أمي، و"أحمد رشدي"
أمي، رحمها الله، لم تحترم أبدًا قواعدَ المرور، رغم صرامتها الشديدة معنا، وجديتها الفائقة في الحياة. كانت تسير عكس الاتجاه، وتركن في الممنوع، وتتجاوز السيارات من اليمين، وترجع للخلف على الكباري وغيرها من فظائع. وحين يوقفها ضابطُ مرور لسحب الرخص، تقول له ببراءة: “أنا أم مثالية. ابني وبنتي أوائل الجمهورية، طب وهندسة، والمفروض الدولة تساعدني مش تسحب رخصي وتعطلني عن إتمام رسالتي في تقديم مواطنيْن صالحيْن متفوقيْن لمصر!” وبعد ذهول رجل المرور، يرعوي ويحنّ قلبه، ويكاد يقبل يد أمي، أم الأوئل!
أصرخ فيها قائلة: “ده ابتزاز! انتي بتعايري مصر عشان ولادك شاطرين؟! احنا شاطرين لنفسنا وانتي بتربينا كويس عشان ده دورك وواجبك، وعشان تستمتعي بينا مش عشان خاطر عيون مصر! لازم تحترمي النظام يا ماما، المفروض نكون قدوة!” فترمقني بازدراء كأنني بلهاء وتهمس في ثقة: “النظام في الفوضى، فوضى.”
كانت أمي تؤمن أن "النظام" وسط "الفوضى" هو قمة "الفوضى". وأن الفوضى حين تعمُّ مجتمعًا، تشكّل مع الوقت نظامًا فوضويًّا خاصًا، إن حاولتَ إصلاحَه، بفرض نظام حاسم، أفسدتَ كلَّ شيء. وكانت تدلّل على تلك الفلسفة العجيبة بقانون الرياضيات والنحو الشهير (سالب السالب = موجب) أو (نفي النفي = إثبات). وبالتالي فإن فوضى الفوضى = نظام.
تبنّت أمي هذه المنطق السفسطائي بعد قصة خبراء المرور اليابانيين الذين انتُدبوا لوضع استراتيجية تُصلح حال المرور المتردي في مصر. بعد دراستهم الوضع عن كثب، قالوا ما يلي
“أولا: نردّ إليكم الأتعاب لأننا لم نقدم في مقابلها عملا.
ثانيا: النظام المروري في مصر لا نستطيع أن نضع له مسمًى أو ندرجه ضمن تصنيف بعينه؛ لأننا لم نر شبيها له من بين أنظمة المرور في العالم
ثالثًا: بوسعنا أن نطلق عليه: "الفوضى المنظمة" أو “النظام الفوضوي”. لأن كل سائق يكون على دراية تامة بأخطاء السائق المجاور، ومن ثم يكون جاهزًا برد الفعل المناسب لخطأ زميله، فيتلافاه.
وعليه، فهنا أقل معدلات حوادث طرق في ظلّ تلك الفوضى الهائلة. أما لو فرضنا نظامًا حاسمًا، من الأنظمة الدولية المعتمدة، فسوف تزيد معدلات الحوادث نظرًا لارتباك السائقين وعدم مقدرتهم على تنفيذ النظام بشكل كامل وشامل ودقيق.
كانت أمي تمارس هوايتها في كسر نظام المرور قبل عام 1984، وبعد عام 1986، وفقط. أما بين هذين العامين فكانت شديدة الالتزام.
وأظن القارئ قد خمّن السبب. هي الأعوام الثلاثة التي حمل فيها اللواء العظيم "أحمد رشدي" حقيبة وزارة الداخلية، فكانت مصر "ماشية على المسطرة" بالتعبير الدارج. هشّم هذا اللواء نظرية اليابانيين وأثبت أن تطبيق النظام (بعماء) وحسم على الكبير والصغير، وعدم الانصياع للمحسوبيات و(ثقافة معلش) المتفشية بيننا، بوسعه أن يخلق نظامًا وأسلوب حياة محترمًا. التزمت أمي إثر غرامة فورية ضخمة دفعتها وسحب رخصتيها، بعد ارتكابها مخالفة مرورية. ولم تُفلح استعطافاتها للضابط ولا معايراتها لمصر بأنها أم الأوائل. رد الضابط باقتضاب وحسم: “مش هاينفع، أوامر مشددة.” وسحب الرخصة، والتزمت أمي ثلاثة أعوام كاملة التزامًا فائقًا، أبهجها هي شخصيًّا، لأنه تزامن مع التزام كل السيارات الأخرى. رحمك الله أيها العظيم ورحم أمي الجميلة.
