تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
33- قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ.
‏بهذه الآية يكون قد انتهى حديث المسيح الأخير، وانتهى تعليم المسيح في إنجيل يوحنا.
‏هنا يستدرك المسيح ما قاله التلاميذ، وما أجاب به عليهم، كونهم سيتركونه وحده، ويتفرقرن كل واحد إلى خاصته, أي بيته وأهله ومهنته! ثم يكشف المسيح عما كان يقصده من كلامه هذا: «ليكون لكم فّي سلام»، وذلك حينما يتم بالفعل ما تنبأ به المسيح عن هروبهم وتركه وحده، فيتذكرون ما قاله، وحينئذ يستردون إيمانهم وثقتهم بالمسيح. لأن وديعة المسيح التي تركها لهم، وان غابت بعض الوقت عن أعينهم «سلاماً أترك لكم» (يو27:14)، فهي قائمة وثابتة فيهم لن تغادرهم.
‏والذي يهمنا جداً في هذه الآية قول المسيح: «ليكون لكم في سلام»، فهو لم يقل: «ليكون لكم سلام»، بل «ليكون لكم في سلام»، فحينما نُهزم أمام التجربة، كما انهزم التلاميذ في محنة الصليب، وحينما نفقد السلام الذي فينا، فإنه يتبقى لنا «سلام في المسيح»، فلام المسيح هو القوة المدخرة لنا, حينما تنتهي قوتنا. يكفي أن نلقي همنا عليه (ابط7:5)، لنجد فيه سلامنا المفقود: «لأنه هو سلامنا.» (أف14:2‏)
‏أنظر كيف تحول انهزام التلاميذ إلى نصرة، وشكهم إلى يقين، وحزنهم إلى فرح إنجيلي ملأ المسكونة كلها. إن خبرة التلاميذ في هذا التحول القوي والغالب، سلموها للكنيسة. الكنيسة بعد ذلك عبرت مثل هذه المحنة, ومحن بلا عدد أقوى من محنة التلاميذ، وغلبت، وها هي غالبة وستغلب؛ والسر هو سلام المسيح الذي تركه لها ميراثاً ثابتاً دائماً لها: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.» (مت18:16)
‏وليلاحظ القارىء المقارنة التي وضعها المسيح بين سلامه وبين ضيق العالم: « ليكون لكم في سلام. في العالم سيكون لكم ضيق» . المسيح يضع نفسه مباشرة في المقابل المقابل للعالم. هذه هي الحقيقة بغير مواربة, فالذين للمسيح تماماً يضطهدهم العالم حتماً. ولكن السلام الحقيقي في المسيح يوازن الضيق في العالم, مهما تعال ويزيد. بمعنى أن الذين في المسيح هم فوق العالم دائماً. لذلك أكمل المسيح المعادلة المنتصرة بقوله: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم». فالذين هم في المسيح ولهم سلام «في» المسيح، قد غلبوا العالم. هذه المعادلة لخصها القديس يوحنا بقوله في رسالته الاولى: «وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم, إيماننا.» (ايو4:5)
‏والآن يلزمنا أن ندخل قليلاً في اختبار الإيمان والسلام في المسيح، لندرك حقيقة غلبة العالم، لأن هذا بالحقيقة هو الميراث المسيحي العملي، الذي استلمناه من الإنجيل ومن القديين الأوائل والشهداء والأتقياء, الذين اختبروا المسيح وعاشوه, وغلبوا العالم وعبروا: فالإيمان العملي بالمسيح هو الثقة الكاملة والمطلقة بكل الكلام الذي قاله. فكل آية أعطاها لنا، هي كنز مغلق, سُلم لنا لكي نغتني بما تحويه الآية من مواعيد صادقة وأمينة. كل وصية للمسيح، تحمل وعداً منه بالتنفيذ، فإذا آمنا حقاً بكلام المسيح وتمسكنا به بقلب واحد غير منقسم, يكون لنا فيه كل الوعد تماماً كما وعد.
‏فقوله هنا: «ليكون لكم فىّ سلام» معناه أنه يتحتم أن يكون لكم «فيّ سلام»، إن كنتم تؤمنون، فهل تؤمن أيها القارىء العزيز؟ المسيح يعرض سلامه مجاناً، ومقابل ضيقات العالم. ولكن يلزم أن نرث منه هذا السلام, الآن مسبقاً, حتى إذا جاءت الضيقات انبرى سلام المسيح في قلوبنا ليخفض من كبرياء التجربة، مهما كانت عنيفة، ويخفضها ثم يخفضها حتى يضعها تحت رجليك. هذه هي غلبة العالم، وهذا هو إيماننا الذي نغلب به العالم.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
‏ملخص أحاديث الفراق

‏والأن، ونحن داخلون إلى صلاة المسيح الأخيرة، ينبغي أن نلقي نظرة إلى مجمل أحاديث الفراق، لأنها تعتبر المدخل الوحيد لفهم صلاة المسيح الأخيرة، لأن العلاقة بين أحاديث المسيح السابقة على هذه الصلاة والصلاة نفسها, وثيقة للغاية.
‏لقد رأينا أن الأحاديث الأخيرة تدور حول محور واحد أو غاية واحدة, أن «نتحد بالمسيح» بمعنى الإيمان الفعلي بالمسيح المصلوب والقائم من الموت، إيماناً نمارسه بحياتنا. فالاتحاد بالمسيح المصلوب نمارسه بعبورنا نفس الضيقات والاضطهاد والألم والرفض والصلب، إذا تحتم؛ بشجاعة المسيح وصبره. واتحادنا بالمسيح القائم من الموت؟؛ نمارسه في آلامنا وضيقاتنا واضطهاداتنا وفي الرفض وتهديد الموت؛ بالفرح والتهليل والسلام الداخلي، كمن جازوا الموت بالقيامة الأكيدة، ولكن غلبوا العالم بكلمة شهادتهم.
‏ولكن هذا المحور الدوار، أو الهدف الواحد، الذي يتغلغل كل حديث قاله المسيح وكل تصوير صوره، يمكن تحديد مفرداته كالآتي:
1- الحديث بدأ بغسل الأجل، وقد جعل المسيح مفهوم هذه العملية محددا في قوله لبطرس: «إن كنت لا أغلسك، فليس لك معي نصيب» (يو8:13). إذن, فغسل الأرجل يدخل في عمل المسيح الكرازي، أي نفس إرساليته. الغسيل هو تكريس أرجل تلاميذه، لإرسالية الكرازة بإنجيل الخلاص، إنجيل الموت والقيامة! فبكرازة التلاميذ بالإنجيل، دخلوا في نصيب المسيح على الأرض بالصليب، وفي السماء بالمجد المدخر لهم عند الآب، وفي الكنيسة نالوا كرامة مع المسيح. هذا عقب المسيح على غسل الأرجل بقوله: «الذي يقبل من ارسله, يقبلني، والذي يقبلني, يقبل الذي أرسلني.» (يو20:13)
2- وحدة التلاميذ معاً، هي الرباط الذي يربطهم، فلا يؤثر فيهم الفراق, كتلاميذ للرب أمام العالم. لذلك، فالوصية الجديدة لمواجهة العالم هي المحبة، محبة بعضهم البعض (34:13‏). ولكن محبة على مستوى وطبيعة محبة المسيح لهم، أي أن يكونوا دائمأ على استعداد البذل حتى الموت، بعضهم للبعض ومن أجل الكنيسة. والصورة المصغرة، هي أن يغسلوا أرجل بعضهم البعض، لتبقى وحدة الرسولية والكرازة، وتبقى رسالة المسيح.
3- محبة المسيح لتلاميذه، تحققت بعودة المسيح إليهم (1:14-9)، فتأكدت وحدته معهم. فبعد أن ماتت حبة الحنطة وحدها، قامت, فجاء زمن الثمر الكثير الذي مثله المسيح بالكرمة والأغصان، الذي هو أبهى وأعظم تصوير للوحدة بين المسيح والكنيسة. فالثمر لا يأتي إلآ عن طريق «الوحدة» معاً، وبالمسيح (1:15-9).
4- فالثمر الذي تُنشئه وحدة التلاميذ، معاً وبالمسيح, هو في الحقيقة وفي الأصل فعل لمحبة الآب التي اُستعلنت في المسيح، وهو نفسه (أي الثمر الكثير) يعتبر رداً مباشراً على محبة الآب. «بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير, فتكونون تلاميذي» (يو8:15). فالثمر، الذي هو خدمة اسم الآب والمسيح في العالم لتكميل رسالة الخلاص، هو الرد الصحيح والمباشر على محبة الآب لنا التي استعلنت في المسيح, هو(أي الثمر) في الحقيقة وبالنهاية عمل الوحدة التي تمت في المسيح.
5- حتى الاضطهاد الذي سيجوزه التلاميذ في العالم، هو ثمرة الوحدة مع المسيح، وحدة عضوية كذات في ذات. نسمعها قوية من فم المسيح نفسه، وهو في السماء: «شاول شاول لماذا تضطهدني؟» (أع4:9‏)؟ وكأن المسيح يتألم بتألم أعضاء جسده على الأرض. هذا الاتحاد العجيب والسري الذي كشفه المسيح في قصة شاول، هو أعمق تعبير عن «وحدة» حقيقية قائمة بين المسيح والتلاميذه أي الكنيسة. «إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم ... إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي.» (يو20:15-21)
6- وحتى إرساله الروح القدس, كان ويكون لتعميق الوحدة واستعلان أسبابها وموجباتها، والحفاظ عليها بين المؤمنين والمسيح والآب.
7- والمحبة التي تكلم عنها المسيح في كل أحاديث الفراق، ليست محبة كلام ووعود، بل محبة فعل وعطاء واتحاد سري، له نتائجه الفورية: «لا أعود أسميكم عبيداً, لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكنى قد سميتكم أحباء, لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي.». (يو15:15). ولكي يثبت قوله، بل فعله هذا، كشف عن سر موته أنه موت بداعي الحب لفداء مُحبيه؛ لكي بموته لأجلهم، يفديهم من الموت ويعطيهم حياته (13:15‏). هذه هي «محبة الاتحاد». فأن يموت المحب لأجل أحبائه ليحييهم معه إلى الأبد، فهذا أقوى «فعل لاتحاد المحبة» عرفه الإنسان ملى الأرض، «ليس لأحد حب أعظم من هذا» (يو13:15‏)، «أحبني، وأسلم نفسه لأجلي.» (غل20:2)
8- وأوضح مظاهر «محبة الاتحاد» أو«الاتحاد بالمحبة» في أحاديث الفراق، هي ذات هذه الأحاديث عينها، كونها جرت بين «حبيب ومن أحبهم». فهي تنطق بكيف يكون الاتحاد بين المسيح والإنسان!! وعلى من جرت هذه الأحاديث؟ أليس عن حب الآب ومعرفته ورؤيته والحياة الأبدية عنده والذهاب إليه؟ وهل يكون حديث الاتحاد وممارسته أكثر من هذا؟
9- والواضح أن كل العلاقة التي تربط المسيح بتلاميذه وأتباعه ومحبيه، جرت على أساس ما هو حادث بينه, أي بين المسيح, والآب، ليس كنموذج وحسب بل كمصدر فعال ومثيل, يحتذي به المثيل وينهل منه. فإن كان المسيح قد قصد الوحدة بينه وبين محبيه قصدا، ونفذ بالفعل السري ذلك تنفيذاً، حين فرق جسده عليهم وأسقاهم كأس دمه، فالأمر كان في حاجة أشد الحاجة لإعطائهم صورة مسموعة للوحدة «الأصل» والمثيل الإلهي القائم بين الآب والابن. فكانت صلاة (يوحنا أصحاح 17).
ثم ما هى صلاة يوحنا 17؟
+ هي الإخلاء الكلي بالروح، في ذبيحة حب، مطعمة بالطاعة القصوى، قبل الإخلاء التاريخي على الصليب!!
• «أيهأ الآب، قد أتت الساعة، مجد ابنك»!
• «العمل الذي أعطيتي لأعمل، قد أكملته»!
+ هي صعود حقيقي بالروح إلى الآب، ومعه قلوب وأرواح محبيه، قبل الصعود الجسدي المنظور بالعين.
• «لست أنا بعد في العالم، وأما هؤلاء فهم في العالم، وأنا آتي إليك».
• «أيها الآب، أريد أن هؤلاء يكونون معي، حيث أكون أنا».
+ هي عمل تقديس فوري يتم بعد كل كلمة، كما ينطقها تكون، لأن الآب يسمع له في كل حين، ويستجيب في الحال!
• «قدسهم في حقك».
• «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق».
‏+ هي ممارسة اتحاد فائق بالروح مع الآب، والتلاميذ داخلون بالسر في دائرة الاتحاد غير المنظور.
• «كما أنك أنت، أيها الآب، في وأنا فيك»
• «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا».
+ هي سكيب روحي للحب الأبوي، انسكب فيهم, إيذاناً بسكنى المسيح!
• «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به».
