا يسوع المسيح لزم الصمت. وعندما أتّهم باطلاً لم يجب بشيء. لقد كان مقتنعاً أنّ كلّ حياته وأعماله بين اليهود أفضل من أيّ كلام لدحض شهادة الزور وأسمى من أيّ كلام يقوله للردّ على الاتهامات. ولست أدري يا أمبروسيوس المحبّ لله لماذا تريدني أن أكتب للردّ على اتهامات كلس الباطلة التي وردت في كتابه ضدّ المسيحيين وضدّ إيمان الكنيسة..." (64) .
اتبع كلسُ في كتابه مبدأ التهكّم على المسيحيين. يقول: "ليرجع المسيحيون إلى طرقهم القديمة ويكّفوا عن اتّباع هذه السخافة التي اخترعت حديثاً وهي عبادة يهودي صلب في ظروف مشينة. ليرجعوا إلى العبادة، عبادة الآلهة الكثيرة، إلى عادات آبائهم. إنّ المسيحية بدعة حديثة وخطرة، وإن لم توقف أضحت نكبة على الإمبراطورية الرومانية" (65) .
ردّ أوريجانوس على هذا التهكّم الساخر مفنّداً آراء كلس واحدة واحدة، وداحضاً أقواله الكاذبة عن المسيح وأتباعه. وقد ردّد في كتابه أكثر من مرّة أنّ رسالة المسيح ستبقى عرضة للاتهامات لأنّ الشرّ لم يندثر بعد نهائياً من العالم، يقول: "على كل حال، إنّ يسوع معرَّض لشهادات الزور في كل الأوقات. وطالما أنّ الشرّ باقٍ في العالم فهو معرّض للاتهامات بصفة دائمة. وعلى الرغم من ذلك فإنّه يبقى صامتاً أمامها دون أن يقدّم إجابة مسموعة، واضعاً دفاعه في حياة تلاميذه الحقيقيين. وهذه الحياة تعتبر شهادة سامية جدّاً تسمو فوق كلّ شهادة زور وتفنّد وتهدم كلّ الهجمات وكلّ التّهم التي لا أساس لها" (66) .
2) "حول المبادئ" (67) :
يعالج أوريجانوس في مؤلّفه هذا أربعة مواضيع رئيسة هي تساؤلات يطرحها كلّ إنسان يبحث عن الحقيقة: الله والعالم والحريّة والوحي.
يبدأ أوريجانوس كتابه بمقدّمة تعرّف عن أنّ المصدر الرئيس لكلّ معرفة دينية هو يسوع المسيح ورسله. يقول: "إنّ كلّ الذين يؤمنون ويعتقدون أنّ النعمة والحقيقة تنجمان عن يسوع المسيح، وأنّ المسيح هو الحقيقة بالذات بحسب تأكيده الثابت "أنا الحق"، لا يبحثون عن حقيقة الفضيلة والسعادة في موضع آخر بل في كلام المسيح وعقيدته" (68) . وبعد التشديد على شخص المسيح كمصدر لكلّ حقيقة، يتابع أوريجانوس بحثه معلناً أنّ كلّ الذين يؤمنون به لا يتّفقون على إيمان واحد، خصوصاً في المعضلات الصعبة. لذلك ينصح الجميع بالعودة إلى الينابيع الرسولية والتقليد الكنسي. وهنا يبتدع علامتنا منهج التساؤل الذي بواسطته يفتتح باب النقد اللاهوتي والكتابي: "ينبغي أن نفقه أنّ الرسل القدّيسين بينما كانوا يبشّرون بالمسيح أوضحوا للمؤمنين... بعض الحقائق الضرورية... أمّا الباقي فقد اكتفوا بتأكيده من دون أن يتطرّقوا لا إلى الـ"لماذا" وإلى الـ"كيف"، مفسحين في مجال العمل بدون شكّ لهواة العلم والحكمة في القرون اللاحقة" (69) .
بعد أن حدّد أويجانوس الخطّة التي سوف ينتهجها في بحثه اللاهوتي انتقل إلى معالجة المواضيع الأربعة في أربعة كتب:
ففي الكتاب الأوّل يتطرّق إلى وحدانية الله والأقانيم الثلاثة وعلاقتهم المتبادلة حيال الخليقة. فالآب يملك على كل الخلائق، والكلمة على الكائنات العقلية أو النفوس، والروح القدس على الكائنات العقلية والمقدّسة. ومن ثمّ ينتقل إلى مسألة سقوط الملائكة، وخصوصاً فكرة الإصلاح النهائي.
وفي الكتاب الثاني يشرح أوريجانوس قصّة خلق العالم وسقوط الإنسان. فالإنسان هو ملاك ساقط حكم عليه أن يسجن في الجسد لوقوعه في الخطيئة، بيد أنّ المسيح سوف يخلّصه من السجن والظلمة.
أمّا في الكتاب الثالث فيعالج مواضيع أخلاقية مشدداً على موضوعي الإرادة والحريّة، ومنتقلاً من ثم إلى مسألة إصلاح الله لصورة الإنسان الأصلية.
وأخيراً يشدّد أوريجانوس في الكتاب الرابع على أهميّة الكتاب المقدّس وكيفية وحيه، معتبراً إيّاه المصدر الأوّل لإيماننا.
3) "الحوار مع هراقليذس" :
تتحدّث قصة الكتاب عن استدعاء أوريجانوس إلى بصرى، وكان راعيها الأسقف هراقليذس، للنقاش معه بسبب انتشار بدعة جديدة عرفت بالمونارخية، في بلاد العرب، في القرنين الثاني والثالث، وبالتحديد في بصرى – حوران، غاية هذه البدعة التأكيد على وحدانية الله. ولقد جرى نقاش بينه وبين الأسقف في الكنيسة على مرأى من الأساقفة والكهنة والشعب واتّفق الاثنان في نهاية الحوار على القول بإلهين وبقدرة واحدة (70).
بقي هذا الكتاب ضائعاً إلى أن اكتشف في طرّة بمصر 1941، وترجع المخطوطة إلى القرن السادس.
ت - المؤلّفات الروحية :
إلى جانب المؤلّفات الكتابية والدفاعية والعقائدية ترك أوريجانوس مؤلّفات روحية مهمّة أسهمت كثيراً في إحياء الحياة الروحية في الأوساط الشعبية والرهبانية على حدّ سواء. نذكر الأهم:
1) " في الصلاة " :
كتب أوريجانوس مؤلّفه هذا بناء على طلب من صديقه أمبروسيوس وهو يحتوي على موضوعين، الأوّل يدور حول الصلاة بشكل عام والثاني يتضمّن شرحاً للصلاة الربيّة (الأبانا).
