آباء الكنيسة - آباء سوريا

just4jesus

New member
إنضم
21 فبراير 2009
المشاركات
24
مستوى التفاعل
1
النقاط
0
الإقامة
سوريا - اللاذقية
مقدمة

يصنّف كلُّ من القديسين يوحنّا الذهبيّ الفم ويوحنّا الدمشقي، الذين سندرسهما تباعاً، من "الآباء اليونان"؛ وقد أفردت لهما مجموعة مين (Migne) والمجموعات الأخرى الآبائيّة ، مجلّدات كبيرة لكتاباتهما. ولكنّهم في واقع الأمر هم سوريّان بالمعنى الواسع للتسمية. يضاف إليهم آباء آخرون سوريّون كتبوا باليونانيّة ورُتّبوا تحت التصنيف عينه أمثال: لوكيانوس مؤسس المدرسة الأنطاكيّة اللاهوتيّة، ودوروثيوس، وديودوروس الطرسوسي، وبولس السمساطي، وساويروس، وثيوذورس المبسوسطي، ورومانوس المرنم (الحمصي)، ومكسيوس المعترف، وقزما المنشئ أخو يوحنا الدمشقي بالتبنّي، وآخرون.

كما يمكننا، بدون أدنى شك، إضافة "الآباء السريان"، الذين كتبوا بالسريانيّة لغة سوريّة القديمة، إلى مجموعة "الآباء السوريين"، أمثال: أفرام السرياني (الذي سندرسه لاحقاً)، ويعقوب السروجي، وإسحق السرياني، بالإضافة إلى أفرهاط الفارسي وغيرهم..

تميّزت مدرسة أنطاكية اللاهوتيّة باعتماد منهج أرسطو في التفكير والاستدلال والتفسير. فهي، على عكس منافستها مدرسة الإسكندريّة الأفلاطونيّة، لم تعتمد المنهج الرمزيّ "الألغوري" في التأويل، بل اجتهدت على التفسير الحرفي التاريخي، وعلى الاستدلالات المنطقيّة والواقعيّة، ولكنّها لم تلقَ رواجاً وسلطة بالقياس مع منافستها الإسكندريّة، رغم أن آباءها لمعوا بشكل كبير، وصُنِّف العديد منهم في لائحة "العصر الذهبيّ للآباء".

إن "المدرسة الأنطاكيّة" هي "وجوديّة" الفكر، لا تنطلق، في أنثروبولوجيّتها، من "عالم المُثُل" الأفلاطونيّ، بالإضاءة على قيمة "النفس" في الإنسان؛ بل تركّز على واقعيّة الإنسان ككيان موَّحَد. ولا تركّز، في خريستولوجيّتها، على ألوهيّة المسيح وحسب، بل على إنسانيّته الفيّاضة. وكما أن العهد الجديد، الذي انطلق مع الإزائيين متى ومرقس ولوقا، بلاهوت "تصاعديّ" للتأكيد أن يسوع المسيح الإنسان هو "ابن الله"، بالتوازي مع يوحنّا وبولس في لاهوتهما "التنازلي": إن ابن الله تجسّد إنساناً بيسوع المسيح. و يمكننا رؤية التكامل بين المدرستين، كما فعل الآباء الكباذوكيّون . سندرس في هذا الفصل ثلاثة آباء سوريّون هم:

- أفرام السرياني كأنموذج للأدب السرياني الغزير والمرهَف الروحانيّة، المتجلّي خصوصاً الترانيم والعظات الوقّادة والسيرة الشفّافة.

- يوحنّا الذهبي الفم كرائد عظيم في الرعاية والفصاحة والشجاعة والقدوة الصالحة.

- يوحنّا الدمشقيّ كلاهوتيّ منهجيّ، متنوّع المواهب من الشعر والموسيقا إلى الفلسفة واللاهوت.

القديس مار أفرام السرياني

1 - مقدّمة :

إن خصوصية مار أفرام تكمن في طريقته المبدعة في الشهادة للإيمان، لقد طوّع مواهبه في خدمة هذه الشهادة، فدعي بحق "قيثارة الروح القدس". فبعد أن نهل من المعرفة وانكب على الصلاة والتأمل في كلمة الله، أخذ يُبدع الأناشيد والترانيم التي تمنح المؤمنين الإشادة بحب الله. إنّه بحقّ من أعظم كتّاب وشعراء الشرق المسيحيّ، كما يقول المؤرّخون.

2 - حياته :

وُلد في نصيبين شمال شرق سوريّة سنة 306، من أبوين تقيّين، أحبّا المسيح بشغف. وتسلّمه أسقف المدينة مار يعقوب منذ فتوّته، فكان له خير معلم ورفيق، فرسمه شماساً ليتمرّس في تمجيد الله من خلال صوته الرخيم..

انخرط في السلك الرهبانيّ ملبيّاً دعوة للمسيح لم تكتب في الإنجيل: "حيث يكون متوحِّد فأنا أكون"..

اكتفى، بخبز الشعير والبقول المجففة، إن أكل؛ ولم يشرب إلا الماء، ولم يلبس إلا الرث! واختار، لشدّة تواضعه، البقاء شمّاساً طيلة حياته رغم أهليّته للكهنوت والأسقفيّة.

نهل من المعرفة والعلم، وتمرّس على الصلاة والتأمل في كلمة الله، فأخذ يُبدع الأناشيد والعظات التي تحرّك القلوب بحب الله والتوبة؛ فدُعي بحقّ "قيثارة الروح القدس"، و"من أعظم كتّاب وشعراء الشرق المسيحيّ".

يعود إليه الفضل في تنظيم الحياة الطقسيّة السريانيّة.

أسس مدرسة نصيبين اللاهوتيّة التي ذاع صيتها، منكبّاً على التعليم والكتابة ونظم الشعر والألحان مدّة 38 سنة.

هُجِّر من نصيبين بعد سقوطها بيد الساسانيّين الفارسيّين عام 363، فانتقل إلى مدينة الرها (أورفا) التي كانت تحت الحكم الروماني، ونقل إلى مدرستها روحانيّته وتعليمه.

يقول فيه القديس غريغوريوس النيصي: "كان شاهداً حقيقياً للإيمان، الله رجاؤه الوحيد. اشتعل فيه لهيب دراسة الكتاب المقدس. وتوصّل إلى اكتساب طهارة حقيقية، تفيض دموع التوبة من عينيه. من يقرأ حديثه عن التواضع ولا يبغض الأنانية في الحال؟ ومن ذا الذي يتأمل في كلماته عن المحبّة ولا يُسرع معرضاً عن نفسه في سبيل المحبّة؟"..

أُحيك عنه، لشدّة فيض موهبته، قصصاً كثيرة؛ لا يخلو البعض منها من معطيات تاريخيّة!

توفي عام 373. وأعلنه البابا بندكتوس الخامس عشر ملفاناً (معلّماً) للكنيسة الجامعة سنة 1920.

3 - كتاباته :

كتب بالسريانيّة زهاء ثلاثة ملايين بيت من الشعر، كما ذكر كلٌّ من المؤرخ ‏اليونانيّ سوزومين (سنة 423) والقديس ايرونيموس (سنة 420)، جُمعت في ستة مجلدات ضخمة؛ أجملها ما عُرف بملحمة "أناشيد نصيبين"، التي تُرجمت مع جميع مؤلفاته إلى اليونانيّة بعيد وفاته، ومع مرور الزمن، إلى الكثير من اللغات القديمة والمعاصرة. وكتب أيضاً ما يمكن تصنيفه بـ:

أ ‌- تفاسير كتابيّة: "سفر التكوين"، "سفر الخروج"، تفاسير لبعض نصوص الإنجيل من خلال كتابه "تعليقات على الذيّاتيسارون" (وهو كتاب جمع الأناجيل الأربعة في إنجيل واحد جمعه تاسيانوس السوري)، لدينا فقط ترجمة أرمنية له.

ب‌- خطابات: ضد بعض الهرطقات كـ: برديصان ومرقيون وماني وهيباتيسوس، ونُسكيّة ككتاب "الآراء"،.. وغيرها.

ت‌- ميامر: هي نصوص شعريّة تقرأ ولا تُنشَد، كـ: "ميامر عن الإيمان"، "ميمر عن التهذيب"، "ميمر عن يونان وتوبة نينوى"، "ميمر عن المرأة الخاطئة"، "ميامر عن زلزال نيقوميديا"، وميامر أخرى بعضها منسوب له.

ث‌- مداريش: هي نصوص شعريّة تعليميّة إنشاديّة ملحنة ذات أوزان موسيقيّة ولازمة، كـ: "مداريش عن الإيمان" وهي المجموعة الأضخم (87 قصيدة)، "مداريش عن نصيبين" وهي جدال بين الشيطان والموت، "مداريش ضد الهرطقات"، مداريش عن: "الميلاد"، "الصليب والقيامة"، "الفردوس"، "الصوم"، "الكنيسة"، وغيرها لا يزال يردّد في الطقوس..

ج‌- وصيّته: تتضمّن نصائح لتلاميذه، تحثُّهم على "التواضع والمحبّة، وأن لا يقولوا فيه مديحاً بعد موته، ولا يقدّموا لجسده كرامة بل يدفنوه في مقبرة الغرباء، مكفناً بثوبه الرهبانيّ الباليّ. وأن يجمعوا الدراهم التي تبذل في حفلة دفنه ويوزعوها على الفقراء"..

4 - تعاليمه :

نحن أمام نوعيّة جديدة من تراث الآباء لم نعهدها فيما سبق. فهي لا تعتمد على أسلوب الحجج والمنطق والتحليل، بقدر ما تخاطب وجدان الإنسان وحسّه الجماليّ. فقد تميّز فكّره، ومنهجيّته أيضاً، برفض عقلانيّة الفلسفة اليونانيّة باعتبارها أداة الوثنيّين والهراطقة. واتصف بالسهولة والبساطة الأخّاذتين، أسوة بمعظم آباء سوريّة، السُريان خصوصاً، كما تميّز بالشاعريّة والموسيقيّة فنّاً وصناعة، يستخدم أسلوباً مُشبعاً بالصور والاستعارات، مبدعاً في الأوزان والأنغام.

لقد أعطى مار أفرام الهيمنوغرافيّة الكنسيّة بعداً لاهوتيّاً دون أن يُفقَد رونق الإبداع والجمال فيها، فركّز على الوضوح والعمق في التعبير عن الإيمان واللاهوت والعقائد من خلال الترنيمة الدينيّة، وعلى صناعة كلٍّ من الشعر والموسيقا بشكل متوازن ومنسجم فيها، وبشكل جميل ومحبّب أيضاً.

يمكننا تصنيف أهمّ أفكاره بالعناوين التالية:

أ‌ - الإنسان: إرادة وحريّة



"أيّها الإنسان، إنّك باختيارك قد صرت هيكلاً لله، لا عن إلزام أو إكراه، بل عن رغبة ونشاط. وإذا صرت إنساناً للإله العليّ عرفت بتدقيق أن روح الله يسكن في الهيكل".