• «وأكون أنا فيهم».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
‏ملخص أحاديث الفراق

‏والأن، ونحن داخلون إلى صلاة المسيح الأخيرة، ينبغي أن نلقي نظرة إلى مجمل أحاديث الفراق، لأنها تعتبر المدخل الوحيد لفهم صلاة المسيح الأخيرة، لأن العلاقة بين أحاديث المسيح السابقة على هذه الصلاة والصلاة نفسها, وثيقة للغاية.
‏لقد رأينا أن الأحاديث الأخيرة تدور حول محور واحد أو غاية واحدة, أن «نتحد بالمسيح» بمعنى الإيمان الفعلي بالمسيح المصلوب والقائم من الموت، إيماناً نمارسه بحياتنا. فالاتحاد بالمسيح المصلوب نمارسه بعبورنا نفس الضيقات والاضطهاد والألم والرفض والصلب، إذا تحتم؛ بشجاعة المسيح وصبره. واتحادنا بالمسيح القائم من الموت؟؛ نمارسه في آلامنا وضيقاتنا واضطهاداتنا وفي الرفض وتهديد الموت؛ بالفرح والتهليل والسلام الداخلي، كمن جازوا الموت بالقيامة الأكيدة، ولكن غلبوا العالم بكلمة شهادتهم.
‏ولكن هذا المحور الدوار، أو الهدف الواحد، الذي يتغلغل كل حديث قاله المسيح وكل تصوير صوره، يمكن تحديد مفرداته كالآتي:
1- الحديث بدأ بغسل الأجل، وقد جعل المسيح مفهوم هذه العملية محددا في قوله لبطرس: «إن كنت لا أغلسك، فليس لك معي نصيب» (يو8:13). إذن, فغسل الأرجل يدخل في عمل المسيح الكرازي، أي نفس إرساليته. الغسيل هو تكريس أرجل تلاميذه، لإرسالية الكرازة بإنجيل الخلاص، إنجيل الموت والقيامة! فبكرازة التلاميذ بالإنجيل، دخلوا في نصيب المسيح على الأرض بالصليب، وفي السماء بالمجد المدخر لهم عند الآب، وفي الكنيسة نالوا كرامة مع المسيح. هذا عقب المسيح على غسل الأرجل بقوله: «الذي يقبل من ارسله, يقبلني، والذي يقبلني, يقبل الذي أرسلني.» (يو20:13)
2- وحدة التلاميذ معاً، هي الرباط الذي يربطهم، فلا يؤثر فيهم الفراق, كتلاميذ للرب أمام العالم. لذلك، فالوصية الجديدة لمواجهة العالم هي المحبة، محبة بعضهم البعض (34:13‏). ولكن محبة على مستوى وطبيعة محبة المسيح لهم، أي أن يكونوا دائمأ على استعداد البذل حتى الموت، بعضهم للبعض ومن أجل الكنيسة. والصورة المصغرة، هي أن يغسلوا أرجل بعضهم البعض، لتبقى وحدة الرسولية والكرازة، وتبقى رسالة المسيح.
3- محبة المسيح لتلاميذه، تحققت بعودة المسيح إليهم (1:14-9)، فتأكدت وحدته معهم. فبعد أن ماتت حبة الحنطة وحدها، قامت, فجاء زمن الثمر الكثير الذي مثله المسيح بالكرمة والأغصان، الذي هو أبهى وأعظم تصوير للوحدة بين المسيح والكنيسة. فالثمر لا يأتي إلآ عن طريق «الوحدة» معاً، وبالمسيح (1:15-9).
4- فالثمر الذي تُنشئه وحدة التلاميذ، معاً وبالمسيح, هو في الحقيقة وفي الأصل فعل لمحبة الآب التي اُستعلنت في المسيح، وهو نفسه (أي الثمر الكثير) يعتبر رداً مباشراً على محبة الآب. «بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير, فتكونون تلاميذي» (يو8:15). فالثمر، الذي هو خدمة اسم الآب والمسيح في العالم لتكميل رسالة الخلاص، هو الرد الصحيح والمباشر على محبة الآب لنا التي استعلنت في المسيح, هو(أي الثمر) في الحقيقة وبالنهاية عمل الوحدة التي تمت في المسيح.
5- حتى الاضطهاد الذي سيجوزه التلاميذ في العالم، هو ثمرة الوحدة مع المسيح، وحدة عضوية كذات في ذات. نسمعها قوية من فم المسيح نفسه، وهو في السماء: «شاول شاول لماذا تضطهدني؟» (أع4:9‏)؟ وكأن المسيح يتألم بتألم أعضاء جسده على الأرض. هذا الاتحاد العجيب والسري الذي كشفه المسيح في قصة شاول، هو أعمق تعبير عن «وحدة» حقيقية قائمة بين المسيح والتلاميذه أي الكنيسة. «إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم ... إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي.» (يو20:15-21)
6- وحتى إرساله الروح القدس, كان ويكون لتعميق الوحدة واستعلان أسبابها وموجباتها، والحفاظ عليها بين المؤمنين والمسيح والآب.
7- والمحبة التي تكلم عنها المسيح في كل أحاديث الفراق، ليست محبة كلام ووعود، بل محبة فعل وعطاء واتحاد سري، له نتائجه الفورية: «لا أعود أسميكم عبيداً, لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكنى قد سميتكم أحباء, لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي.». (يو15:15). ولكي يثبت قوله، بل فعله هذا، كشف عن سر موته أنه موت بداعي الحب لفداء مُحبيه؛ لكي بموته لأجلهم، يفديهم من الموت ويعطيهم حياته (13:15‏). هذه هي «محبة الاتحاد». فأن يموت المحب لأجل أحبائه ليحييهم معه إلى الأبد، فهذا أقوى «فعل لاتحاد المحبة» عرفه الإنسان ملى الأرض، «ليس لأحد حب أعظم من هذا» (يو13:15‏)، «أحبني، وأسلم نفسه لأجلي.» (غل20:2)
8- وأوضح مظاهر «محبة الاتحاد» أو«الاتحاد بالمحبة» في أحاديث الفراق، هي ذات هذه الأحاديث عينها، كونها جرت بين «حبيب ومن أحبهم». فهي تنطق بكيف يكون الاتحاد بين المسيح والإنسان!! وعلى من جرت هذه الأحاديث؟ أليس عن حب الآب ومعرفته ورؤيته والحياة الأبدية عنده والذهاب إليه؟ وهل يكون حديث الاتحاد وممارسته أكثر من هذا؟
9- والواضح أن كل العلاقة التي تربط المسيح بتلاميذه وأتباعه ومحبيه، جرت على أساس ما هو حادث بينه, أي بين المسيح, والآب، ليس كنموذج وحسب بل كمصدر فعال ومثيل, يحتذي به المثيل وينهل منه. فإن كان المسيح قد قصد الوحدة بينه وبين محبيه قصدا، ونفذ بالفعل السري ذلك تنفيذاً، حين فرق جسده عليهم وأسقاهم كأس دمه، فالأمر كان في حاجة أشد الحاجة لإعطائهم صورة مسموعة للوحدة «الأصل» والمثيل الإلهي القائم بين الآب والابن. فكانت صلاة (يوحنا أصحاح 17).
ثم ما هى صلاة يوحنا 17؟
+ هي الإخلاء الكلي بالروح، في ذبيحة حب، مطعمة بالطاعة القصوى، قبل الإخلاء التاريخي على الصليب!!
• «أيهأ الآب، قد أتت الساعة، مجد ابنك»!
• «العمل الذي أعطيتي لأعمل، قد أكملته»!
+ هي صعود حقيقي بالروح إلى الآب، ومعه قلوب وأرواح محبيه، قبل الصعود الجسدي المنظور بالعين.
• «لست أنا بعد في العالم، وأما هؤلاء فهم في العالم، وأنا آتي إليك».
• «أيها الآب، أريد أن هؤلاء يكونون معي، حيث أكون أنا».
+ هي عمل تقديس فوري يتم بعد كل كلمة، كما ينطقها تكون، لأن الآب يسمع له في كل حين، ويستجيب في الحال!
• «قدسهم في حقك».
• «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق».
‏+ هي ممارسة اتحاد فائق بالروح مع الآب، والتلاميذ داخلون بالسر في دائرة الاتحاد غير المنظور.
• «كما أنك أنت، أيها الآب، في وأنا فيك»
• «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا».
+ هي سكيب روحي للحب الأبوي، انسكب فيهم, إيذاناً بسكنى المسيح!
• «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به».
• «وأكون أنا فيهم».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الأصحاح السابع عشر

تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآب قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً. إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأبدية: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المسيح الَّذِي أَرْسَلْتَهُ. أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأرض. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآب عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ. «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي وَقَدْ حَفِظُوا كلاَمَكَ. والآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ. لأَنَّ الْكلاَمَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ. وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ. وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآب الْقُدُّوسُ احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ. حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ. أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ. لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ. كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ. وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ. «وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاَءِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلاَمِهِمْ. لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآب فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي. أَيُّهَا الآب أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ. أَيُّهَا الآب الْبَارُّ إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ وَهَؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ»
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
صلاة المسيح للآب

[وبعد ما أعطى تلاميذه كل التعاليم فيما يختص بالخلاص، وأكمل معرفتهم وهيأهم لمواجهة التجارب، نقل الحديث إلى صلاة.] القديس كيرلس الكبير
‏مقدمة
‏مقارنة بين صلاة المسيح الأخيرة فى إنجيل القديس يوحنا والثلاثة ألأناجيل الأخرى:
+ صلاة يوحنا 17 المدموغة بالمجد والتجلي وغلبة العالم، والتي فيها يستعلن المسيح لاهوته على مستوى الوحدة غير المنفصلة مع الآب, يقابلها في الثلاثة الأناجيل الأخرى، وفي نفس المكان، صلاة جثسيماني بأحزانها ودموعها وسجودها وعرقها المتصبب كالدم, مع طلب إعفاء من شرب هذه الكأس، لوأمكن! فهل من تفسير؟
‏نعم، فهذ مضادة، مثل كل المتضاد‏ات في حياة المسيح التي نشأت من كون أن: «الكلمة صار جسداً» بلغة إنجيل يوحنا (14:1)، أما بلغة القديس بولس فهي: «الله ظهر في الجسد» (اتى 16:3‏). لذلك يلزم أن لا نقرب المقارنة بين هاتين الصلاتين، إلا على أساس الرؤية المتكاملة لشخص المسيح، باعتبار «الاله المتجسد». لأننا بهذا نرى في الصلاتين معاً منتهى حقيقة المسيح الإلهية والبشرية معاً، في ضوء الإخلاء الذي أُكمل بالمجد، واتضاع العبد الذي ارتفع إلى أن استوى على العرش في ملكه الأزلى مع الآب، لتسجد له كل ركبة ما في السماء وعلى الأرض.
‏+ لذلك ينبغي غاية الانتباه أن نفرق بين رؤية المسيح لنفسه التي يتحرك بها ويتصرف ويعلن ما يراه صالحأ للاعلان, ويحبس ما لا يلزم أن نعرفه قبل الآوان، وبين ما نراه نحن بعجز إدراكنا الذي لا يرقى أبداً إلى حقيقة ذالله, فأحياناً نراه إنساناً فيما لا ينبغي أن يكون، ثم نراه إلهأ فنستكثر عليه ما للانسان: فمثلاً, نستكثر جداً في أنفسنا ما يقوله سفر العبرانيين أنه: «قدم بصراخ شديد ودموع, طلبات وتضرعات للقادر ان يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه« (عب7:5). في حين أن هذا هو عمله الأعظم الذي من أجله نزل من السماء؛ لكي يحمل من أجل الإنسان هذا الخزي عينه، وهذا الضعف المشين بكل ما يعنيه وينطوي عليه، من رهبة الموت ورعبته، ومن الجزع من مواجهة فراغ القبر وعدميته؛ لكي يقوم بالإنسان, هذا الذي حمله في نفسه, منتصراً غالباً ودائساً الموت تحت رجليه؛ لكي لا يسود عليه الموت بعد، وكأنه صار إلى العدم، بل لكي يلاشي هذا الموت وجبروته, فيتحول موت الإنسان إلى مجرد انتقال إلى حياة أفضل, أي سماوياً. فالصراخ والدموع والرعبة والجزع، حولها له جميعاً إلى هتاف النصرة وسلطان الغلبة، بل واستحقاق مجد!
+ فصلاة المسيح في يو 17 هي وقفة للمسيح لمراجعة رسالته، في شموخ لاهوته كما جاءت في إنجيل يوحنا. أما صلاة جثسيماني بانبطاح المسيح على الأرض, كما جاءت في الأناجيل الثلاثة, فهي قمة ذلة الإنسان التي تبناها المسيح عن الإنسان, كمدخل لائق للصليب. فهذه وتلك هي المضادة التي نشأت أصلاً من «تجسد الكلمة», والتي فيها وبها دُعي الإنسان من سكنى القبر إلى سكنى السماء.
+ لقد جاءت لتعبر عن أعلى مستوى لشركة الابن مع الآب، وأجلى صورة لابن الإنسان المستعلن كابن الله، مسيا الدهور، حامل الاسم العظم: «أنا هو», «وكان الكلمة الله» (يو1:1)، «أنا هو نور العالم» (يو12:8)، «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11)، «أنا والآب واحد» (يو30:10‏)، «الذي رآني، فقد رأى الآب.» (يو9:14)
+ وصلاة جثسيماني كما جاءت في إنجيل مرقس 32:14‏، بدموعها وتضرعاللها، جاءت لتستعلن تنازل الابن، كيف أخلى ذالله وأخذ شكل العبد! وكيف «أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس» (غل4:4‏)، وكيف «أرسل ابنه في شبه جسد الخطة، ولأجل الحظية، دان الخطية في الجسد» (رو3:8‏)، وكيف «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت, موت الصليب» (في7:2-8). وكيف وُضع قليلاً عن الملائكة «من أجل ألم الموت، لكى يذوق، بنعمة الله، الموت لأجل كل واحد, لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل, وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, أن يُكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب9:2-10)، وكيف أن «الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات، للقادر أن يخلصه من الموت, وسُمع له من أجل تقواه؛ مع كونه ابناً، تعلم الطاعة مما تألم به» (عب7:0-8)، وكيف «من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب، مستهينا بالخزي» (عب2:12)، «فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه، لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم.» (عب3:12)
+ القديس يوحنا، وان قدم لنا صلاة المسيح في (يو17) رافعاً المسيح إلى قمة الاستعلان الإلهي, لم يفته أيضاً أن يسجل بعضا مما سجلته الأناجيل الأخرى والرسائل من مظاهر اتضاعه وضعفه البشري. ففي يو 27:12 سجل له: «الآن نفسي قد اضطربت, وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة، ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة». كذلك، وفي موجة الحزن الأليم الذي اجتاح النسوة وهن تبكين على لعازر، انتبه المسيح وهو في مواجهة سلطان الموت، وفي الحال تراءت أمامه ساعته القادمة تحمل نفس المنظر والمشاعر، فاضطرب أيضاً و«بكى يسوع.» (35:11)
+ فإن كان في صلالله في (يو17) قد رفع عينيه نحو الآب، لكن لم يغب عن عينيه أيضاً صورة الصليب بمروعالله القادمة، وظلمة القبر البارد، ولكن كانت القيامة حاضرة فيه أيضاً والمجد المسترد! هذه كلها كانت داخلة حتماً في اعتباره وهو يصلي، ولكن كان قد جمعها كلها في رؤية واحدة وكأنها قد تمت!! ألم ينتبه من كسر جسده وسفك دمه مسبقاً على العشاء؟
+ بل إن خلفية هذه الصلاة في (يو17) التي أعطتها هذه القوة والشموخ والرزانة والجلاء البصري المنقطع النظير، مع السلام الذي يفوق العقل بالرغم من ظل الصليب المنعكس على نفسه بكل ثقله. هذه الخلفية كانت قائمة على أساس أنه قد انتهى مع نفسه وتخطى الألم الكثير الذي ينتظره . فعندها رفع عينيه إلى السماء، كان يتطلع إلى رحلة المجد القادمة، بعد أن استوفى في ضميره الرضى برحلة المذلة وكل مقاومة منتظرة: «ثقوا, أنا قد غلبت العالم».
+ لقد حبس أنين الألم القادم في صدره؛ ورعبة مواجهة الموت ومن له سلطان الموت ألقاها خلف ظهره إلى حين؛ والدموع التي هطلت في شهد الباكين على لعازر الحت عليه، فالمشهد واحد، فجفت في عينيه حينما تطع إلى الآب. وشعور الرغبة في الإعفاء من الكأس وساعة الظلمة كانت على شفتيه، ولكنه أجلها إلى ما بعد أن ينتهي من تقديم حساب الوكالة، وتسجيل وصيته الأخيرة من نحو تلاميذه والكنيسة القادمة من وراء الدهور.