يبدأ أوريجانوس كتابه مبيّناً أنّ ما يستحيل على الطبيعة البشرية يضحي ممكناً بواسطة نعمة الله ومعونة المسيح والروح القدس. ثم يتابع بحثه معلناً أنّ غاية الصلاة في النهاية هي الدخول في شركة مع روح الرب المالئ السماء والأرض، للإطلاع على جماله الإلهي. أخيراً، في الجزء الثاني، يسترسل في تفسيره "الأبانا"، فيقول: "إنّ الذين حصلوا على روح التبنّي يمكنهم وحدهم بحقًّ أن يصلّوا هذه الصلاة، شرط أن يبرهنوا بأفعالهم أنّهم أبناء على صورة الله" . (71)
2) " رسالة في التحريض على الاستشهاد " :
يدعو فيها كلّ مسيحي ملتزم إلى التمسّك بإيمانه حتى ولو أدّى إلى الاستشهاد.
3) " رسالة إلى تلميذه غريغوريوس العجائبي " :
يحثّه فيها على الأخذ من الفلسفة اليونانية بما هو مفيد للمسيحية، مع التشديد على أوّلية الأسفار المقدّسة كمرجع أوّل لكلّ مسيحي.
4) " رسالة إلى يوليوس الأفريقي " :
هي دراسة عن قانونية بعض الفصول اليونانية من سفر دانيال النبي، كنشيد الفتية الثلاثة في الأتون (3:24 – 49) وغيرها...
3 - تعاليمه :
يبقى أوريجانوس، في غزارة كتاباته المتشعّبة، معلّم الكنيسة على مدى الأجيال، فالمجالات التي تطرّق إليها تخوّله بحقّ أن يكون في طليعة أصحاب الفكر المسيحي، ممّا جعل المفكّرين والكتّاب المسيحيين في القرون اللاحقة يتسارعون لينهلوا من معينه الصافي، لاقتناعهم بغنى عبقريته ورجاحة حكمته. وإنّه ليصعب علينا في هذه العجالة أن نفيه حقّه، لذا سنحاول أنّ نطّلع باقتضاب على ما جاد به فكره.
أ - علوم الكتاب المقدّس :
تأثّر أوريجانوس بطريقة الفلسفة الأفلاطونية في تفسير النصوص الرمزيّة الأليغورية Allégorique الرائجة في عصره. التي أبدع فيها الفيلسوف الكبير فيلون الإسكندري اليهودي الذي لقب بـ"أفلاطون اليهود" (72) ، مبتكراً "علم التأويل".
لقد طبعت الأليغوريّة والتأويليّة مجمل مؤلّفات أوريجانوس. ففي تفسيره للكتاب المقدّس استعار تحديد أفلاطون للكائن البشري المركّب من ثلاثة عناصر، الجسد والنفس والروح، وطبّقه عليه بقوله إنّ للكتاب المقدّس طبقات عدّة للفهم، أو هناك ثلاثة مفاهيم له: المفهوم الحرفي (الجسدي)، والمفهوم الأخلاقي (النفسي)، والمفهوم الروحي الذي يفضي بنا إلى فهم الأسرار المسيحية العويصة.
هذه المفاهيم الثلاثة تشبه إلى حد كبير الطباع البشرية وقد قسمها أوريجانوس ثلاث فئات: البسطاء الذين يفهمون الكتاب المقدّس بحرفه، والمقدّمين الذين يذهبون إلى أبعد من النص الحرفي مستندين إلى استعارات ورموز أدبية، والكاملين الذين يلجون في تفسيرهم إلى جوهر النصوص وأبعادها الروحية.
بهذا التفسير الجديد للكتاب المقدّس قلب أوريجانوس مفهوم التفسير الكتابي رأساً على عقب، فاتحاً أمام الأجيال المسيحية آفاقاً واسعة لا تحد. ولا عجب، فالمفهوم التاريخي لأحداث الكتاب المقدّس ليس إلاّ خطوة أولى نحو صميم الحياة الروحية، غاية كلّ مسيحي.
"عندما يتوّجه إلينا كلام الله، لابدّ لنا، لنستطيع أن نفهمه، من الصلاة وطلب نعمة الإصغاء.. "ولا يرفع البرقع إلا متى رجعوا إلى الرب" (2كور3/16): فالانتقال من الحرف إلى الروح، في نظر أوريجانس، يتمّ في الوقت عينه في التاريخ وفي داخل كلّ نفس. إن مجيء المسيح قد أعطى العهد القديم معناه، وحركة التوبة تزيل عنّا البرقع. فإن فهم الكتاب المقدّس لا يُعطى لحذاقة الفكر بل لنقاوة القلب"(73) . يقول: "ارتكز أولاً في قراءة الكتب المقدّسة على مبدأي الإيمان وقصد إرضاء الله، والأشد ضرورة للفهم إنما هي الصلاة" (74) .
يستعير أوريجانوس فكرة "الصيرورة" من الفلسفة، الهيراقليطيّة خصوصاً، ليُطبقها على "الفهم المتدرّج" للكتاب المقدس.. هناك "عبور في الفهم من الحرف إلى التاريخ ومن التاريخ إلى الروح. "الأعمال التي يذكرها لنا الإنجيليون، يريد المسيح أن يجعل منها رموزاً لما يقوم به من أعمال روحيّة فينا" (75).
يركّز أوريجانوس على أن أهميّة القراءة المتكرّرة لنصوص الكتاب المقدّس تكمن في تطبيقها على واقع الحياة الآنية التي تسير في صيرورة" وتغيّر، ما سميّ اليوم في علم التربية المسيحية "التأوين" Actualisation: "إن ميلاد يسوع وتربيته وقدرته وآلامه وقيامته، لم تحدث في الزمن المعيّن فحسب، بل تعمل فينا اليوم أيضاً"(76) ... "عليك أن ترى في الإنجيل يسوع يشفي كل سقم ومرض، ليس في الزمن الذي صنع فيه هذه الأشفية بحسب الجسد وحسب، بل اليوم أيضاً؛ وتراه لا ينزل إلى البشر في ذلك الزمان وحسب، بل اليوم أيضاً، حيث هو حاضر، كما قال: ها أنا ذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (77).
ب - الثالوث الأقدس :
تضاربت الآراء حول مفهوم أوريجانوس لسرّ الثالوث الأقدس، فمنهم من جاراه في أفكاره حتى النهاية، ومنهم من شجبها جملة وتفصيلاً، ومنهم من أخذ عليه انغماسه في مبدأ التبعية أو الثالوث المتدرّج المتأثر بالمونارخيّة، على الرغم من تشديده على المساواة في الجوهر بين الآب والابن. فالآب هو القائم الأوّل بذاته والخير المطلق، والكلمة الابن هو ثان وصورة لهذا الخير، والروح القدس أدنى مرتبة من الابن. لاشك أن الأفلاطونيّة واضحة في هذه المفاهيم. التي تنافي كلّياً تعليم كنيسة المجامع المسكونية، ولكن لا يغب عن بالنا أنّ العقيدة المسيحية في تلك الآونة كانت تتلمّس طريقها لتجد صيغة تسبك فيها الأسرار المسيحية على أساس سليم.
ت - اللوغس :
المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان: "لمّا كانت طبيعة الله لا تتمازج مع جسم بدون أداة وسيطة، وكانت مادة روح يسوع وسطاً بين الله والجسد، ولد الإله – الإنسان"(78) . هكذا تفرّد أوريجانوس دون سواه باستعمال لفظة واحدة إله – إنسان Theanthropos وأطلقها على المسيح. كما أنّ معظم المصطلحات الخريستولوجية اليونانيّة الشائعة من ابتكاره: "طبيعة"، "أقنوم"، "جوهر"، "مساوٍ في الجوهر"، و"ثالوث" . ولقد لعبت هذه المصطلحات دوراً مهمّاً في النقاشات اللاهوتية الحادّة في المجامع المسكونية خلال القرنين الرابع والخامس.
ث - الأنثروبولوجية والإصلاح الأخير :
لا يختلف أوريجانوس عن الأفلاطونيّة في مفهومه حول الإنسان كثيراً من حيث هو جسد ونفس وروح، لا بل أعطى المعنى المسيحي لهذا المفهوم، خصوصاً عندما يتكلّم عن فكرة الإصلاح النهائي للعالم Apokatastsis.
لقد اعتبر أنّ كل شيء في العالم له حدود ما خلا الله. وبما أنّ الشرّ هو عنصر من عناصر العالم فهو زائل لا محالة، أضف إلى ذلك أنّ الشرّ يتنافى وإرادة الله مصدر كلّ خير وكلّ صلاح (79).
يعلّم أوريجانوس، على ضوء هذا المبدأ، أنّ الكائن البشري مدعوّ برمّـه إلى الخلاص الشامل، لاقتناعه بأنّ محبة الله تعلو سخافات البشر وتفاهاتهم. لإنه من غير المعقول أن يبقى الشرّ إلى الأبد ما دام الله هو الأبدي، لا بدّ للشرّ أن يزول. وبما أن العذاب شرّ، لا بدّ بدوره أن يزول أيضاً، لكي لا يبقى ألا الخير الذي مصدره الله نفسه. وبالتالي لا يوجد عذاب أبدي للإنسان.
إنّ نظرية أوريجانوس عن "الإصلاح الأخير" مرتبطة بنظرية الوجود السابق للنفس. فالنفس كائن روحي، حكم عليها بأن تعيش معذّبة في جسد بشري لانغماسها في الشرّ والخطيئة. ويوضح أوريجانوس أن لفظة نفس Psychi مشتقة من فعل Psychesthai الذي يعني البرد. فالنفس مع الأيّام بردت حيويتها فوقعت في الشرّ (80). فالإصلاح النهائي هو إذاً إعادة الصورة القديمة للنفس إلى أصلها بمعونة المسيح مخلّص العالم.
لكي تتخلّص النفس من الخطيئة، حسب أوريجانوس، ولكي تحصل على التنقية ينبغي لها أن تتوجّه بعد الموت إلى مكان التنقية Katharsis، فترتقي سلّم الكمال درجة درجة حتى تتّحد بالله بعد أن تكون قد تنقّت كلّياً. ويضيف أوريجانوس أنّ هذا الإصلاح لا يعني مطلقاً نهاية العالم، فقبل عالمنا كان يوجد عوالم أخرى، وسوف تظهر بعده عوالم غيرها.
لم تلق فكرة "الإصلاح النهائي" ترحيباً واسعاً في الأوساط الفكرية المسيحية، خصوصاً فكرة عودة الأنفس الساقطة إلى حالتها السابقة. رغم أن بعض الآباء اللاحقين قد تبنّوا فكرة الإصلاح النهائي كالقديس غريغوريوس النيصي (القرن الرابع) شجبت الكنيسة في المجمع المسكوني الخامس (553) الفكرة كلّياً والحكم عليه وعلى أتباعه: "إنّ كلّ من يعلّم وجوداً سابقاً وميثولوجياً للنفوس، يكون الإصلاح النهائي نتيجته، يحرم من الكنيسة" (81).
ج - مريم العذراء :
إنّ أوريجانوس أول من أطلق تعبير Theotokos "والدة الإله" على مريم العذراء. وقد رافقت هذه التسمية معظم الكتّاب الاسكندرانيين ودافعوا عنها خصوصاً في مجمع أفسس (431) الذي رأسه القديس كيرلّس الاسكندري.
ومريم هي أيضاً "أمّ المؤمنين" جميعاً. ففي تعليقه على إنجيل يوحنا يعلن أوريجانوس: "لا أحد يمكنه فهم الإنجيل [إنجيل يوحنا] إلاّ إذا اتّكأ على صدر يسوع وقبل مريم أمّا له" (82) .
ح - الكنيسة :
يحدد أوريجانوس، على غرار بولس الرسول، أن الكنيسة هي جسد المسيح المنظور. فكما أنّ الروح يسكن في الجسد، هكذا يسكن الكلمة – المسيح في الكنيسة جسده السرّي (83). يعلن، في إحدى عظاته عن كتاب إرميا النبي مستعيراً التعبير الأفلاطوني، أنّ الكنيسة هي "مدينة الله" على الأرض، تعيش جنباً إلى جنب مع الدولة، ولكن سوف يأتي يوم تتغلب فيه عليها بمعونة المسيح.