فاطمة ناعوت
جريدة الوطن
13 مارس 2014
أمي، رحمها الله، لم تحترم أبدًا قواعدَ المرور، رغم صرامتها الشديدة معنا، وجديتها الفائقة في الحياة. كانت تسير عكس الاتجاه، وتركن في الممنوع، وتتجاوز السيارات من اليمين، وترجع للخلف على الكباري وغيرها من فظائع. وحين يوقفها ضابطُ مرور لسحب الرخص، تقول له ببراءة: “أنا أم مثالية. ابني وبنتي أوائل الجمهورية، طب وهندسة، والمفروض الدولة تساعدني مش تسحب رخصي وتعطلني عن إتمام رسالتي في تقديم مواطنيْن صالحيْن متفوقيْن لمصر!” وبعد ذهول رجل المرور، يرعوي ويحنّ قلبه، ويكاد يقبل يد أمي، أم الأوئل!
أصرخ فيها قائلة: “ده ابتزاز! انتي بتعايري مصر عشان ولادك شاطرين؟! احنا شاطرين لنفسنا وانتي بتربينا كويس عشان ده دورك وواجبك، وعشان تستمتعي بينا مش عشان خاطر عيون مصر! لازم تحترمي النظام يا ماما، المفروض نكون قدوة!” فترمقني بازدراء كأنني بلهاء وتهمس في ثقة: “النظام في الفوضى، فوضى.”
كانت أمي تؤمن أن "النظام" وسط "الفوضى" هو قمة "الفوضى". وأن الفوضى حين تعمُّ مجتمعًا، تشكّل مع الوقت نظامًا فوضويًّا خاصًا، إن حاولتَ إصلاحَه، بفرض نظام حاسم، أفسدتَ كلَّ شيء. وكانت تدلّل على تلك الفلسفة العجيبة بقانون الرياضيات والنحو الشهير (سالب السالب = موجب) أو (نفي النفي = إثبات). وبالتالي فإن فوضى الفوضى = نظام.
تبنّت أمي هذه المنطق السفسطائي بعد قصة خبراء المرور اليابانيين الذين انتُدبوا لوضع استراتيجية تُصلح حال المرور المتردي في مصر. بعد دراستهم الوضع عن كثب، قالوا ما يلي
“أولا: نردّ إليكم الأتعاب لأننا لم نقدم في مقابلها عملا.
ثانيا: النظام المروري في مصر لا نستطيع أن نضع له مسمًى أو ندرجه ضمن تصنيف بعينه؛ لأننا لم نر شبيها له من بين أنظمة المرور في العالم
ثالثًا: بوسعنا أن نطلق عليه: "الفوضى المنظمة" أو “النظام الفوضوي”. لأن كل سائق يكون على دراية تامة بأخطاء السائق المجاور، ومن ثم يكون جاهزًا برد الفعل المناسب لخطأ زميله، فيتلافاه.
وعليه، فهنا أقل معدلات حوادث طرق في ظلّ تلك الفوضى الهائلة. أما لو فرضنا نظامًا حاسمًا، من الأنظمة الدولية المعتمدة، فسوف تزيد معدلات الحوادث نظرًا لارتباك السائقين وعدم مقدرتهم على تنفيذ النظام بشكل كامل وشامل ودقيق.
كانت أمي تمارس هوايتها في كسر نظام المرور قبل عام 1984، وبعد عام 1986، وفقط. أما بين هذين العامين فكانت شديدة الالتزام.
وأظن القارئ قد خمّن السبب. هي الأعوام الثلاثة التي حمل فيها اللواء العظيم "أحمد رشدي" حقيبة وزارة الداخلية، فكانت مصر "ماشية على المسطرة" بالتعبير الدارج. هشّم هذا اللواء نظرية اليابانيين وأثبت أن تطبيق النظام (بعماء) وحسم على الكبير والصغير، وعدم الانصياع للمحسوبيات و(ثقافة معلش) المتفشية بيننا، بوسعه أن يخلق نظامًا وأسلوب حياة محترمًا. التزمت أمي إثر غرامة فورية ضخمة دفعتها وسحب رخصتيها، بعد ارتكابها مخالفة مرورية. ولم تُفلح استعطافاتها للضابط ولا معايراتها لمصر بأنها أم الأوائل. رد الضابط باقتضاب وحسم: “مش هاينفع، أوامر مشددة.” وسحب الرخصة، والتزمت أمي ثلاثة أعوام كاملة التزامًا فائقًا، أبهجها هي شخصيًّا، لأنه تزامن مع التزام كل السيارات الأخرى. رحمك الله أيها العظيم ورحم أمي الجميلة.
فاطمة ناعوت
جريدة الوطن
13 مارس 2014
التعديل الأخير: