طبيعي أن الذي لا يستطيع الاستغناء عن أكله، يكون من الصعب عليه أن يستغني عن الحياة كلها.
أما النفوس القوية التي تتدرب علي احتمال الجوع والعطش، والتي تستطيع أن تخضع أجسادها وتقهر رغباتها وشهواتها، هذه بتوالي التداريب، وبعدم الاهتمام بالجسد واحتياجاته، يمكنها في وقت الاستشهاد أن تحتمل متاعب السجون وآلام العذاب، وتستطيع بنعمة الله أن تقدم أجسادها للموت.
لهذا كان الصوم مدرسة روحية تدرب فيها الشهداء.
بابا شنودة
=
ان الصوم يصل إلي كماله، في الجوع واحتماله.
فإن كنت لا تجوع، فأنت لم تصل إلي عمق الصوم بعد. وإن أطلت فترة انقطاعك حتى وصلت إلى الجوع، ثم أكلت مباشرة، فأنت إذن لم تحتمل الجوع ولم تمارسه. وبالتالي لم تنل الفوائد الروحية التي يحملها الجوع.
فما هي الفضائل الروحية التي يحملها الجوع؟
الذي يمارس الجوع، يشعر بضعفه عن الغرور والشعور بالقوة والثقة يذل الجسد، فتُذلُّ النفس، وتشعر بحاجتها إلي قوة تسندها، فتلجأ إلى الله بالصلاة وتقول له: أسند يا رب ضعفي بقوتك الإلهية، فأنا بذاتي لا أستطيع شيئًا.
صلاة الإنسان وهو جائع، صلاة أكثر عمقا.
أن الجسد الممتلئ بالطعام، لا تخرج منه صلوات ممتلئة بالروح. ولذلك دائمًا تمتزج الصلاة بالصوم، ويمتزج الصوم و الصلاة. وحينما يريد الناس أن يصلوا في عمق، نراهم يصومون. وهكذا صلوات الناس في أسبوع الآلام لها عمقها، وحتى القراءات كذلك حينما تقال بصوت خافت من الجوع..
إن تسجيل لحن من ألحان البصخة، خلال أسبوع الآلام، يكون له عُمق، لأن الذي سَجَّلهُ كان صائمًا، وله روحيات الصوم.. وتسجيل نفس اللحن في غير أيام الصوم، وصاحبة مُفْطِر، يجعل اللحن يفقد الكثير من عمقه الروحي، وربما يتحول إلي مجرد أنغام وموسيقي. إن الله يحب أن يشعر الإنسان بضعفه، لكيما ينسحق قلبه. والجوع يساعد علي الشعور بالضعف. ولذلك تصلح فيه المطانيات ****noia، ولا تصلح لمن هو ممتلئ بالطعام. نصيحتي لك: أن شعرت بالجوع فلا تأكل. وإنما أحتمل وخذ بركة الجوع.إن السيد المسيح صام أربعين يومًا وجاع أخيرا. ولما نصحه الشيطان أن يأكل رفض أن يأكل علي الرغم من جوعه. وأعطانا بذلك درسًا.. لذلك أحتمل الجوع وأيضا:
إن شعرت بالجوع، لا تهرب منه.
لا تهرب من الشعور بالجوع، عن طريق الانشغال ببعض الأحاديث، أو ببعض المسليات، أو عن طريق النوم، لكي تمضي فترة الجوع دون أن تشعر بها.. فإنك بالهروب من الجوع، إنما تهرب من بركاته ومن فوائده الروحية، وتهرب من التدريب علي فضيلة الاحتمال وفضيلة قهر الجسد.. إننا نريد أن نستفيد من الجوع، وليس أن نهرب منه.
إن ضغط عليك الجوع، قل إنك لا تستحق الأكل.
قل لنفسك: أنا لا أستحق آكل بسبب خطاياي. وهكذا تنسحق نفسك من الداخل، في الوقت الذي يسحقها فيه أيضًا تعب الجسد. وهكذا تتخلي عنك الكبرياء والخيلاء والعجب بالذات. وإن يصلي. أما الشبعان كثيرًا ما ينسي الصلاة ولذلك غالبية المتدينين يصلون قبل الأكل. وقليلون هم الذين يصلون بعد الانتهاء من الأكل أيضًا، إلا في الرسميات..
تدريب الجوع في الصوم، ينبغي أن يكون بحكمة.
حقًا إن الذين شعروا بالفائدة الروحية التي تأتي من الجوع، كانوا يطيلون مدته.. علي إني لا أقصد بهذا التدريب المبالغة فيه، بحيث يصل الصائم إلي وضع لا يستطيع أن يقف فيه علي قدميه للصلاة من شدة الإعياء. وقد يفضل أن يصلي وهو ساجد، ليس عن خشوع وإنما طلبًا للراحة واسترخاء الجسد في تعب إنما يجب السلوك في هذا التدريب بحكمة، في حدود احتمال الجسد. ومع ذلك أقول لك كلمة صريحة وهي:
لا تخف من الجوع، فهو لا يستمر معك.
فالمعدة كلما تعطيها أزيد من احتياجها تتسع لتحتمل ما هو أكثر.. ويزداد اتساعها في حالة الترهل، مع ضعف جدران المعدة. وإن لم تعطها ما يصل بها إلي الامتلاء تشعر بالجوع، فإن صبرت علي الجوع ولم تعط المعدة ما يملؤها، تبدأ في أن تكيف نفسها وتنكمش. وبتوالي التدريب لا تعود تتسع لكثير.. ولا يستمر الجوع، فالقليل يشعرها بالشبع. والإنسان الحكيم هو الذي يضبط نفسه، ويحفظ نظام معدته، فهو لا يكثر من تناول الطعام حتى تترهل معدته، ولا يبالغ في منع الطعام عنها بحيث تنكمش إلي وضع أقل من احتياج جسده.
فالاعتدال في هذا الأمر نافع وفيه حكمة.
بابا شنودة
=
=