"بالإرادة تولد الخطيئة، وبالإرادة تتقلّص الأعمال الأثيمة.. إرادتنا الحرّة هي التي تقدر على كلّ شيء".

يعيش الإنسان الحريّة لأنه على صورة الله الحرّ: "تلك هي صورة العليّ الذي تقبض قدرته على كلّ شيء".

"اللّهم اخلق فيّ قلباً نقيّاً، عفيفاً، طاهراً، بسيطاً، لا يفكّر بالشرّ

قلباً نقيّاً يملأه الحبّ دائماً وينشد السلام

قلباً نقيّاً يبتغي التواضع ويحب الصلاة والصوم والعمل

قلباً نقيّاً أكلته غيرة بيتك

قلباً نقيّاً يحبّ الخير، ويرحم ذوي الحاجة، ويرأف بالبشر، ضع فيّ هذا القلب، واغرس فيه مخافتك كالغرسة النامية"..

ب‌ - الإيمان



يجمع مار أفرام الإيمان وعيشه والشهادة له، ولا يميّز بين المعرفة الطبيعيّة والإيمان الفائق الطبيعة، "فإبراهيم مثلاً، فكّر بأن لا بدّ من وجود خالق للخليقة، وجاء الوحيّ وأكّد على وجود الله". ويُشدّد على على الجمع بين الإيمان والأعمال.

ت ‌- المحبّة



"لا يستطيع الإيمان أن يطير بدون المحبّة، ولا المحبّة بدون الإيمان.. ولقاءهما يبعث في النفس جرأة أعمى أريحا وشجاعة موسى الذي كان يريد أن يرى الله".

ث ‌- الصلاة والصوم



الصلاة هي تنفُّسٌ للإيمان وامتدادٌ للمحبّة، وهي اشتراك النفس والجسد في مخاطبة الله. والصوم يُكسب النفس جمالاً والجسد رونقاً؛ وهو علامة تبدّل في الطبيعة لما ستؤول إليه الأجساد بعد القيامة من كمال.

ج ‌- العناية الإلهيّة



"كما السمك ترافق المياه أينما ذهب كذلك الله يرافق ويرى كل إنسان دائماً.. بدون الله يعجز الإنسان عن معرفة وجود الله".

ح ‌- الكنيسة



"إن الذي غرس الفردوس الجميل، بنى الكنيسة الطاهرة، ونبتت فيها شجرة المعرفة.. وغرس الكلمة في الكنيسة، مواعيدها مفرحة، وتهديداتها مرعبة، من يحتقرها يهلك، ومن يتمسّك بها يحيّ ".

خ ‌- التوبة



"أيّها الرب سيّد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول، وحبّ الرئاسة والكلام البطّال. بل أنعم عليّ أنا عبد الخاطئ بروح العفة والصبر والمحبة. نعم يا ملكي وإلهي، هب لي أنا أعرف ذنوبي وعيوبي ، وألا أدين أخوتي. إنك مبارك إلى الأبد آمين".

د ‌- الإفخارستيّا.. لقاء بين السماء والأرض



"الجسد الحيّ والمحيي هو الذي يؤكل.. صلاتنا تقدمة وتقدمتُنا صلاة، طوبى لمن يقدّم بك يا ربّ تقدمته، ثلاثين يوماً بعد وفاتي تقدّمون الذبيحة المقدّسة من أجلي، لأنّ الأموات تفيدهم الذبائح التي يقدّمها الأحياء"..

ذ ‌- مريم والبتوليّة



‏"جمالك أنت فقط (يا يسوع) وجمال أمّك يفوقان جمال أي مخلوق آخر، وهذا لأنه ليس فيكَ أيّ دنس وليس في أمّك أيّ فساد.. عظامي تصرخ من القبر: إن مريم قد ولدت ابن الله"..

مريم أنموذج للبتوليّة المكرّسة، التي هي استباق لحياة السماء، وحضور المستمّر للمسيح، عيش خاص للحريّة!

5 - خاتمة :

"أيّها السرّ الذي لا يُختَرق، لا أجرؤ على التحدّث عن ابنكَ، لقد أحطتُ الكلمة بحدود من صمت، إذ قد وقَّرْتُ ولادتك، فهبني أن أسكن ملكوتك، وليُشد كلُّ إنسان بحبّك، بكينونتك السريّة!"..

القديس يوحنّا الذهبيّ الفم

1 - مقدّمة :

‏لُقب ‏يوحنا‏ ‏بطريرك‏ ‏القسطنطينية‏ ‏من‏ ‏سنة‏ 398 ‏إلى ‏سنة‏ 407 ‏بـ"يوحنا‏ الذهبي‏ ‏الفم‏ ‏أو‏ ‏يوحنا‏ ‏فم الذهب‏ CHRYSOSTOMOS، وذلك‏ ‏اعترافاً ‏بفصاحته‏ ‏وبلاغته‏ ‏وجمال‏ ‏أسلوبه‏ ‏وعبارته‏، ‏وقوة‏ ‏كلماته‏، ‏وتأثير‏ ‏عظاته ‏‏معنى ‏‏ومبنى. كما يوصف بكثير من الصفات، فهو "واعظ المسكونة الأول"، الذي "صان عقله نقيًّا من الأهواء"، و"صار مماثلاً لله"، بعدما امتُحن "بالتجارب كالذهب في النار"؛ فهو "الآلة الملهمة من الله"، و"العقل السماوي" و"عمق الحكمة"، و"الكارز بالتوبة"، و"نموذج المؤمنين"، و"الملاك الأرضي والإنسان السماوي"، وهو "خزانة أسرار الكتب"، و"اللسان الذي بمحبة بشرية رسم لنا طرق التوبة المتنوعة"، وهو أيضاً "أبو الأيتام والعون الكلي الحماسة للمظلومين، ومعطي البائسين، ومُطعِمَ الجياع، وإصلاح الخطأة، وطبيب النفوس، الحاذق الكلي المهارة"؛(1) إضافة إلى لقب "معلّم الكنيسة" الذي أطلقته عليه الكنيسة الكاثوليكيّة. ولمناسبة الاحتفال بذكرى 1600 سنة على رقاده وجّه البابا بندكتوس السادس عشر رسالة يوم عيده سنة 2007(2) ، فأبرز فيها أهم تعاليم هذا القديس العظيم، خصوصاً لأنه ساهم في "اللقاء المثمر بين الرسالة المسيحية والثقافة الهيلينية"، والتي "كان لها وقع بعيد الأثر على الكنائس الشرقية والغربية على حد سواء"(3) ؛ وذكّر أيضاً بأن سلفه البابا بيوس الثاني عشر ألقى الضوء على الإسهام الكبير الذي قدمه القديس يوحنا في تاريخ تفسير الكتاب المقدس مع نظرية "التنازل" أو synkatábasis التي من خلالها، فسّر فم الذهب أن "كلمات الله، التي تمّ التعبير عنها باللغة البشرية، صارت مشابهة للغة البشر"(4) . لقد أدخل المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الملاحظة في الدستور العقائدي في الوحي الإلهي "كلمة الله"(5) . كما وأشار الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون الفهم العميق لدى فم الذهب للرباط بين الليتورجية الافخارستية والاهتمام بالكنيسة الجامعة(6) ؛ وبيّن خادم الله بولس السادس الطريقة التي "عالج بها بلغة بليغة وبتقوى كبيرة، السر الإفخارستي"(7) .

ينوّه البابا في رسالته على مساهمة القديس في عمل وحدة الكنيسة والمصالحة بين أبنائها، فيقول: "هذا ويستحق ذكرًا خاصًا جهد القديس يوحنا فم الذهب الفائق لأجل تعزيز المصالحة والشركة الكاملة بين مسيحيي الشرق والغرب. وبوجه الخصوص، كانت مداخلته حاسمة في وضع حد للشقاق الذي كان يفصل كرسي أنطاكيا عن روما وسائر كنائس الغرب. في زمن سيامته كأسقف على القسطنطينية، أرسل يوحنا بعثة إلى البابا سيريشيوس إلى روما. ودعمًا لبرنامجه هذا، وفي إطار مشروع وضع حد للانقسام، نال معونة أسقف الإسكندرية في مصر. تجاوب البابا سيريشيوس مع المبادرة الدبلوماسية التي قام بها يوحنا؛ وهكذا تم حل الانقسام بطريقة سلمية وأعيدت الشركة التامة بين الكنائس.. ففي فكر يوحنا، عندما يتألم قسم من الكنيسة لجرح ما، تتألم الكنيسة بأسرها للجرح عينه".

2 - حياته :

ولد يوحنّا في أنطاكية حوالي عام 345 لوالدين تقيين، من عائلة غنية ومعروفة. توفي والده، وكان ضابطاً في جيش الأمبراطوريّة، وهو لا يزال طفلاً فكرّست أمه أنثوسا حياتها للاهتمام بوحيدها، لعلها شعرت أنه سيكون شاهد إيمانٍ عظيم. ولقد دعاها المعلم الكبير ليبانوس، الذي ثقّف يوحنا وعلّمه القانون والفصاحة والفلسفة، "بأعظم النساء المسيحيات". كان قصير القامة، أصلع الرأس، نحيلا غائر الخدين والعينين، عريض الجبين، أجعده وكان صوته عذبًا لكنه ضعيفاً.

اعتبر يوحنا أولاً أن الشهادة للإيمان تكون في اعتناق الحياة الرهبانية التوحُديّة، ولولا دموع أمه لما تأخر في ترك العالم. إلا أنه ابتكر رهبانية في قصره، فاتخذ فيه منسكاً، وأخذ يمضي ساعاته في الصلاة والصوم وتأمل كلمة الله، حتى شهد فيه الكثيرون: "شابٌ يعيش في قلب المدينة كما يعيش المتوحدون في البراري والقفار". وقيل فيه أيضاً: "وجهه ينضح قداسة.. كأنه يبشّر بوجهه".

ذاع صيت يوحنا شيئاً فشيئاً، هو وصديقه باسيليوس، حتى طالبَ الشعبُ بهما أسقفَين مساعدَين لملاتيوس البطريرك. عندئذٍ شعر يوحنا بضعفه وعدم استحقاقه لهذه الخدمة، التي "تضاهي خدمة الملائكة أنفسهم"، حسب تعبيره. فهرب من الرسامة، تاركاً لها صديقه باسيليوس ليكون مثالاً للراهب والكاهن، والأسقف الشاهد، الذي يمنح الانسجام للتأمل والعمل الرسولي معاً في نظام الحياة المشتركة وخدمة الآخرين.

عاش يوحنا حياة جهاد وعمل، ناسكاً متوحداً بين عامي 374-380. واكتشف أن لا شهادة للإيمان دون الحوار المستمر مع الله. وبعد أن أتعبته الصحراء عاد ليؤدي شهادته في وسط العالم. "خير للإنسان، كما يقول، أن يكون أقل فضيلة، ويهدي الآخرين، من أن يعيش على قمم الجبال ويرى أخوته البشر يهلكون". فرُسم شماساً (381) وكاهناً (386)، وتشبّه في هذه المرحلة ببولس الرسول. فأخذ عنه حماسه وقوّته واندفاعه الرسولي، كذلك العلم والحكمة والعمل والصبر على المشقات. ولقد أخصب يراعه في هذه الفترة، فآمن بسحر الكلمة وفعاليتها وأهميتها في الشهادة للإيمان. ولقد قيل، لشدة إبداعه في تخديم الكلمة للشهادة للإيمان، أن الهراطقة أنفسهم، وحتى غير المؤمنين، أحبوا سماع عظاته، حتى بلغت شهرته القسطنطينية العاصمة. وإثر وفاة بطريركها نادى شعبُها بيوحنا راعياً لها، فسُرق ليلاً لكي لا يتمكن الأنطاكيون الاحتفاظ بكاهنهم المحبوب.

ارتسم يوحنا بطريركاً للقسطنطينية عام 398 ليكون نموذجاً للأسقف الشاهد الذي لا يهاب الصعاب. فلم يكتفي أن يشهد للرب من خلال خدمته للكلمة والأسرار، بل أقرن الكلام بالعمل، خصوصاً بعد دخَلَتْ إلى الكنيسة مظاهرُ الترف في زمن أراد رجال الكنيسة أن يتشبهوا برجال الإمبراطورية بدل تشبههم بالمسيح. فأمر ببيع الذهب والفضة والسجاد والحرير والرخام والمرايا.. وكل غثٍ وثمين، وأقام لجنة خيرية، أشرف عليها بشكلٍ مباشر، تهتم بتوزيع الأموال والمساعدات على الفقراء. وأنشأ مشفى للمرضى، ومأوى للغرباء والمحتاجين، وصرف الخدم والحشم، وألغى الاستقبالات ومظاهر التبذير. لقد كان يُهيئ طعامه بنفسه، ويأكل مرة واحدة في اليوم، وليس لديه سوى ثوب واحد، ولا يملك في غرفته إلا لوحاً خشبياً وغطاءً للنوم والكتاب المقدس وبعض الكتب الروحية(8) . لقد نقل حياة البرية إلى العاصمة، ولا غرابة في الأمر ألم يفعل ذلك حين كان علمانياً في بيت أهله؟ نظّم الوعظ والترتيل والصلوات، فشدّد على ضرورة مشاركة الشعب في الصلاة وحياة الكنيسة، واهتم بحياة الكهنة والأساقفة، فأنّبهم بمحبة لكي يتمتّعوا بالسيرة الحميدة، وشجّعهم على ممارسة الفضائل والتقوى، فكان مثالاً للراعي الصالح والشاهد الأمين.

أمام هذه الإصلاحات اشتدت عليه قوى الشر، فتآمر بعض الأساقفة والكهنة مع الإمبراطورة أفدوكيا، التي لم يتوانى في تأنيبها لأخلاقها المعوّجة بسبب معاشرتها الوزير إيتروب في حياة زوجها اللامبالي، وسعوا للإطاحة به بعد عظة ناريّة قارب فيها موقفه بقصة قطع رأس يوحنّا المعمدان تنفيذاً لوعد هيرودس لابنة أخيه الحيّ سالومي التي رقصت أمامه بناءً على طلب أمّها هيروديّا عشيقته، فقال: "من جديد تغضب هيروديا! من جديد ترقص! من جديد تطلب رأس يوحنا على طبق!".. حُكم عليه بالنفي، فحدث عشية تنفيذ الحكم زلزلة هزّت العاصمة، لأنه "إن صمت الجميع تكلمت الحجارة"، وعاد ودخل المدينة العاصمة دخول السيد المدينة المقدسة. وبعد حين، عادت الإمبراطورة تسعى لترحيله، فخاطبها بشجاعة قائلاً: "أنا لا أخاف الموت.. إن واجبي سأتممه عل أكمل وجه.. عليّ أن أعلن عن الخطيئة حيث تكون..". أمرته أولاً بالإقامة الجبرية ثم نفته. إنه كبولس الرسول تعرض، في سبيل شهادته للإيمان لعذابات متنوّعة(9) ، سُجن.. تعرّض للاغتيال.. جاع.. مرض.. ظلم.. تنقل بين المدن والمعتقلات.. وكان أينما يحل يلقى الترحاب‏‏ ‏ و‏يثير‏ ‏الإعجاب‏ ‏بقداسته.. ‏أنَّه،‏ ‏مع‏ ‏أتعابه‏ ‏وآلامه‏، كتب‏ ‏مرّةً‏ ‏في‏ ‏رسالة‏ ‏بعث‏ ‏بها‏ ‏إلى الشمّاسة أوليمبيا‏ ‏يعزّيها‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏وهو‏ ‏في‏ ‏المنفى، ‏يقول‏: "إن‏ ‏قلبي‏ ‏يذوق‏ ‏فرحًا‏ ‏لا‏ ‏يوصف‏ ‏في‏ ‏الشدائد‏، ‏لأنّه‏ ‏يجد‏ ‏فيها‏ ‏كنزًا‏ ‏خفيًا‏. ‏فيجدر‏ ‏بك‏ ‏أن‏ ‏تفرحي‏ ‏معي‏، وتباركي‏ ‏الرب‏، ‏لأنه‏ ‏منحني‏ ‏نعمة‏ ‏التألّم‏ ‏من‏ ‏أجله"‏.‏ كما كتب إلى أحد الأساقفة معبرًا عن موقفه من تهديد ونفي الإمبراطورة له قائلاً: "عندما أخرجوني من المدينة لم أكن قلقًا بل قلت لنفسي: إذا كانت الإمبراطورة ترغب في نفيي فلتفعل، للرب الأرض بكمالها. إذا كانت ترغب في تقطيعي إرْبًا فحسبي أشعيا مثلاً. إذا كانت ترغب في رميي في المحيط فلي يونان النبي. إذا أُلقيْتُ في النار فالفتية الثلاثة لاقوا المصير عينه. ولو أُلقيْتُ للوحوش ذكرت دانيال. إذا كانت ترغب في رجمي بالحجارة فاستفانوس، أول الشهداء، ماثل أمام عيني. عُريانًا خرجت من بطن أمي وعُريانًا أترك العالم. وبولس الرسول يُذكّرني: لو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح".

مات أخيراً سنة 407 في المنفى عن عمر الثمانية والخمسين عاماً تقريباً، وهو يردّد آخر كلماته: "المجد لله على كل شيء".

3 - مؤلفاته :

كان الذهبي الفم داعيةً وواعظًا لبشارة الإنجيل ومعلّمًا مهتمًا بالقضايا المعاصرة. كنبيّ محبّة تكلّم بقسوة وبشدّة، إذ بدا له أنه يعظ ويشهد أمام أناس مائتين. كان الظلم وغياب المحبة في العالم المسيحي كارثة بالنسبة له، يقول: "لقد أطفأنا تأجّجنا وجسم المسيح قد مات". كان الوعظ بالنسبة له حاجة، لذلك نراه يتكلم عن "الجوع إلى الوعظ". تناول كافة موضوعات الوعظ: التفسيري، العقائدي، الجدلي، التعليم المسيحي لمن يستعدّون للمعمودية، عظات رعائية وأخلاقية وليتورجية ورثائية. له مجموعة كبيرة من المؤلفات، الكثير منها فُقد كغيره من ملفات التراث، والبعض منسوبة إليه بسبب شهرته.

رغم ذلك نستطيع أن نصنّف من مؤلفاته ما يلي:

أ - عظات في الكتاب المقدس:



العهد القديم: عظات عن سفر التكوين وعددها 8 عظات، عن المزامير، عن سفر أشعيا وعددها 58 عظة..

العهد الجديد: عظات عن إنجيل متى وعددها 90، عن إنجيل يوحنا وعددها 88، عن أعمال الرسل وعددها 55، عن رسائل بولس الرسول وعددها 250؛ ولمع خصوصاً في شرحه "العظة على الجبل".

ب- عظات في العقيدة والحياة:



12 عظة عن الله، 6 عظات في المعمودية، 8 عظات ضد اليهود وخاصة ضد المسيحيين المتهوّدين، عظات احتفالية في أعياد القديسين 7 منها عن الرسول بولس، 21 عظة في التماثيل عندما ثار شعب أنطاكية سنة 387 ضد الحكم الإمبراطوري وحطموا تماثيل الإمبراطور وعائلته، خطب عديدة أخلاقية. ومواعظ عن الأسرار والأعياد الكبرى، ومواعظ مديح للقديس بولس مثلاً أو لشخصيات تاريخية (أيوب والمكابيين). وكتب أيضاً عن "ألوهية المسيح".

ج - كتب في الأسرار والأخلاقيّات:



كتب "في الكهنوت"، وهو كتاب من ستة أجزاء، بشكل حوار بينه وبين شخصٍ آخر، كما كان يفعل أفلاطون.
كتب أيضاً: "في الزواج"، وفي "المعموديّة".. وعن "المجد الباطل"، و"تربية الأولاد"، وعن الأخلاق العامة.. و"في الحياة الرهبانية" والدفاع عنها، و"في العفة"، و"في التوبة"، وفي "وضع الأرامل"..

كما كتب "تحريض" لصديقه تيودور، وهو جزآن: في الأول يعاتبه على سقوطه في غرام فتاة ويناشده أن يعود إلى حرارته الأولى. وفي الثاني يوضح له هشاشة أفراح الدنيا إذا قيس بالحرية المسيحية. ونذكر أخيراً أنه وضع كتاباً سماه: "ضد يوليانوس والوثنيين".

د - رسائل لمناسبات:



كَتَبَ رسائل بلغ عددها 236 رسالة وذلك بين سنتَي (404 – 407)، كتبها خصوصاً من منفاه؛ وهي موجَّهة إمّا إلى أساقفة وأصدقاء وإما إلى محزونين ومعذَّبين، تحمل لهم التعزية، وهنالك رسائل توجيهٍ لبعض الأشخاص. وله أيضاً رسائل خاصة هي رسائل شكر ومعرفة جميل لمن قدموا له بعض الخدمات. وكتب أيضاً 17 رسالة "إلى الشماسة اولمبيا" التي كانت تعاونه في العمل الرعائي، ورسالتان إلى البابا أنوشيسيوس.

هـ - كتابات ليتورجية:



القداس الإلهي، صلوات خاصة بحسب ساعات الليل والنهار، صلوات للاستعداد للمناولة، جميعها منسوبه إليه، ربما ساهم بجمعها وترتيبها وإحيائها ووضع بعض الفقرات فيها.

4 - تعاليمه :

لم يهتم قديسنا بمواضيع مجرّدة بل حاول تركيز تعليمه على التجربة الفعلية والعملية ليكون فاعلاً، هدفه الأساسي كان أن يُعلِّم المحبة بالإضافة للنزاهة والمسؤولية. كان يؤكّد أنَّ التحوّل الشخصي للإنسان يتم من خلال قوة الروح الفاعلة بمحبة.