خ - الخطيئة الأصلية والمعمودية :
يعلّم أوريجانوس أنّ جميع الناس خطأة، وأنّ الخطيئة هي نتيجة اتصال النفس بالجسد الفاسد. لذلك فهو أول من بدأ تعليم مفهوم "الخطيئة الأصلية" الذي تبلور مع أغسطينوس في القرن الرابع . لذلك هناك ضرورة للمعمودية منذ الطفولة لمحو هذه الخطيئة. وبواسطتها يحصل المعتمد على غفران الخطايا ، وعلى الولادة الجديدة بالمسيح. وإذا اتّفق أن وقع المعتمد في الخطيئة يمكنه أن ينهض من جديد إذا استعاض ببعض الوسائل الأخرى كالاستشهاد والصدقة والصلاة والتوبة (84).
د - التوبة :
بقي سرّ التوبة في تاريخ الكنيسة موضوع جدل ونقاش حادّ بسبب الغموض الذي كان يكتنفه. فالتيار السائد آنذاك كان يميل إلى عدم تجديد سرّ التوبة، على اعتبار أنّ المسيحي قد استنار وتنقّى من خطاياه في المعمودية فلا يجوز له أن يسقط في الخطيئة من بعد. لكنّ المبدأ شيء والواقع شيء آخر. فقد ظل المسيحيون بعد المعمودية يخطئون ويتصرّفون كباقي الشعوب، فهل يجوز أن يقبعوا في خطيئتهم من دون أن يحصلوا على الغفران؟
لم يكن أوريجانوس بعيداً عن فكرة معاصريه، إلاّ أنّه كان يجيز للخاطئ أن يقرّ بخطاياه أمام الأسقف على مرأى من الجميع، شرط أن يمضي وقتاً في الصوم والتقشّف يحددّها الأسقف نفسه (85).
لقد ميّز أوريجانوس بين الخطايا العرضية التي يسهل محوها بواسطة الصلاة والصوم، والخطايا الرئيسية الثلاث، الجحود والقتل والزنى، التي يمكن محوها مرّة واحدة في الحياة فقط. إلاّ أنّ هذه التشدّد حمل الكنيسة في القرون اللاحقة على اتّباع خطّ معتدل يتناسب وحاجة المؤمنين.
ذ - الإفخارستيا :
يشدّد أوريجانوس على الحضور الفعلي للمسيح في الخبز والخمر في سياق الحديث عن ذبيحة الشكر: "إنّنا نشكر الخالق على كل شيء، متناولين الخبز الذي قدّم إلينا في الشكر والصلاة، لأنّه أضحى بالصلاة جسداً مقدّساً يقدّس الذين يتناولون منه عن استحقاق" (86).
يشدّد أوريجانوس حول أهميّة الفعل الأسراري في الإفخارستيا على أمرين هما: "كلام الرب" و"حلول الروح القدس". وبذلك يجمع بين مفهوم يوستينوس وإيرناوس حول ذلك كما رأينا في حاشية سابقة.
ر- المعلّم الروحي :
إنّ الغرض الأوّل من كلّ تعليم لاهوتي وتفسيري، في رأي أوريجانوس، هو الدخول في شركة روحية وعميقة مع المسيح. ولقد رسم المراحل التي ينبغي أن يتبعها كلّ مسيحي ليحصل على هذه الشركة.
إنّ درب الكمال في المرحلة الأولى طويل وشاق، لذلك ينصح المؤمن بأن يعرف أوّلاً ذاته معرفة حقيقية. وفي المرحلة الثانية يدعو المسيحيين إلى شنّ حرب متواصلة على الأهواء وكلّ تعلّق دنيوي مفرط، لتفادي الوقوع في الخطيئة. فكلّما سيطر الإنسان على ميوله شعر براحة داخلية تحمله على التعلّق بالروحيات.
كما يحرّض عليها أوريجانوس: السهر والتأمّل العقلي والصوم والقراءة اليومية للكتاب المقدّس. وبذلك كلّه يدخل المسيحي في علاقة حميمة مع الكلمة – المسيح، فيضحي هذا الأخير محور حياته وتفكيره (87).
خاتمة :
لقد حلّق العلاّمة أوريجانوس في جميع الميادين، وطرق أبواب العلم كلّها، وكان انتقائياً في تفكيره ولامعاً في تدريسه. لذلك فهو واحد من قلّة من آباء الكنيسة، كان له، بالرغم مما نسج حوله، ولم يزل، تأثير عميق وواسع.
القدّيس أثناسيوس الكبير
1 - حياته :
إنه البطريرك العشرون على كرسي الإسكندرية ومعروف بـ"حامي الإيمان القويم". ولد في صعيد مصر حوالي سنة 296 من أبوين مسيحيَين فقيرين. كان والده كاهناً، علّم ابنه روح التقوى والاتضاع. عاش طفولته في مدينة اخيم ويرجح أنه كان يمارس مهنة البناء.
التحق بمدرسة الإسكندرية الشهيرة، وتردد على البادية حيث تتلمذ على القديس أنطونيوس الكبير، كما يشهد هو نفسه قائلاً: "لقد رأيت أنطونيوس مراراً وتعلّمت منه لأنني لازمته زمناً طويلاً وسكبت ماءً على يديه" (88) . وأنهى سنة 313 دروسه اللاهوتية والفلسفة والبلاغة والشعر وعلم القانون الروماني، وألّف كتابين: "ضد الوثنيين" و" تجسد الكلمة" وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره, فلفت انتباه اسقفه الكسندروس لحدة ذكائه وسعة إمكاناته فاهتم بمتابعته عن كثب. فرسمه شماساً عام 319، ثم رئيساً للشمامسة. وجعله البطريرك أمين سرّه، وبادر معه إلى ترتيب أمور الكنيسة التي خرجت من مرحلة اضطهاد الإمبراطور ذيوكليسيانوس، ورافقه إلى مجمع نيقية عام 325، لمواجهة بدعة آريوس.
توفى البطريرك الكسندروس سنة 328، فخلفه تلقائيّاً تلميذه أثناسيوس، فرُسم أسقفاً على الإسكندرية عن يد العديد من الأساقفة وكان عمره لا يتجاوز الثانية والثلاثين. ليبدأ رحلة طويلة وشاقّة مع اتباع آريوس والآريوسيّة المنتشرة بكثافة من جهة، ومن جهة أخرى تدخلات الأباطرة في الشأن الكنسي، وانحياز بعضهم إلى الآريوسيّة. فتعرّض للقسوة والأكاذيب والوشايات والنفي إلى أبعد الأماكن، إذ إنه قضى ما يزيد على الثمانية عشرة سنة في المنفى من فترة اسقفيته التي دامت خمساً وأربعين سنة (328-373) (89) . حيث قام أولاً بمواجهة الآريوسية على عهد الإمبراطور قسطنطين (328-337)، الذي نفاه إلى تريف بفرنسا لمدة 18 شهراً، خوفاً على حياته من تهديدات الآريوسيين، الذين اتهموه باطلاً بأنه منع تأدية ضريبة الحنطة إلى القسطنطينية، بأنه قتل أسقف، وزنى، وقام بتكسير أوانٍ مقدسة… ثم عُزل أيضاً في مجمع أنطاكية سنة 339 على عهد الامبراطور قسطندس الثاني (337- 361)، وعيّن غريغوريوس مكانه فدخل الإسكندرية بالقوة وبمعاونة الجيش إلى الإسكندرية. إذاك توجه أثناسيوس إلى روما ليحظى بحماية البابا يوليوس. ولمّا توفى البابا سنة 350 وأصبح الامبراطور الآريوسي هو الآمر الوحيد عقد مجمعَين في آرل بفرنسا سنة 353 وفي ميلانو بإيطاليا سنة 355 واجبر فيهما الأساقفة الغربيين على توقيع حكم النفي على أثناسيوس مخيّراً إياهم بين النفي والتوقيع.
عاد إلى رعيته بسلام في عهد الأمبراطور قسطندس الثاني (361-373) إلى يوم وفاته سنة 373.
2 - كتاباته : (90)
أسلوبه بسيط، منسّق، منطقي، منظّم، فيه شيء من البلاغة والمنطق.
حاول تحرير اللاهوت من فلسفة أفلاطون، على حدّ قوله، ليبنيه "على تجسّد المسيح".. فكان في هذا الاتجاه متصلّب الرأي.
يكرّر في كتاباته الأفكار والتعابير، فيُبرّر ذلك بقوله: "وجب علينا توضيح المعنى الواحد على وجوه مختلفة، لكي لا يظن بنا أننا تركنا ناحية من النواحي كأننا نتكلم عن عجز وتقصير. لأنه خير لنا أن نتعرّض للانتقاد واللوم بسبب التكرار من أن نترك ناحية كان يجب تفصيلها".
يستخدم "وجوهاً وصوراً مختلفة" من خلال طريقة "التكرار" التي يتبعها، فتبدأ بحلقة صغيرة تضم فكرة رئيسية ثم تتسع الحلقة إلى حلقة أخرى يضيف فيها فكرة أخرى رئيسية، وهكذا حتى يصل إلى نهاية الموضوع، وهذا ما نلحظه بوضوح في كتابه " تجسد الكلمة"...
يمكننا تصنيف كتاباته كما يلي:
أ - عقائدية :
"ضد الوثنيين"، "تجسّد الكلمة" (سنة 318)، "احتجاج ضد الآريوسيين" (351)، "تاريخ الآريوسية"، أربع مقالات "ضد الآريوسية" (358)، "في الثالوث والروح القدس" (365)، بالإضافة إلى رسائل موجهة إلى أساقفة، أباطرة، مجامع، …الخ.
ب - كتابيّة :
"تفسير المزامير"، هو عبارة عن عناوين وشروحات وجيزة تتقدم كل مزمور لتبيّن موضوعه العام.
لديه مقال آخر على "تفسير المزامير" موجه إلى مرسيلّينوس يتمحور حول استعمال المزامير في الصلاة ويؤكد شيوع استعمالها في الكنيسة، لأنها تجمع في إيجاز روح أسفار الكتاب المقدس مع تطبيقها للاحتياجات الروحية، فيقول: "إن ترتيل المزامير ليس بقصد تأثيرها الموسيقي بل ليتمكن المصلّي من التأمل الهادئ في معانيها".
وكتب أيضاً بعض التفاسير على إنجيل متّى وإنجيل لوقا.
ج - روحيّة :
كتب "حياة وسيرة القديس أنطونيوس الكبير" الذي تأثر به كثيراً، وذلك خلال فترات نفيه بين تريف في فرنسا وروما وغيرهما. وحيث نمت صداقات بينه وبين أساقفة الغرب، رأى الفرصة مؤآتية لتعريف الغرب بالرهبنة المصرية، فكتب هذه السيرة التي لقيت إعجابًا منهم.
كتب أيضاً مؤلفات ذكرها المؤرخون القريبون من عصره لكنّها مفقودة: "خطاب بعثه لتعزية العذارى اللواتي أساء معاملتهن الوالي جاورجيوس الآريوسي فلم يسمح بدفن موتاهن"؛ "رسائل فصحية" إلى القديس باسيليوس الكبير.
3 - تعاليمه :
لم يأتِ أثناسيوس بجديد، ولكن مما لا شك فيه أن فكره ومصطلاحاته، بما في ذلك تعبير "المساوي في الجوهر" النيقاوي، متأثّرة بـ"مدرسة الإسكندرية"، التي كانت ولم تزل إلى أيام أثناسيوس وبعده مشبعة من الفكر الأوريجانّي في طُرق البحث والشرح والتحليل، وفي الوقت ذاته كان يصحّح ويقوّم أفكار سابقيه على ضوء الوحي المقدس في الإنجيل؛ فحاول الذهاب من "لوغوس" الفلسفة إلى "لوغوس" إنجيل يوحنا، ومن إله الفلاسفة إلى الله المعتلن في المسيح يسوع. لقد أكد دوماً على الحفاظ على "التقليد والعقيدة والإيمان الذي تركه لنا الرب يسوع وأعلن عنه الرسل وحافظ عليه الآباء". فاستعمل الفلسفة في خدمة اللاهوت لتوضيح العقيدة الإيمانية. إذ إن العقل لوحده لا يستطيع أن يبلغ عمق اللاهوت. وقد دافع بوضوح عن تساوي الابن في جوهر الآب, وتكلّم بوضوح, فاق من جاء قبله, عن طبيعة وولادة الكلمة... فحقق للأجيال القادمة, أساساً راسخاً للعمق اللاهوتي في الخريستولوجيا والثالوث.