لم يُقدّم الجديد كأسلافه من الآباء حول شؤون العقيدة، بل كان شارحاً ومفسّراً بارعاً لجميع تعاليم المسيحيّة، ويمكننا تصنيف مساهماته التعليميّة كما يلي:

أ ‌- معرفة الله ممكنة فقط بيسوع المسيح



تصدى يوحنا لهرطقة الأفنوميين(10) التي تقول بأن لدى الإنسان الإمكانية لمعرفة جوهر الله، مستنداً في رؤيته على الأنبياء وعلى تعاليم القديس بولس. فيرى أن الأنبياء قد تحيروا في إدراك جوهر الحكمة الإلهية، وحكمة الله تأتي من جوهر الله، وطالما أن حكمة الله تظل غير مدركة، إذًا فالجوهر الإلهي، سيبقى على كل الأحوال أمر غير مُدرك. فإذا كنا نجهل "طاقات الله" التي اعتلنت في الخليقة، فهل يمكن أن ندرك جوهر الله؟

ادعى الأفنوميون أيضًا "أن الإنسان يعرف الله معرفة جيدة، تمامًا كما يعرف الله ذاته". يرفض يوحنا هذا الإدعاء، ويستند في هذا على أن الإنسان في ذاته هو "تراب ورماد" (تك27:18). ولكنه كما يؤكد قد أخذ موهبة الحرية كتكريم له، وهذه الموهبة تُعطى له قيمة كبيرة. ومع هذا فلا ينبغي للإرادة الإنسانية أن تتباهى، بالإدعاء بأن لديها إمكانية لإدراك جوهر الله بالعقل. إن الإنسان ليس فقط لا يمكنه إدراك جوهر الله، بل ولا يمكنه إدراك جوهر ذاته، طالما أنه لا يعرف ماهية نفسه، ولا العلاقة بين النفس والجسد. ولذلك فعلى الإنسان أن يُسلّم ذاته لله بلا شروط وبلا نقاش، تمامًا مثل الإناء في يد الفخاري إذًا ما أراد أن يأتي في علاقة مع الله (11).

إن معرفة الله تتمّ بيسوع المسيح، إذ هو "واحد في الجوهر" معه. يرد يوحنّا على الهراطقة الذين قالوا بأن المسيح قبل أن يُقيم لعازر صلّى إلى الآب، إذ قالوا: "كيف يمكن لذاك الذي صلى أن يكون واحد في الجوهر مع مَن يصلي إليه"؟ إذًا فالمسيح ليس واحدًا في الجوهر مع الآب!.. فيقول يوحنا: إن الصلاة لم تكن لأجل القيامة، بل لأجل تعليم من كانوا حاضرين في تلك الساعة. فصلاة يسوع لا تمثل برهانًا على عدم وحدته في الجوهر مع الآب. لأنه كثيرًا ما كان يصلي، لكي يعلّم تلاميذه أن يصلوا. وهل هناك طريقة للتعليم أفضل من التعليم بالمثال؟ الصلاة بالنسبة للمسيح لا تعني نقصًا في القوة، والدليل على هذا أن المعجزات التي صنعها لم تكن يسبقها صلاة (12).

ب ‌- ألوهيّة المسيح علامة خلاصنا



أكد يوحنا الذهبي الفم بحجج قاطعة على ألوهيّة المسيح، لا تستند إلى الكتاب المقدس، بل إلى "حقائق لا يستطيع أحد أن يتشكك فيها":

1- ما قام به المسيح من أعمال أثناء فترة حياته على الأرض، هي أعمال متفردة في التاريخ الإنساني، وتتجاوز كل القدرات الإنسانية، وهذا يبرهن على ألوهيته.

2- موت المسيح على الصليب، لم يُشكّل نهاية لعمله الخلاصي، بل هو محطة وبداية جديدة في حياة الكنيسة التي أسسها بدمه. هذا الحدث الفريد في تاريخ الإنسانية يظهر قوة المسيح الفائقة.

3- لقد خرجت مدينة بيت لحم من دائرة عدم الاهتمام وصارت موضع للسجود والعبادة، وهذا حدث آخر لا تخطئه العين ويشهد على قوة المسيح الإلهية.

4- التحول الشامل الذي حدث في نفس بطرس بعد القيامة، وأيضًا في نفوس التلاميذ الآخرين، والذي جعلهم مبشرين بالحقيقة وشهودًا لجراحات المسيح، يُشكّل أيضًا شهادة أخرى لألوهية المسيح.

5- تأسيس الكنيسة في مدة زمنية قصيرة، وفي مناخ مُحاط بالصعوبات والأخطار، في عذابات وميتات، من قبل 12 تلميذ مزدرى بهم، ثم اختيار الصليب الذي كان رمزًا للعنة ليكون أجمل ما في الكنيسة، وسندًا للمؤمنين، بما يشهد كل هذا، سوى بألوهية المسيح.

6- إن التعاليم والعقيدة المسيحية، برغم الظروف الصعبة والمعقدة قد انتشرت في كل مكان، وليس هذا فقط بل وازدهرت بشكل فائق. ومن خلال التعاليم المسيحية انفتحت طرق حياة جديدة، وتغيرت العادات والتقاليد القديمة، وحلّت الفضائل محل الشهوات القديمة، وجذب الطريق الضيق والكرب الكثيرين إليه. هكذا تغير شكل العالم، وهكذا تجددت حياة الكنيسة، وهكذا شهد التاريخ أكبر وأعظم ثورة، ثورة النور ضد الظلام، ثورة الحياة ضد الموت، النعمة والبركة ضد لعنة الناموس.

بالإضافة إلى هذا كله، يعود يوحنا ذهبي الفم، فيدلل على ألوهية المسيح من خلال النبوات أيضًا، والتي تمت جميعها بلا استثناء في شخصية المسيح. وبشكل خاص يذكر النبوات الخاصة بتأسيس الكنيسة، خراب أورشليم وهيكل سليمان والذي حدث كما هو معروف سنة 70م عندما احتل الإمبراطور الروماني تيطس المدينة. ولم يتجاهل ذكر محاولة الإمبراطور يوليانوس الجاحد، إعادة بناء الهيكل، والتدخل الإلهي لوقف هذا العمل. من ناحية أخرى فإن كتّاب الأسفار المقدسة يُشكّلون بحسب ذهبي الفم دليلاً قويًا جدًا، في مواجهة الرافضين لألوهية المسيح. فهم لا يسجلون فقط معجزات المسيح، بل أيضًا أصله المتواضع، وآلامه وصلبه، وهى أمور كان من الممكن جدًا، بسبب الامتنان والوقار الفائق لمعلّمهم، أن يعبروا عليها ولا يذكرونها (13) .

ج ‌- الكتاب المقدّس كتاب حياة



عمله كمعلم وواعظ هو أولاً مُرتَكِز على التفسير الكتابي حيث يُشدِّد على أن الكتاب المقدس هو المصدر الأساسي الكامل الذي لا غنى عنه للتعليم العقائدي والأخلاقي، فلقد كتب: "الذي هو في توافق مع الكتاب المقدس هو مسيحي والذي ليس على اتفاق معه هو بعيد جدا عن الحقيقة". كان في عظاته ينصح دائمًا بقراءة الكتاب المقدس وهذا واجبٌ على كلّ مسيحيّ، "لا تنتظروا معلمًا آخر لقد أُعطيتم كلمة الله ولا أحد سيعلمكم كما تفعل هي". يجب على العلمانيين بشكل خاص أن يقرؤوا الكُتُب المقدّسة، "فالرهبان في الأديرة والذين يعيشون خارج المدينة هم في مأمنٍ، ولكن نحن الذين نعيش وسط بحر الشهوات والتجارب نحتاج لهذا الدواء الإلهي، حتى نستطيع أن نشفي أنفسنا من البَلى الذي يُحزِننا ونحفظ أنفسنا من أي أذى"... "لا أريد أن تعلِّقوا الإنجيل في رقابكم وتحملوه على صدوركم، بل أريد أن تغرسوه في قلوبكم".

"كان الأَولى أن نكون بغنى عن الكلمة المكتوبة. وأن تكون حياتنا في حالة من النقاء، بحيث أن نعمة الروح القدس تقوم مقام الكتب. فكما أن الكتب مكتوبة بالمداد، هكذا يجب أن تكون قلوبنا مكتوبة بنور الروح القدس. ليس الإنجيل نصّاً حرفيّاً، بل هو كلمة الحياة. معناه لا يكمن في حرفيته السطحية، بل في جوهره. لا ينقل بواسطة تعليم نظري، بل بواسطة الكرازة، التي توزّع الكلمة المعلنة على المؤمنين، إذ يقبلون إلى الكلمة المتجسد في ما بينهم. لا منفعة للكتاب إذا فُصل عن المسيح، أو عمّا قاله الآباء في يسوع المسيح، وعمّا يقوله الروح القدس. الكتاب المقدَّس خارج الكنيسة، في خطر أن يتحوّل من كلمة الله في المسيح، إلى كلمة بشرّية صرفة... إن الكلمة يتجسّد في عمق كياننا الشخصي، من خلال قراءة الكتاب المقدَّس. فيبلغ بالإنسان إلى معرفة الإنسان الكامل، الذي هو المسيح. إنّ من يطلب فهم الكتاب المقدّس في شركة الأسرار، وفي الصلاة، يختبر عزاء اللقاء بالسيد في النص الإنجيلي. ويُحمَل من خلال الكلمة المكتوبة، إلى حيث يجالس الكلمة الذي كان منذ البدء. لا فرق بين الكلمة المعلنة في الإنجيل، والكلمة المتجسِّد في الكأس المقدّسة وسط الكنيسة المجتمعة".

لقد كانت كتابات بولس الرسول كلها وحياته موضع إعجاب يوحنا، أُعجِب به كعامل وواعظ ومُبشِّر ورجل الآلام والتحمّل والصبر: "لا ريب في أني أحبّ جميع القديسين ولكني أحبّ حبًّا خصوصيّاً القديس بولس، ذلك الإناء المختار، البوق السماوي، الصديق العزيز للعروس الإلهي... هذا الرجل الذي توجّع على الدوام ماذا نقول عن نفسه؟ أَمِنَ الذهب صيغت أم من الألماس؟ لَعَمْري إنها أصلَب من الألماس وأكرم من الذهب والحجارة الكريمة. إنّها تفوقها متانة ونفاسة. فبأيّ شيء نشبهها إذن؟ إني لا أجد لها مثيلاً. ضعوا كل العالم في كفة ميزان ونفس بولس في الكفة الأخرى فترون أن نفس بولس هي الراجحة!... طوبى لبولس فلقد أظهر كل ما يستطيعه إنسان من اتقاد الغيرة".

د - الإفخارستيا و"سرّ الأخ"..



يتحقّق اتحاد المؤمن بالمسيح في الإفخارستيّا أكمل تحقُّق. ولكن يوحنا يضيف أن هذا الاتحاد هو دعوة للمسيحي ليعيد تحقيقه مجدّداً في حياته اليوميّة، فيربط سرّ الإفخارستيّا بسرّ "الأخ"، الآخر، خصوصاً المتألم والمهمل. ويعتبر أيضاً أن عمل الرحمة نحو الفقراء هو من المواهب الأساسيّة للخدمة الكهنوتيّة، أي رعاية الفقراء والمتألمين، والمتروكين، وبشكل عام كل من ليس لهم أحد يسأل عنهم. كان يعتبر أن التبشير بعمل الرحمة للفقراء والمحتاجين هو عمل يُمليه عليه ضميره، وهو أيضًا رسالة روحيّة ينبغي تتميمها، ويصف هذه الخدمة بأنها "عملٌ وفضيلةٌ وسرّ". ولم يتردد أن يعتبر عمل الرحمة "أسمى من البتولية، ومن الشهادة"، ويشبّه من يعمل الرحمة بالكهنوت، ولكن من نوع آخر حيث المذبح ليس من حجر، بل من بشر يسكن فيه المسيح. فالكنيسة، بحسب قوله، "ليست مكانًا لعرض الذهب والفضة بل هي مكان تجمّع الملائكة.. لم تكن الآنية المقدسة التي قدَّم فيها المسيح دمه لتلاميذه ليشربوه، ولا كانت المائدة من فضة ولا من ذهب، لكن ومع ذلك فلها وقار لا مثيل له لأنها مُلئت بالروح القدس. هل تريد أن تُكرِّم المسيح؟ لا تحتقر رؤية المسيح عاريًا! أي صلاح تعمل إذا كان مذبح المسيح مغطى بأوعية ذهبية بينما المسيح نفسه يتضور جوعًا. المسيح كمشرد بدون مأوى يتجول، يطلب مكانًا يسند إليه رأسه وأنتم عوض استقباله تزينون بيوتكم وجدرانها بالفضة! أين المسيح في حياتكم".

إن واجب ممارسة أعمال الرحمة هو أمر مُلزم للجميع، للأغنياء وللذين يمتلكون القليل. وعندما يدّعي البعض أن الكثيرين من الفقراء يطلبون الكثير برغم من أنهم ليسوا في فاقة الاحتياج، إنهم أصحاء جسديًا، ولا يعملون.. يجيب يوحنّا: أخبرني هل كلّ ما تملكه قد آل إليك من العمل، أم عن طريق الوراثة؟ بل حتى وإن كنت تعمل وتحقق دخلاً، فيجب ألاّ تُغيّر موقفك من الآخر؟... هكذا يؤكد أن ميناء الرحمة ينبغي أن يظلّ مضيئًا، على مثال ما كان يفعله المسيح تجاه الخطاة وكلّ من له احتياج. فمن ناحية يجب على الفقير أن يكون أمينًا ومُمتّن، ومن ناحية أخرى على الغني أن يُقدم عمل الرحمة دون تمييز. إن عمل المحبة قد أخذ أبعادًا جديدة بعد أن طابق المسيح نفسه بالفقير. في هذه الحالة على الرغم من أن عمل الرحمة يُقدم على الأرض، فإنه يصير أداة تواصل مع الله، إذ يستجيب الإنسان للمحبة الإلهية تجاه البشر، ويتمثل بمحبة المسيح على قدر الإمكان.

بدا للذهبي الفم أن كلّ شيء يكدّسه الإنسان هو مأخوذ من آخر محتاج إليه، ولهذا لا يمكن أن يكون هناك شخص غني بدون أن يكون هناك آخر فقير بسبب غنى الأول. إن هذه الفكرة هي ثورة في العقيدة الاجتماعيّة للكنيسة، يقول مثل باسيليوس الكبير: "إن السرقة لا تكون فقط عندما نأخذ ما لغيرنا، بل نكون سارقين حين لا نشارك الآخرين فيما نملك".. "المحتاج هو خاصة الله، أكان وثنيًا أو عبرانيًا. وحتى لو لم يكن مؤمنًا هو يستحق العون" (14) .

لقد جذب الفقر اهتمامه واعتبر أن المسيح حاضر وسط الفقراء، لذلك ناضل كراعٍ ضد الفقر. وكانت المُسلَّمة الأساسية لديه أن لا شيء اسمه "ملكية شخصية" لأن كل شيء ملك لله وإليه يعود. كل الأشياء معطاة منه كهِبَة على شكل دين. كلّ شيء ملك لله والشيء الوحيد الذي يمتلكه الإنسان هو أعماله الصالحة. حلُّ المشكلة عنده يكون بالمحبة "لأنّها لا تطلب ما لنفسها"، وهذا الحل كان مُحقّقًا في الكنيسة الأولى كما هو مُعبَّر عنه في أعمال الرسل: "لقد تخلّوا عن الملكية وفرحوا بشكل عظيم لأنهم بهذه الطريقة ربحوا البركات التي هي أعظم.

"لم تعد الكلمات الباردة "لي ولك" موجودة. إن كان هناك فرح أمام المذبح...

إن تعبير "لي ولك" كان قاسياً وسبَّب الكثير من الحروب في العالم".

"عمل الرحمة" إذاً بالنسبة للذهبي الفم هو كالصلاة والاحتفال بالافخارستيّا والأسرار: "ليس رفع أيديكم سيدخلكم إلى الفرح الأبدي، بل مَدّها لا إلى السماء بل إلى أيدي الفقراء".

عندما ألقي اللوم عليه لأنه يهاجم الأغنياء باستمرار قال: "يتهموني بأنني أُكثِر من مهاجمة الأغنياء، ولكن هؤلاء الأغنياء يظلمون الفقراء دائمًا. أجل أُهاجم الأغنياء، ولكن أُهاجم فقط الذين يُسيئون استعمال غِناهم. الأغنياء هم أبنائي والفقراء أبنائي أيضًا... أنا أودّ تخليصهم من البخل وجعلهم محبوبين من الجميع وحاصلين على الملكوت".

لقد أمضى الذهبي الفم وقتًا طويلاً في أعمال الرحمة ونظم المستشفيات والملاجئ، وكان يقول: "لن يبقى أحد وثنيًا إذا كنا مسيحيين حقًا".

هـ - الزواج دعوةٌ إلى تأسيس "كنيسة مصغّرة"..



ربما كان من أجمل ما كُتب عن الزواج في تراث الآباء ما كتبه الذهبيّ الفم. فالزواج هو بدرجة أولى "مشاركة" في تحقيق إنسانيّتنا على صورة الله؛ لأن صورة الله، لا تتحقّق في الإنسان الفرد، إنّما من حيث أنّه يحيا المشاركة. وتبلغ هذه المشاركة أجلى صورها في سر الزواج. إنَّ الله ليس كيان عزلة، بل "شركة ثالوث محبة"، وقد خلق الإنسان شبيها به، "شركة محبّة "، يقول: "عندما يتحد الزوج والزوجة في الزواج لا يظهران بعد كشيءٍ أرضي، بل كصورة الله نفسه". فالدعوة إلى الوحدة هي بالأساس من ذات كيان الإنسان المخلوق على صورة الله الثالوث. وهكذا يؤسّس الزواج المسيحيّ "العائلة كنيسة مصغّرة"، بحسب تعبيره.

يقول أيضاً: "لا نطلب في الزواج سوى شيئاً واحداً، أعني فضائل النفس، والصفات الأخلاقية، حتى يسود السلام في بيوتنا ونقضي فيها حياتنا في وحدة تامة، فإذا كنا نبتغي السعادة، لنطلب أولا وقبل كل شيء السلام. فالزواج جعل ليكون لنا عونًا على الحياة، وليكون لنا ميناء ضد العواصف وملجأ في الأعاصير، وتعزية في الآلام".

أما في التربية فيقول: "لكي يكون الوالدان مربين صالحين ينبغي أن يتحقّقا من الأولويّات في تربيتهما لابنهما... هل نريد لأولادنا أن يكونوا مشغولون باكتساب الماديات والشهرة الاجتماعية أولاً، أم نريد أن يبحثوا ويتعلموا عن ملكوت السماوات والمكافأة العظمى التي تنتظر الذين يعيشون حياة الفضيلة"..

"لا أزال أحثكم، أرجوكم، أتوسل إليكم أن تهتموا قبل كل شيء وفي وقت باكر بتربية أطفالكم. ربِّ شخصاً ملتزماً بالمسيح.. وعلّمه مع بقائه في العالم أن تكون له التقوى منذ حداثته... ابنك هو بالنسبة لك كائن يرتعد ويخاف من كل نظرة أو كلمة، فاستخدم بداية حياته من أجل الخير، فأنت أول من يستفيد من صلاح ولده، ومن ثم الله نفسه يستفيد من صلاحه. إن كان لك ابن فاضل فأنت تعمل من أجل نفسك".

و - الكهنوت وخدمة الكلمة



يصف في كتابه "في الكهنوت" عظمة الكاهن وأهميَّته، وصفة الراعي التي يحملها، وأنه أرفع من الملوك والملائكة واقربائه. ثم ينتقل إلى الأخطار التي تهدد الكاهن: المجد الباطل والطمع. ومنها ينتقل إلى الصفات التي يجب أن يتحلّى بها: الروح الكهنوتية، والحكمة المستنيرة والصبر الذي يجنّب الغضب. ثم يتكلم عن أهميّة الوعظ، لأن الكاهن يستطيع بكلامه أن يصلح النفوس ويشفيها. كما يستطيع بكلامه أن يبني "مدينة الله". ويصرُّ على شرطين جوهريين ليكون كلام الكاهن مثمراً: الجهد في الدرس والتأمل، واحتقار مديح الناس. فإذا تحرر من هذه النقيصة تكون ثمارها أفضل سَنَد للفصاحة المسيحية. ويعود أخيراً ليتكلّم عن عظمة الكاهن الذي تحيط به الملائكة أثناء القداس. وأنه الكاهن معرّض أكثر من غيره للتجارب. فعليه أن يكون شديد الغيرة على النفوس وشديد الحرص والحذر في تعاطيه مع النساء!

ز ‌- تعاليم أخلاقيّة ورعائيّة عامّة



كشف يوحنّا، من خلال عظاته، العيوب والرذائل التي كانت منتشرة في عصره كالبخل والترف والفجور وغيرها من الرذائل، يقول: "لو أراد إنسان غريب أن يقارن بين أحكام الإنجيل وما يمارسه المجتمع لانتهى إلى أن المسيحيين ليسوا تلامذة المسيح بل أعداؤه".

كان يكره الضجيج وخشخشة السلاح وتجميل الوجوه والابتسامات المتكلفة. ركّز على كيفية السلوك بحسب الإنجيل في الحياة اليومية.. رأى أن مهمته الرئيسة هي إصلاح أخلاق المؤمنين. وكان انطباعه أنه يعظ لناس صارت المسيحية بالنسبة لهم ثوبًا عصريًا "مِن بين العديد من الآلاف، مِن المستحيل أن تجد أكثر من مئة يُخلِّصون أرواحهم حقيقة، وأنا لست متأكدا حتى أن هناك ذلك العدد الكبير". لقد فهم العمل الرعائي على أنه أولا خدمة تعليم وإقناع. الراعي هو سلطة ولكن سلطته تفهم من خلال الكلمات التي تحاول الإقناع وهذا هو الفرق الأساسي بين السلطة الروحية والسلطة الدنيوية: "الإمبراطور يُجبِر أما الكاهن فيُقنِع، الأول يتصرَّف بالأوامر والثاني بالإقناع". لقد كان في مزاياه متشدّدًا وقاسيًا، لكنه كان دائمًا معاديًا للقوّة والإكراه حتى مع الهراطقة: "لقد أُمرنا أن نجلب الخلاص للناس بقوة الكلمة واللطف والإقناع".. "لا نقاتل لنجلب الموت للأحياء بل لنعيد الأموات إلى الحياة، وفي صراعنا يجب أن نكون وُدعاء ومتواضعين. أنا لا أُضايق بالأعمال إنما بالكلمات وأنا لا أريد طرد الهراطقة بل الهرطقة... أنا معتاد على تحمّل الظلم لا على أن أُظلَم، ومعتاد على تحمّل الاضطهاد لا على أن أضطهد. المسيح انتصر لكونه مصلوبًا لا صالبًا ". كان نشاطه يهدف إلى جعل المسيحيين يفهمون أن حقائق الإيمان هي نفسها حقائق ووصايا الحياة وبأنّها يجب أن توضع في الممارسة اليومية للشخص. كان يطلب من مستمعيه أن يعيشوا وفق إيمانهم وبحسب الإنجيل.

5 - خاتمة :

نكتفي بهذا القدر من التعرّف على هذا القديس، ونختم بقول للبابا بندكتوس السادس عشر في ذكرى 1600 لرحيل يوحنّا الذهبي الفم أحد ألمع آباء ومعلّمي الكنيسة (407-2007): "ابتُدئ بتكريم فم الذهب انطلاقًا من القرن الخامس، في الكنيسة المسيحية بأسرها، في الشرق والغرب، وذلك لأجل شهادته الشجاعة في الدفاع عن الإيمان الكنسي ولأجل التزامه السخي في الخدمة الرعوية. لقد استحق، بفضل تعليمه العقائدي ووعظه، ونظرًا لاهتمامه بالليتورجية المقدسة، أن يحصى في عداد آباء الكنيسة وملافنتها. وكذلك تم تعميم شهرة وعظه".

القديس يوحنّا الدمشقيّ

1 - مقدمة :

"أبت العروبة أن تتنصّر"!.. قول خاطئ بدون أدنى شك. فالمسيحيّة في عمقها هي إيمان "التجسُّد"، ومن واجبها "الانثقاف" في كل عصر وبيئة، كما رأينا مراراً وتكراراً. هكذا وجدت المسيحيّة مكانها الجديد في سوريّة بعد "الفتح العربي".. هكذا فعل يوحنا الدمشقيّ وتلاميذه، وأبوه وعائلته وكنيسة سوريّة من قبل ومن بعد، إذ جعلوا الإيمان المسيحي شاهداً في الواقع الجديد، بالأمانة للحقيقة والمعرفة والقداسة.

إن سوريّة الطبيعيّة هي بالأساس مجتمع منفتح على التعددّية، فقد عاشت فيها السريانيّة والآشوريّة واليونانيّة معاً قروناً طويلة؛ وجاءت العربيّة بعد "الفتح الإسلامي"، فصارت في بداياتها ثقافة المواطنة، وبقيت السريانيّة أو الآشوريّة ثقافة البيت، واستمرّت اليونانيّة أيضاً لغة المعرفة والعلم والعالميّة.. حقاً إن "سوريّة مهد الحضارات".

من هذا المنظور ندخل إلى دراسة القديس يوحنّا الدمشقيّ كأحد كبار الآباء وملافنة الكنيسة. لم يكتب بالعربيّة، أو أقلّه: ليس لدينا كتابات له وجدت أصلاً بالعربيّة، ولكنّه عاش هذا التنوّع الثقافيّ السوريّ، ولقد تتلمذ له ثلة من كبار المفكرين اللاهوتيين العرب الذين شهدوا للإيمان المسيحي بلغة عربية ناصعة. وبهمّة المثلث الرحمة المطران ناوفيطوس إدلبي نشأت حركة نشر ودراسة لهذا التراث اللاهوتي الكبير (15) .

ولأننا تلامذة هذا "التراث" العظيم ننكبّ، لا على دراسته وحسب، بل على مواصلته "تقليداً" حيّاً، فنقتبس من منهجيّة الآباء لنترك إرثاً مقدّساً للأبناء.

2 - حياته :

وُلد منصور بن سرجون، قديسنا، حوالي سنة 660 في دمشق عاصمة الأمويين آنذاك، من عائلة عريقة وغنية(16) ؛ عُرفت بفضيلتها وحبها للعلم والمعرفة، وبمكانتها الاجتماعية والسياسية الهامة. فكان معظم أجاده، كذلك أبوه سرجون، من كبار موظفي الخلفاء الأمويين، يديرون الحركة المالية والاقتصادية، ويرعون شؤون الثقافة والفكر في ديوان الخليفة؛ ويسمّي ثيوفانس المؤرخ أبا يوحنّا بـ "الرجل العريق في المسيحية". فكان عند معاوية ومن خلَفه، أي مروان، وزيراً مطلقاً, فأولاه الاثنان ثقة كبرى, وكان لا بدّ لهما من خبرته وإخلاصه لتنظيم شؤون دولتهما الحديثة النشأة.

نشأ منصور بن سرجون (يوحنا الدمشقي), على ما يُقال, مع يزيد بن معاوية, الذي كان دوماً موالياً للنصارى.

اختار سرجون معلّماً لابنه, بحسب شهادة ميخائيل الراهب (واضع سيرة الدمشقي), أسيراً مسيحياً من جزيرة صقلية اسمه قزما. تلقّى يوحنا تربيته وثقافته مع أخيه بالتبني, واسمه قزما أيضاً، الذي تبنّاه سرجون؛ وهذا ما يفسّر تلك الروابط الحميمة التي جمعت بين يوحنا و"قزما المنشئ" هذا الذي أصبح أسقف مايوما.

تابع منصور قديسنا وديعة أسلافه المسيحيين في الشهادة للإيمان المسيحي في المحيط الإسلامي بأمانة وبساطة. فكان أهم مؤتمنٍ للخليفة الأموي، بعد أن تمرَّس منذ نعومة أظافره على العلم والفلسفة والثقافة واللغات، فكان يُجيد اليونانية لغة العلم والفلسفة، والسريانية لغة البيت، والعربية لغة الوطن.

يقول ميخائيل الراهب (كاتب سيرته): "نعم، لقد كانت وظيفة يوحنا على جانب كبير من الأهمية. وقد استطاع بعقله الواسع النيّر وقلبه المستقيم أن يقدّم للخليفة خدمات عديدة".

وهكذا كان يوحنا مثل والده زعيماً للمسيحيين, يُمثّلهم ويدافع عن حقوقهم لدى السلطات المدنيّة.. ثم ساءت أوضاعهم في النصف الثاني من حكم عبد الملك, وتبدّلت استعدادات الخليفة الطيّبة، منذ أن أسند أقاليم الشرق إلى قائدين عربيين: الحجّاج ومحمّد أخو الخليفة. فصار تحوّل ملموس في معاملة المسيحيين, خاصة في عهد وليد الأول (705 – 715).. وعندما خلَف سليمان أخاه وليد (715 – 717) ساءت الأمور أكثر بالنسبة للمسيحيين, وتمّ تسريحهم من وظائفهم، كذلك في عهد عمر الثاني (717 – 720)؛ إذ اتخذ هذا الأخير إجراءات قاسية ضدّ المسيحيين..

هنا وقف يوحنا الدمشقي عاجزاً حيال هذه الإجراءات التعسفيّة المؤلمة المتوالية، لا بل ذهب هو نفسه ضحيتها, فكان عليه أن يختار بين منصبه وإيمانه المسيحيّ, فاستقال من منصبه، قبل أن يتسلّم هشام خلَف يزيد الثاني ويلغي كل الإجراءات التعسّفية التي قامت قبله, ويعيد الوئام والاحترام إلى النفوس، فنعم المسيحيون في عهده بفترة سلام.

لم يُهمل يوحنّا جديته في نهل المعارف الإلهيّة، حتى آلت به أن يصير راهباً في دير مار سابا بفلسطين، ليقدم شهادة للإيمان من نوع آخر في التأليف ونظم الصلوات والأشعار الدينية، فلا نزال، وإلى اليوم، نصلي مؤلفاته، كنشيد "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور"، ومعظم صلوات الأعياد الكبرى. ولا نعلم بالتحديد تاريخ التحاقه بدير القديس سابا الكائن قرب القدس.

ارتقى يوحنا الخامس سدّة البطريركية الأورشليمية سنة 706م. ومكث حتى سنة 727م. وقاوم بدعة محطّمي الأيقونات, فوجد في يوحنا الراهب خير نصير ومعبّر عن أفكاره وكلامه ضدّ البدعة الجديدة. ورسمه كاهناً ليتمكّن من الوعظ في المدينة المقدسة وخاصة في كنيسة القيامة.

يروى أن لاون الملك، ماقت الأيقونات المقدسة، لحقده على يوحنا اتهمه زوراً بالخيانة، مما سبب له قطع يده. فما كان من يوحنا إلا أن دخل غرفته "وطرح على الأرض كلية جسده قُدام أيقونة السيدة المجيدة، ذات الشفاعات غير المردودة، وألصق كفه المقطوع إلى زنده وتوسّل إليها من قعر قلبه، وفاضت عيناه دموعاً محرقة منحدرة على صدره، قائلاً: أيتها السيدة القديسة الطاهرة والدة إلهنا الكلمة الأزلية، بتجسده من دمائك النقية لمحبته الجزيلة لجنس البشرية، أسألك أن تتوسلي إليه من أجلي... لكي تردي يدي إلى ما كانت عليه أولاً كاملة، صحيحة من كل ألم وقطع، معافاة، وتظهري عبدك جزيل تحننك لكي ما يبطل لساني ما عشت من مديحك، لأنك قادرة على ما سألتكِ". "وللحين غفت عيناه فرأى المتحننة بشكلها وهيئتها ناظرة إليه بطرفها وقائلة له: قد عُفيت يدك، فأنجز لإلهك نذرك، ولا تؤخر عهدك. فاستيقظ بفرح مسرور، ونهض واقفاً على رجليه، مصلياً شاكراً. وترنم للوقت بما يلائم سرعة إجابته في توسله وكمال عافيته لساعته".. وما أيقونة العذراء ذات الأيدي الثلاث ألا رمزاً لهذه الأعجوبة. توفي على الأرجح سنة 749.