أ – الثالوث الأقدس :
يؤكد أثناسيوس أن الثالوث ليس في داخله خالق ومخلوق, بل إنه قوةٌ خالقة. وبهذا يستبعد الفكرة الهلينية التي تؤكد على ضرورة "الوساطة" لخلق العالم. وبذلك فهو يرفض تعاليم آريوس في هذا الموضوع. وبينما يضع آريوس "اللوغوس الكلمة" في دائرة المخلوقات, يضعها أثناسيوس في دائرة الخالق، إنه "مولودٌ غير مخلوق"، وبما أنه "ابنٌ" فهذا بطبيعته من جوهر الآب, وليس من إرادة الآب، لذلك لا نستطيع أن نقول عن الابن أنه مخلوق من قبل الآب، بل هو من جوهر الآب ومولود قبل كل الدهور، إنه إله من إله، نور من نور،... وهذه الولادة مختلفة عن ولادة البشر لأن الله غير متجزئ إنه إله واحد. ولهذا السبب فإن الابن أزلي كأزلية الآب. وبما أنّهما من طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهيّة فإنهما ليسا اثنان عددياً بل واحد في الجوهر، وهو ابنٌ وحيد من طبيعة الآب، ولذلك قال يسوع: "أن الآب أعظم مني"، لأنه وَلَدَ الكلمة قبل الدهور... فالكلمة إذن, كما شهد مجمع نيقيا, من جوهر الآب, ومساوٍ للآب في الجوهر (Omo-ousios)...
ب - الخريستولوجيا والخلاص :
لم يمنع تركيز لاهوت أثناسيوس على علاقة الآب والابن, من أن يهتم أيضاً بقضايا خريستولوجيّة. ورغم أنه كان يؤكد على اختلاف جوهر الطبيعة الإلهية عن جوهر الطبيعة البشرية, فقد كان يؤكد أيضاً على وحدة شخص المسيح. فكل ما فعله السيّد لكونه إلهاً وكونه إنساناً ينبع من شخصٍ واحد.
إن المخلص كان دوماً إلهاً وابناً بما أنه الكلمة, بهاء وحكمة الآب, وبعد ذلك ومن أجل خلاصنا, أخذ جسداً من مريم العذراء, والدة الإله, وصار إنساناً.. إنّ جذور "الكلمة" عند أثناسيوس هي في المخطط الإلهي الخلاصي. وبهذا يؤكد أثناسيوس ضرورة تجسد وموت كلمة الله الخلاصية. فلولا التجسد لما كان الخلاص، ولولا ألوهية المسيح لما كان الخلاص حقيقياً. ففي تجسّد الله الكلمة تألّه جنس البشر، لأنه غلب الموت، لا من أجل ذاته، بل من أجلنا نحن البشر. وهكذا يُجذّر أثناسيوس ضرورة التجسّد وضرورة موت المسيح في إرادة الله الخلاصية. ويتساءل: بعد سقوط الإنسان، مَن ذا يستطيع أن يرى الله؟.. أو حتى أن يعرفه؟!.. فيجيب قائلاً: "مَن الذي يقوم بتعليم العالم عن الآب؟… لعل أحداً يقول أن العقل البشري يدرك الآب من تلقاء نفسه. ولكن العقل البشري يعجز عن مقاومة غواية الأرواح الشريرة. ولعل أحداً يقول أن الخليقة تتحدث بمجد الله. ولكن الخليقة موجودة والبشر لا يزالون يتخبّطون في ضلال عن الله!.. تركوا الله وأظلمت أنفسهم فصوَّروا لأنفسهم تماثيل وأصنام، حولوا مجد الله إلى الخشب والحجارة. حلّ الكون مكان الله لا بل نصّب البشر أنفسهم آلهة. وعندما احتلت كل هذه مكان الله في نفس الإنسان، لم يعد هذا الأخير محتاجاً إلى نظام فلسفي ينقذه من ضلاله، بل إلى قوة الله القادرة على تجديد النفس أو الميلاد الثاني.. انحطَّت نظرات البشر إلى أسفل، وكأنهم غاصوا في العمق باحثين عن الله في الطبيعة وفي الحسّيات. فجاء الإله المتجسد وأعلن عن نفسه. إن مخلص الكل، المحبَّ البشر، كلمةَ الله اتخّذ لنفسه جسداً، وكإنسان مشى بين الناس وقابل إحساسات كلّ البشر في منتصف الطريق حتى يتعرفوا على الله في الجسد، وأن يدركوا الحقّ بما يعلنه الربُّ في جسده ويُدركوا الآب به"(91).
لذلك، فإن وحدة شخص المسيح تسمح لنا أن نعبده في طبيعته البشرية، وتجسده وموته لا يُحسبا عاراً بل فرط من المحبة والعطاء.
ج – الروح القدس :
إن الروح القدس هو إله من إله, لأنه لو كان خليقة لما كانت أية شراكة في الدائرة الإلهية. إنه من جوهر الآب, وينبثق عنه.
د - الكتاب المقدّس و"التقليد" :
أن الآريوسيين وأنصارهم استعملوا نصوص الكتاب المقدّس ليدافعوا عن موقفهم، وأرادوا حصر البحث اللاهوتي فيه وحده، فاختاروا منها ما يؤيّد موقفهم اللاهوتي.
احتكم أثناسيوس في تصديه لهم، كما ايريناوس قبله، إلى "قوانين الإيمان" الأولى، البسيطة والوجيزة، التي درسنا في القسم الأول؛ فقال أن التفسير الصحيح لآيات الكتاب المقدس يصبح ممكناً من خلال المنظور الإيماني كاملاً. لاشكّ أن الكتاب المقدس كافٍ بحد ذاته: "إني أعتقد أن الأسفار المقدسة الملهمة كفيلة بحد ذاتها أن تُعلن الحق"(92) ، ولكن إن فُهم في إطار الإيمان الحيّ، وبتوجيه من قانون الإيمان نفسه، الحاضر بكثافة في خبرة الكنيسة المعاشة، كما حفظها لنا "التقليد المقدّس"، الذي تناقلته جيلاً بعد جيل بفعل "تسلسل الخلافة الرسوليّة".
يؤكد أثناسيوس أن "التقليد" هو من المسيح نفسه، أما التعليم فيتم بواسطة الرسل، والإيمان هو من الكنيسة الجامعة. يقول في رسالته إلى سيرابيون: "لننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها الذي أعطاه الرب وبشّر به الرسل وحفظه الآباء، لأن الكنيسة أَُسست عليه، ومن يسقط منه شيئاً لا يُعتَبَر، بل ولا يكون، مسيحياً"(93) . فالكتاب المقدس بنظره هو من نتاج "التقليد الرسولي". ولم يستخدم لفظة "التقليد" بصيغة الجمع لأن وحدة التقليد، برأيه، هي البرهان الحاسم الذي قدّمه ضدّ الآريوسيين.
هـ - الأنثربولوجيّة المسيحيّة والمعرفة اللاهوتيّة (Gnosis) :
المسيحية ليست اعتناقاً لأفكار خيالية لا جذور لها في الكيان الإنساني، بل إن معرفة المسيح مبنيّة على جذور عميقة في النفس. تحتاج هذه الجذور إلى تجديد وانتباه لكون الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.
إن دراسة الإيمان المسيحيّ هي دراسة حياة الإنسان وتطوره ودراسة "صيرورته إلهاً"، إنها أنثروبولوجيّة بامتياز، كما رأينا في فكر إيرناوس. لذلك يحتاج الإنسان إلى المعرفة الـGnosis الآتية من الخالق لكي يتمكن من العيش كإنسان ويتمتع بالقدرات والمواهب التي وهبها الله للطبيعة الإنسانية، فـالـ Gnosis الآتية من الطبيعة يجب أن تخضع للـ Gnosisالآتية من المسيح. فلو كان الإنسان في حالته الأصليّة، كما خُلق قبل السقوط، لتمكّن من أن يتعلّم الكثير عن الله من الخليقة ومن الكون ومن الآخرين. ولكن بسبب وضعه الطارئ، فإن هذه المعرفة ليست كافية. فلو كانت كافية لما حدثت كل هذه الشرور الجسيمة مطلقاً. فبعد السقوط لم يكن الإنسان بحاجة إلى نظام فلسفي لينقذه من ضلاله بل كان بحاجة إلى قدرة الله لكي تجدّده وتجدّد نفسه. ما جعله يحتاج إلى "معرفة" الله حتى يكوِّن "غنوصيّاً حقيقياً"، فجاء الإلـه المتجسد وكشف عن نفسه: "الـ Gnosis الحقيقيّة لا تتم الاّ في اشتراك الإنسان في لاهوت الكلمة".
يحاور القديس أنطونيوس الكبير الفلاسفة الوثنيين الذين جاؤوا للاستهزاء به، بحسب السيرة التي كتبها اثناسيوس، فيقول لهم: "إن الإيمان الحيّ أسبق من البرهان المنطقي، إنّه المعرفة الحقيقيّة، والإيمان يستند إلى ميل النفس، أمّا الجدلية فتستند إلى فنِّ الكلام".. "البراهين المنطقية ليست مهمة عند الذين يملكون الإيمان الحي، والمسيحيون لا يملكون سرّ الحياة المسيحية في حكمة كلام اليونانيين بل في قوة الإيمان الحقيقي".
يدعو أثناسيوس إلى ضرورة مقارنة الديانة المسيحية مع غيرها من الديانات، فالمقارنة لازمة لفهم الإيمان الذي نؤمن به. الـ Gnosis اللاهوتيّة، في نظره كما عند إيرناوس وأويجانوس، هي "تدرّج" في فهم "التدبير الإلهي". لأن "التدرّج" في "التدبير" ينطلق من العهد القديم إلى العهد الجديد، ويستمرّ. فبتنازل الإله نتدرّج في "معرفة التدبير" بحدّ ذاته، ويصبح التجسد "كشفاً عن الله، وارتفاعاً إلى معرفة حقيقته".
و- الخلق والخالق :
لم تؤمن الفلسفة اليونانيّة بالخلق، فالكون (Cosmos) أزليّ أبديّ، غير حادث ولا مخلوق. لذلك شكّلت البشارة المسيحية عند انتشارها تحديّاً لهذا المنطق. إنها رسالة صعبة على الفلاسفة طالما أنّ الكتاب المقدس يفتتح كلامه بـ"في البدء خلق الله العالم..".
أشار أثناسيوس في حديثه عن فعل "الخلق" إلى "هوّة" بين الكائن المطلق (الله) والعالم المُحدَث (الكون Cosmos). هناك نوعان من الوجود، يختلفان اختلافاً جذرياً. فمن جهة، هناك كيان الله "اللامتغيّر"، "السرمدي"، الذي "لا يعرف الفساد ولا الفنـاء"؛ ومن جهة أخرى، هناك صيرورة العالم، وتغيّره، وفساده، وفناؤه؛.. هناك مفارقة أساسيّة بين "اللافساد الإلهي" و"فساد العالم المتغير". فلا وجود للتشابه بين المخلوق والخالق. وإن كان لابدّ من تلاقٍ بينهما فقد تحقّق بواسطة "الـLogos" الذي به تمّ فعل "الخلق". إن كلمة الله هو خالق، لأنه صورة الآب ووجوده لا يرتبط بالخليقة ولا بمخطط الله للخلق.
يشبّه أثناسيوس العلاقة بين الكلمة (Logos) والخليقة (Cosmos) بالموسيقيّ الذي يضبط أوتار القيثارة، ويجعل النغمات ترتفع وتنخفض حسبما يشاء: "هكذا إذ أمسك حكمة الله الكون كقيثارة جعل ما في الهواء متوافقاً مع ما في الأرض، وما في السماء متوافقاً مع ما في الهواء، وأَتحَد الجزء مع الكل"(94) . فالثبات والترتيب في الكون (Cosmos) تحقّقا بواسطة الكلمة (Logos). فالخليقة تصمد بتأثير مباشر من الكلمة الإلهي (أي العناية الإلهية). والإنسان نفسه يشارك في عدم ثبات العالم لكونه خليقة من العدم، مائت بطبيعته، ولكنه يثبت ويستمرّ بنعمة الله وكلمته. كلمة الله حاضر في العالم حضوراً دينامياً (بالقوة) وليس بالطبيعة. إنه خارج العالم من حيث الطبيعة. يقول: "إنه خارج كل شيء من حيث الجوهر وفي كل شيء من حيث قواه. هذا التمييز بين الجوهر والقوة هو تمييز بين كيان الله الداخلي وظهوره الخلاّق في عمل الخليقة".
الخليقة بحسب أثناسيوس هي عمل إلهي وإرادة مشتركة بين الأقانيم الثلاثة. فوجود الابن يعود إلى الجوهر الإلهي أمّا وجود الخليقة فيستند إلى الإرادة الإلهية فقط. إذ كان الكلمة ليس ابناً حقيقياً للآب فالله نفسه ليس أباً حقيقياً وإنما مشكّل ومكوّن للخليقة، وطبيعة الله ستكون عاقرة في وقتٍ ما وغير مخصبة، ستكون نوراً لا يضيء وينبوعاً جافاً وسيكون شمساً بلا شعاع.