3 - مؤلفاته :


ً1- المؤلفات العقائديّة :



أ – كتاب "ينبوع المعرفة": أهمّ مؤلفات يوحنا الدمشقي وتحفته الفريدة الحقيقيّة. عرض فيه العقيدة المسيحية القديمة, تتقدّمه توطئة فلسفية وتاريخية. إنه أفضل تلخيص للتقليد اليوناني, ولا سيما قضايا المعتقد الخاصة باللاهوت الشرقي العقائدي. وقدّمه لقزما زميله السابق في دير القديس سابا وأخيه بالتبني, الذي رُسم أسقفاً على مايوما سنة 742م, وهذا يعني أنه كتبه بعد هذا التاريخ.

ب - المدخل الأولي للعقائد: هو بحث فلسفي صغير, أملاه المعلم على تلاميذه وجمعه له أحد التلاميذ, وهو الذي أصبح لاحقاً أسقف جبله في سوريا. وقد طرحه يوحنا في السنين الأولى من إقامته في دير القديس سابا.

ج – كُتيّب في العقيدة الحقيقيّة: هو إعلان إيمان مفصّل كتبه يوحنا لإيليا أسقف يبرود المريد عن بدعة المشيئة الواحدة, وتلاه الأسقف أمام متروبوليته بطرس مطران دمشق.

د – بحث في الثالوث الأقدس: موجز عقائدي, على طريقة السؤال والجواب, عن الله والثالوث والتجسد. يبدو أنه مستمد من مؤلفات يوحنا وقد صاغته يدٌ أخرى.

هـ- بيان الإيمان القويم وشرحه: حفظه التاريخ لنا في ترجمة عربية. ربّما تلاه يوحنا يوم رسامته الكهنوتية.

2 ً- مؤلفاته الجدلية الدفاعية:



انشغلت كنيسة الشرق بأعداء كثيرين في الداخل والخارج. وقد كتب يوحنا ضدّ هرطقات زمانه كلها: النسطورية, والطبيعة الواحدة, والمشيئة الواحدة, والمانويّة, وخصوصاً بدعة محطّمي الأيقونات.

ووضع الخطوط العريضة لمنهج الحوار مع المسلمين, وترك نبذة ضدّ الخرافات الشعبية. وتناولت كتاباته كلها مواضيع إيمانية وعقائدية.

أ - أبحاث ثلاثة ضدّ محاربي الأيقونات: هي أهم كتابات يوحنا الدفاعية وأكثرها ابتكاراً. تنتهي بسلسلة طويلة من أقوال الآباء القديسين المؤيدة.

ب - بحث في الطبيعة الواحدة: أرسل يوحنا إلى الأرشمندريت جردانوس رسالة في شأن النشيد المثلّث التقديس.

ج - بحثان ضدّ النساطرة: برّهن فيهما يوحنا عن لاهوت المسيح ووحدة أقنومه بالاستناد إلى الكتاب المقدس وقانون نيقيا.

د - بحث في مشيئتي المسيح: وهو موجّه إلى اليعاقبة وأصحاب المشيئة الواحدة.

هـ - الحوار مع المسلمين: منذ ظهور الإسلام شعر المسيحيون بواجب الدفاع عن دينهم حياله. وتعود المناقشات اللاهوتية إلى سنوات الفتح الأولى. عقب المناقشات الشفهية مؤلفات دفاعية.

وقد حفظ تلميذ يوحنا العلامة ثيودوروس أبو قرّة (+820)، أحد كبار أعلام "التراث العربي المسيحي"، خلاصة مناقشة على شكل حوار بين مسيحي ومسلم التقطها عن دروس يوحنا الدمشقي بعضُ تلاميذه...

ً3 - الأعمال الزهديّة والنسكيّة:



يوحنا الدمشقي مؤمن حتى الصميم, وقد كان قرار تركه دمشق والتحاقه بدير مار سابا للزهد والنسك, مفترق طرق مهمّ في حياته. وقد ترك لنا مؤلفات في موضوع النسك والزهد.

أ - الإزائية المقدسة: مجموعة حِكم وتحريضات أدبية تتناول مواضيع مختلفة, مقتبسة من الكتاب المقدس وتعليم الآباء القديسين, تتعلق بحياة المسيحي.

ب - بحث في الأرواح الشريرة الثمانية: يعرض فيه يوحنا الدمشقي الوسائل الضرورية لمحاربة الرذائل الرئيسيّة.

ج - بحث في الرذائل والفضائل النفسانية والجسدية: أوجز في هذا البحث يوحنا الدمشقي مبادئ نفسانية ونسكية.

د - بحث في الأصوام المقدسة: رسالةٌ موجّهة إلى الراهب كوميتاس يتكلّم فيها الدمشقي عن أوقات الصيام ومدته ومنفعته.

ً4 - مؤلفاته التفسيريّة الكتابية:



لم يترك لنا التاريخ كتباً تفسيرية كتابية ليوحنا الدمشقي, سوى تفسير رسائل القديس بولس... وإذا كان حقاً مكتوب بيد الدمشقي, فهو مستوحى في غالبيته من مواعظ يوحنا الذهبي الفم, وكيرلس الإسكندري وغيرهما من آباء الكنيسة.

5 ً- عظات:



استحق يوحنا لقب "المتدفق الفم" نظراً لسهولة الكلمة, وإيجاز العبارة, ووضوح العرض... التي كان يتمتّع بها. فقد كان واعظاً بليغاً مبدعاً.

اتّسمت كل مواعظه بطابع عقائدي جعلها قيّمة وثمينة, وقد تجلّى فيها لاهوت عميق عن أهم العقائد المسيحية, نعني بها التجسد والثالوث.

6 ً– الأعمال الشعرية والموسيقية والليتورجية:



أ – الشعر الكنسي: قد ألّف يوحنا الدمشقي الشعر منذ حداثته. وعرف الشعر العربي نوعاً من النهضة في عهد الأمويين. فأعاد الأمويون, كما كان يحدث في سوق عكاظ, ظهور الشعراء في مجالسهم. فتهافت إليهم الفرزدق والأخطل وجرير ... وكل بدويّ أياً كان, ينشد الشعر, كانت تُفتح له أبواب مجالسهم. وهكذا اشترك يوحنا بتلك الجلسات المرحة, لما كانت تربطه بيزيد من علاقة حميميّة, ولما كان له من منصب مرموق في دار الخليفة.

لكننا لا نملك ما يؤكد لنا أن يوحنا كان يتعاطى الشعر العربي. رغم موهبته الشعرية وتأليفه في لغة أجداده اليونانية. وقد شهد التقليد البيزنطي له بأنه كان أفضل من انشد الشعر, خاصة منجزاته الشعرية والقوانين الكنسية والأناشيد التكريمية للسيد المسيح والعذراء أمه, وبعض القديسين. فشهد له تاريخ الشعر الكنسي بأنه, مع أخيه بالتبني قزما, من أعظم منظّمي الشعر ولن يعادل أحدٌ مطلقاً إنجازهما في ترتيب القوانين الكنسية الشعرية. ونسبت سيَرُ القديسين إلى يوحنا تأليف كتاب "الألحان الثمانية (أكتوئيخوس) وقوانين شعرية عديدة.

ومن نتائج الدمشقي الشعرية أيضاً تأليف الأناشيد, منها الموزونة ومنها ما هو ملحق بالشعر الموزون.

حاول صفرونيوس إمستراتيادس اليوناني في كتابه "شعراء ومنشدون" أن يعدد بدقة ما أنتجه يوحنا الدمشقي في مجال الشعر الديني, فنسب إليه 531 إرمساً لأيام الأحاد, و75 قانوناً للرزنامة الشهرية و15 قانوناً للمعزي الكبير, و454 أنشودة مستقلة النغم, و138 ستيخيرة تتخللها مزامير, و13 ستيخيرة للأموات و181 ستيخيرة مشرقية .

ب – النغم الكنسي والموسيقى: وضع يوحنا الدمشقي كذلك أنغاماً منسية ومؤلفات شعرية، وقد اعترف النقد العصري بدور يوحنا الدمشقي الرئيسي في هذا المضمار, رغم أنه قد لاحظ أن التقليد قد ضخّم دوره. وقد حسّن يوحنا العلامات الصوتية, فأضاف إليها ستة علامات فأصبح عددها معه خمسة وعشرين علامة صوتية. وقسّم العلامات على فئتين : علامات الصوت وعلامات الكيفية الصوتية أو العلامات الصامتة.

ج – تيبيكون دير مار سابا: ينسب التقليد أيضاً إلى يوحنا الدمشقي تنظيم التيبيكون الكنسي في دير القديس سابا... وقد اضطر يوحنا إلى إعادة النظر في ما كان قبله نظراً لتدفق الأناشيد الجديدة على الفرض الكنسي, وكذلك كثرة الترانيم المؤلفة. وقد نسب التقليد إلى يوحنا الدمشقي كثيراً من المقتطفات المتنوعة من قانون الفصح العظيم, ومؤلفات أخرى مشتبه في انتسابها أو منحولة تحمل اسمه فقط. وتشغل مؤلفات الدمشقي ثلاثة مجلّدات من مجموعة آباء الكنيسة – من المجلّد 96 – Migne.

4 - تعاليمه :


أ - الفلسفة والإيمان:



بيّن يوحنا الدمشقي بوضوح الطريقة التي انتهجها في اللاهوت فقال : "سأبيّن أولاً أحسن ما قاله حكماء اليونان لعلمي أن ما عندهم من قول نافع هو هبة الله للبشر, إذ كل عطية صالحة وكل هبة كاملة إنما تهبط من فوق من لدن أبى الأنوار. أما ما يناقض الحقيقة فهو بدعة خبيثة من أضاليل إبليس, وتلفيق من الروح الشرير كما يقول غريغوريوس اللاهوتي. فسأقتدي إذاً بالنحلة فأجمع كل ما يفيد الحقيقة, وأجني ثمار الخلاص من الأعداء أنفسهم, وأنبذ ما عندهم من الأباطيل والبهتان.. وبعد ذلك أورد هذيان الهراطقة الملاحدة حتى نعرف ضلالهم فيزداد تعلّقنا بالحقيقة. وأخيراً اشرح بعون الله الحقيقة التي تهدم الضلال وتهدم البهتان. ولكي أُظهر جمالها أُنظّمها كفي إطارٍ من ذهب بكلمات الأنبياء والصيادين الملهمين والرعاة والمعلمين الممتلئين من الله. وإذ ذاك يسطع ضياء مجدها وينير سناها العقول وقد تنقّت من كل دنس ونجت من كل تشوش ...". (من كتاب ينبوع المعرفة).

لا بأس إذن من الاستعانة بالفلسفة كخادمة للاهوت, وكأداة لإيضاح الوحي, لا بل علينا أن ننزعها من الضلال ووضعها في نور الهدى لخير المؤمنين. فإن أساس الإيمان ليس براعة العقل بل الوحي الإلهي. الذي تستمد منه الكنيسة تعاليمها. فلكي يُحسن اللاهوتي توجيه أبحاثه, يجب عليه قبل كل شيء أن يكون متضلّعاً من معرفة الوحي المتضمن في الكتاب المقدس والتقليد.

وفّق الدمشقي بين العقل والإيمان, فوضع الفلسفة الإغريقية ولا سيما فلسفة أرسطو في خدمة الوحي, فاستخرج من كنوز الوحي الكثير من النتائج المهمّة والنفيسة.

ب – مسألة الشرّ:



وجود الشر في العالم من المشاكل الصعبة التي يتذرّع بها الملحدون ليُنكروا وجود واجب الوجود أو كمالاته الإلهية ويُقلقوا عقول العامة فيدّعون أن وجود الشرّ في العالم ينقض وجود الله, إذ لو وجد الله لكان حتماً كلي الكمال, فلا يبقى لوجود الشر في عالم خلقه الله ويسوسه بحكمته.

يقسم الدمشقي الشر إلى شرٍ طبيعي, وهو البلايا على اختلاف أنواعها, وشرٍ أدبي وهو الخطيئة, وتعريفها هو انحراف الإنسان باختياره عمّا هو بموجب الطبيعة إلى ما هو خلاف الطبيعة, ثمّ يبرهن أن الشر الذي لا تمكن إضافته إلى الله, تقدّس اسمه, لأنه ينقض كمالاته إنما هو الشر الأدبي, فهو وحده شرٌ حقيقي. أما الشر الطبيعي فليس هو شراً إلا في الظاهر, فلا يضير وجود الله أو كمالاته, وهو في الواقع عقاب الخطيئة فيظهر عدل الله, والله يستخدمه للخير.

والشر الأدبي ليس في الحقيقة من الله لأنه نقص وعدم, فليس بموجود في ذاته ليكون الله خالقه, وإنما هو نتيجة سوء استعمال الإنسان لحريته. فالله تعالى يأمر الإنسان بصنع الخير ومجانبة الشر, ويساعده على ذلك بنعمته ووعده ووعيده, لكنه لا يُكره الإنسان لا على الخير الذي يأمر به ويحبّذه, ولا على الشر الذي ينهى عنه.

ج - سر التجسد:



إنّ السيد المسيح هو ابن الله حقيقة وابن البتول حقيقة: ابن الله بحسب اللاهوت فهو إذن يستحق السجود. وابن مريم بحسب الناسوت فهي إذاً والدة الإله. إن في المسيح مشيئتين: إلهية وإنسانية ولكن مشيئة ناسوته خاضعة خضوعاً كاملاً لمشيئة لاهوته.

تداخل الطبيعتين الإلهية والإنسانية بلا امتزاج ولا اختلاط جعل كلاً من الطبيعتين تصدر أعمالها الخاصة بالاشتراك مع الأخرى وهذا ما جعل لأعمال المسيح البشرية قيمة غير متناهية. ووضع الدمشقي قواعد واضحة وقيّمة لتبادل الخاصيّات, وهو يقوم بإسناد خصائص اللاهوت في المسيح إلى الناسوت وبالعكس.

د - إكرام القديسين والأيقونات:



لمع يوحنا الدمشقي خاصة في الدفاع عن إكرام القديسين وذخائرهم وصورهم. فقد أبدى غيرة لا تعرف الملل في الدفاع عن هذه العقيدة. فخاض هذا الموضوع بحماسة وبلاغة, وبيّن وجه الصواب في إكرام خدّام الله وذخائرهم وصورهم. وأصبح مرجعية حتى أيامنا هذه في هذا المضمار.

"أصوّر غير المنظور، لا من حيث هو غير منظور، بل من حيث إنه قد صار منظوراً لمّا أخذ جسداً ودماً من جسدنا ودمنا. لا أصوّر الألوهة غير المرئيّة، بل أصوّر الجسد الذي فيه شوهد الله..

لقد أخذنا نعمة التمييز فنعرف ما يجب تصويره وما لا يجب!.. لا أعبد المخلوق عوض الخالق، بل الخالق الذي صار مخلوقاً بدون انحطاط أو انتقاص، ليُمجِّد طبيعتي، ويشركني تماماً في الطبيعة الإلهيّة".

هـ - الثالوث الأقدس:



سر الثالوث الأقدس هو العقيدة الإيمانية الأساسية. فقد يحسب البعض أنه لا يمكن تبيان ملاءمته, وفهم شيء منه على طريق المقايسة إلاّ بالتشبيه المعروف الذي ابتكره أغسطينوس وأوصله على أوجه توما الأكويني, وهو تشبيه ولادة الابن من الآب بصدور الفكر عن العقل, وانبثاق الروح القدس بصورة المحبة عن الإرادة، أو بصورة الشمس التي تُنير بأشعتها وتدفّئ بحرارتها، بحسب تشبيه ترتليانوس.. ولكن الدمشقي علّل تثليث الأقانيم هكذا: "ليس الله بلا نطق, فإذاً له كلمة, وليست كلمته أقلّ كمالاً من كلمتنا, فإذاً لها روح, لأن كلمتنا روحاً". ويبيّن يوحنا الدمشقي الفرق بين كلمتنا والنفس الذي يرافقها, وكلمة الله وروحه ويثبت أن كلمة الله وروحه هما أقنومان أزليان لكل منهما ذات جوهر الآب. فيمثّل لنا الدمشقي الآب فكراً أزلياً غير متناهٍ فلا يمكنه أن يكون بلا نطقٍ. لأن النطق هو من طبعه رسول الفكر, ونطقه أي كلمته أزلي نظيره مرافق له دائماً. لأنه لم يكن من وقتٍ خلا فيه الآب من النطق. وهو أيضاً غير متناه لأنه يعبّر عن فكره الواحد البسيط الذي يمثل ذاته البسيطة غير المتناهية, ولا يتميّز عنه إلا بصدوره منه, فهو والآب واحد, سوى أن الآب فكرٌ ناطقٌ والابن فكرٌ منطوقٌ, ولذا يُدعى الابن أيضاً تحديد الآب الطبيعي وصورته الحية التامة. والنطق بالكلمة يرافقه نفسٌ, لأن دليل النطق هو الروح, ولكن لا كنفسنا لأننا نحن نتنفس لحاجة جسدنا إلى الهواء, ولذ فنفسنا غريب عنا مرافق حتماً للنطق وغير متشكّل حتماً بصورة النطق إلا عندما يرافقه. أما الله تعالى فلا جسد له, ولذلك فروحه أقنوم أزلي غير غريب عن جوهره بل هو ذات جوهره, لأن الله جوهر بسيط, لا عرض فيه ولا تركيب ولا يتميّز روحه عنه إلا بأنه منبثق منه, وهو أيضاً مُسبِّبٌ عن صدور النطق الإلهي, موافق له, متشكّلٌ بصورته حتماً ولذلك نسمع الدمشقي يسمّي الروح صورة الابن كاملةً, المستقرّة في الابن, والمنبثق من الآب في الابن.

و - مريم العذراء:



يسند يوحنا الدمشقي كل تعاليمه عن مريم العذراء إلى نقطة جوهرية أساسية هي سر الأمومة الإلهية. وسعى ليكون واضحاً, فاعتصم بالدقة, مبتعداً عن كل مغالاة. فلقب "والدة الإله" شائع في كتاباته وأقواله. وقد درس الموضوع درساً مسهباً في كتابه "الإيمان القويم". وفي مقالتين كتبهما ضدّ النسطورية.

لقد ارتضى الآب منذ الأزل أن تصير مريم أماً لابنه الوحيد وفي الوقت المعين أرسل الملاك جبرائيل ليبشّرها, والروح القدس رفع البتول وقدّسها وخلق فيها مقدرة على أن تسع اللاهوت, وقوةً على ولادة ناسوت الكلمة. أما الكلمة فهو تلك القوة المظللة للبتول, والمتخذة من دمائها الطاهرة مع الناسوت نفساً شبيهة بنفسنا. وتحت تأثيره يتكوّن الجنين دفعةً واحدة, مستنداً إلى أقنوم ابن الله الذي يصح حسب نظرية أرسطو أن يُدعى زرعاً إلهياً.ىلذلك فالمسيح مركّب من طبيعتين كاملتين, وخاضع لولادتين, ولا يمكن أن يُسمى إنساناً متألهاً بل إلهاً متأنساً إذ إنه اتخذ جسماً ونفساً بشرية متحدين تماماً في أقنوم الكلمة. فمريم البتول هي والدة الإله لأن غاية الأمومة الأقنوم لا الطبيعة. فقد تقدّست بنوع فائق في حين التجسد وأصبحت قابلة, بإبداع الروح القدس, أن تسع اللاهوت في حشاها وأن تلد الناسوت. فهي تقوم نحو ابنها ما تقوم به كل أم نحو ثمرة أحشائها, ومريم في كل هذا تبقى عذراء في الحبل, وفي الولادة, وبعد الولادة... وتلد دون وجع. وجسدها الذي كان بعيداً عن الدنس انتقلت به إلى السماء بعد رقادها. لذلك يردّد الدمشقي أن مريم هي شفيعة لا تُخزى ولا تُخزي.

5 - خاتمة :

جدير بنا أمام عظيم كالدمشقي، أن نلتزم بالواقع بكلّ متغيّراته، كما فعل هو في مختلف مراحل حياته. فأعطى مواطنته في الخلافة الإسلاميّة مكانتها في الواجبات والحقوق، وكان أنموذجاً لمواطنيه مسلمين ومسيحيين. ولم يُغفل انتمائه الثقافي إلى الهليّنية لا بل أبدع أيضاً في علومها ومعارفها. وترك نفسه بين يدي الله ملبياً دعوته على أتمّ وجه.. هكذا السوريّون، أمثال مار أفرام والذهبي الفم والدمشقيّ، ينتمون إلى الله في عمق الواقع!
 

kalimooo

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 يونيو 2008
المشاركات
143,887
مستوى التفاعل
1,787
النقاط
113
الإقامة
LEBANON
just4jesus

بركة صلاوتهم مع الجميع

شكرااااااا

نعمة ربنا يسوع المسيح معك
 

KOKOMAN

.
مشرف سابق
إنضم
9 سبتمبر 2007
المشاركات
122,437
مستوى التفاعل
413
النقاط
0
الإقامة
ALEX
بركه صلواتهم فلتكن مع جميعنا

اميـــــــــــــــن

ميررررررسى على السيره العطره

ربنا يبارك حياتك
 

amad_almalk

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
23 ديسمبر 2007
المشاركات
2,887
مستوى التفاعل
17
النقاط
0
الإقامة
alex
بركه صلواتهم تكون معانا جميعا
مرسيىىىىى علي السيره
ربنا يعوض تعبك
 
أعلى