لم يكتف الله بخلق الإنسان كما فعل بسائر الخلائق غير العاقلة على الأرض، بل خلقه على صورته ومثاله، إنه مخلوق على صورة الله وليس هو صورة الله، لكنه أعطاه نصيباً من قوة كلمته لكي ينال هذه القوة كما لو كانت انعكاساً للكلمة، ويصبح بفضلها عاقلاً. وعندما خلق الله الضابط الكل الجنس البشري أعطاه نصيباً من صورته، ربنا يسوع المسيح، حتى إذا ما رأى الصورة أي كلمة الآب، استطاع أن يكّون فكرة عن الآب الذي أبدعه"(95) .
ز- التألُّه :
إن أنثربولوجيّة القديس إيرناوس في الدعوة لتأليه الإنسان وجدت أصداء عميقة عند العديد من الآباء، وها هو أثناسيوس يؤكّد عليها بقوله: "صار الإله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً"، لتصبح مقولته المشهورة، التي تلخّص لاهوته فيما يتعلّق بعلاقة الله بالإنسان وبالعكس. ويشرح قديسنا هذه العلاقة فيقول: "لقد تأنّس ابنُ الله لكي نتألّه نحن، واعتلن في جسد إنسان منظور لكي نتقبّل نحن صورة الآب غير المنظور، واحتمل ظلم ووقاحة الإنسان لكي نحتمل نحن ميراث الخلود" (96). حينما نشترك في المسيح الكلمة (Logos) نشترك في الآب لأن الكلمة هو كلمة الآب.
فلو كان المسيح هو في الآب بالمشاركة وليس من ذات جوهره (Omo-ousios)، لما استطاع أن يؤلِّهنا، إذ يكون هو نفسه مؤلَّهاً وحسب. فإذا كان الذي يملكه المسيح هو بسبب المشاركة (مع الآب) لاستحال عليه أن يعطيه للآخرين، لأن الذي له لا يكون حينئذ ملكه، بل يكون ملكاً للذي وهبه" (97).
ويشدد أثناسيوس على إلوهيّة المسيح كحجرٍ للزاوية في تحقيق خلاص الإنسان فيقول: "لا يمكن للإنسان أن يتأله إذا كان إتحاده بالمسيح إتحاد مخلوق بمخلوق، أو إذا لم يكن المسيح هو من جوهر الله بالحق. كذلك لا يمكن للمسيح أن يُحضر الإنسان أمام الآب وفي حضرته لو لم يكن هو كلمة الله بالطبيعة والحق… هكذا لا يمكن للإنسان أن يتأَّله لو لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو بالحقيقة من جوهر الآب وهو كلمة الآب الخاصة" (98).
إن الركن الأساسي للخلاص عند القديس أثناسيوس الكبير هو في كمال طبيعتي المسيح، أي أنه إله تام، حقيقي، من جوهر الآب نفسه، القادر وحده على خلاص البشر، وأيضاً إنسان تام، آخذاً طبيعتنا بتمامها، ليخلص ما اتّخذه. "المسيح لم يكن إنساناً ثم صار إلها، ولكنه كان إلهاً وصار إنساناً لكي يؤلِّهنا… لذلك فكل الذين دعاهم الله أبناء فهؤلاء اختارهم وألّههم بواسطة الكلمة الابن المساوي له في الجوهر"(99) . "مَن الذي لا يتعجب ويكرِّم هذا.. فلولا أن أعمالاً إلهية للمسيح الكلمة قد حدثت بالفعل بواسطة الجسد لما كان ممكناً للإنسان أن يتألّه. وكذلك وبنفس المعنى فلولا أن خواص الطبيعة البشرية الضعيفة (كالموت مثلاً) قد أُسـندت للكلمة لما كان ممكناً للإنسـان أن يتخلّص منها"(100). "وكما أن الربّ صار إنساناً لما لبس جسداً، هكذا نحن نتألّه بالكلمة إذ نتحد بجسده. وحينئذ نرث الحياة الأبدية معه"(101). "لقد صار إنساناً ليؤلهنا في نفسه، هو حُبل به ووُلد من امرأةٍ عذراء حتى ينسب لنفسه جنسنا الخاطئ لكي نصير نحن جنساً مقدَّساً، شريكاً في الطبيعة الإلهية، على حدِّ قول بطرس الرسول"(102) . "نحن لا نتألّه إن كنا نشترك في جسد إنسان عادي ولكننا نتألّه لأننا نأخذ جسد المسيح الكلمة بذاته" (103).
ح – المعمودية :
لم يعترف أثناسيوس بمعمودية الآريوسيين ليست فقط لأنّها تتمّ فقط باسم الآب أو باسم الابن، بل لأنها تحمل إيماناً باطلاً: "من يرفض هذا الاقنوم أو ذاك من الثالوث الأقدس واعتمد باسم الآب فقط أو الابن وحده، أو الآب والابن بدون الروح القدس، فذاك لا يشترك بالسرّ أصلاً لأن الكمال والخلاص هما في الثالوث"(104) .
ط – الإفخارستيا :
إنّ إيمان أثناسيوس في التحويل الجوهري, عند لفظ كلمات التقديس واضح, فإن الخبز والخمر يبقيان هكذا لو لم نتلفّظ بكلمات المخلص التذكارية, أما عندما تنطق الجماعة بالصلوات العظيمة والبهيّة فإنّ الخبز يتحوّل إلى جسد المسيح والخمر إلى دمه المقدّسين.
خاتمة :
إن مرسوم ميلانو سنة 313 الذي أصدر الإمبراطور قسطنطين الكبير قد منح الكنيسة المضطهدة حرية الوجود العلني، فتبدّد ولو لحين الاضطهاد الدموي، ولكنّها لم تُعفى القلق الفكري. فالهرطقات المتوالية عليها فرضت عليها تحديدات دقيقة لإيمانها.. ولولاها، ربما بقيت المسيحيّة في بساطة الإنجيل!
خاتمة آباء مدرسة ألإسكندريّة
تدين الكنيسة اليوم لآباء مدرسة الإسكندريّة في مجمل تعابيرها ومصطلحاتها العقائديّة واللاهوتيّة التي ابتكرها بنوع خاص العلامة أوريجانوس كما رأينا، واستعملها بمرونة القديس أثناسيوس الإسكندري المحرّك الأهم لمجمع نقية (سنة 325) الذي حدّد قانون الإيمان الذي لا نزال نتلوه إلى اليوم.