+ فلما استوثق من سماع الآب له، كما أنه هو في كل حين يسمع للآب، انطلق مح تلاميذه صوب جثسيماني صامتاً؟
+ ليبكي هناك مع كل الذين بكوا موتاهم، ليستوفي أحزان بني الإنسان؛
+ وسجد وأمعن في السجود للآب، ليقدم آخر تعبيرات الخضوع والطاعة وواجبات التوبة عن كل جهالات الإنسان؛
+ وتصبب العرق كالدم من جبين آدم الثاني, استيفاء للعنة «عرق الجبين» التي اكتسبها آدم الأول، لما عصى الله وخرج من لدنه ملوماً محسوراً (تك13:9)؛
+ وتحت ظلال أشجار جثسيماني أخذت نفسه تحزن وتكتئب حزناً حتى الموت، ليتقيأ الشهوة التي استقرت في أحشاء أبوينا الأولين، التي ورثاها لكل من اتوا بعدهما، حينما أكلا من الشجرة وأتيا الحرام.
+ في هذه الليلة الخالدة (يو17)، أكمل المسيح في صلالله مح الآب منتهى استعلان لاهوته. وفي جثسيماني (مر32:14)، استعلن المسيح بدموعه وسجوده وعرقه المتصبب كالدم ملء تجسده...
+ ولم يجد صعوبة أن ينتقل من الاولى إلى الثانية, أليس هو الذي انتقل من حضن الآب بملء مسرته, ليحتضن الإنسان؛ تاركا مجد السماء، ليعيش على أرض الأحزان؛
+ وقف المسيح في صلالله (يو17) مرفوع الرأس باعتباره «الكاهن الأعظم»، يستعد ويستبرىء ذمته أمام الآب ليكون أهلاً لتقديم ذبيحته, ليس عن نفسه، فهو لم يوجد فيه خطية ولا في فمه غش، ولكن من أجل العالم كله بمفهومه الإنساني البائس، على مستوى كل فرد على حدة!
+ أما في صلالله في جثسيماني (مر32:14)، فكان هو الذبيحة والخروف نفسه! يُساق إلى الذبح, منحنياً, ساجداً حتى الأرض، باكياً، صارخاً، يستنزف شحنة عواطفه حتى يحتفظ بهدرئه وصمته لدى حاكميه وصالبيه! لقد صلب المسيح ذالله قبل أن يصلبه العالم، واستدعى كل آلام الموت، ليجوزها بإرادته قبل أن تأتي عليه، فأكمل النبوة بيديه، قبل أن يكملها فيه الشامتون: «أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصاباً مضروبأ من الله ومذلولاً» (إش4:53)
‏الجلال الذي أحاط بصلاة المسيح في (يو17): منذ أول آية في الأصحاح السابع عشر، بدأ الجو الذي يحيط بالتلاميذ والمسيح يدخل في هدوء مفاجىء, كهدوء السماء، مع رهبة وهيبة وجلال!، يحسها القارىء إن كان حقاً على مستوى إنجيل يوحنا ...
‏والانطباع الشديد الذي يلقي بظله على فكر القارىء، أننا أمام مواجهة حقيقية بين الآب والآب؛ إنه حديث السماء، حديث الله مع نفسه، فيما يخص مستقبل الإنسان...
‏نحن لا نعلم بالضبط أين صلى المسيح صلاته هذه:
‏هل في العلية؟ لقد سبق أن قال: «قوموا ننطلق من ههنا» (يو31:14)؛
هل في الطريق؟ وهل يمكن أن تقوم صلاة مثل هذه بين الغادي والرائح؟
‏هل في جثسيماني؟ ربما! لكن يقول العالم ومتكوت ومعه آخرون، إن الظن الغالب الذي يوحي به روح الكلام، أن هذه الصلاة قُدمت إلى الآب في الهيكل. ويرجح ذلك، خبر سجله المؤرخ اليهودي يوسيفوس أنه كان من عادة رؤساء الكهنة أن يفتحوا أبواب الهيكل في منتصف الليل للشعب, وخاصة الحجاج، لحضور صلاة الفصح. فهل عرج المسيح على الهيكل مع تلاميذه، لكي يتخاطب رسميأ مع الآب, ويضع أساس كنيسة الدهور القادمة؟ ربما.
‏ومما يرجح ظننا هذا, أي احتمال حدوث صلاة المسيح في الهيكل, ما جاء في بداية الأصحاح الثامن عشر، حيث يقول معقباً على الصلاة مباشرة: «قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه» (يو1:18). والمعروف أن وادي قدرون يفصل الهيكل عن جبل الزيتون، حيث البستان المدعو «جثسيماني». وهكذا ينحصر المعنى أن «خروج»» المسيح هو وتلاميذه كان من الهيكل بعد الصلاة.
على كل حال، كان هدوء ذلك الليل في هذا المسيحاد، وهذه المناسبة، في هذا المكان، يزيد الشعور بخطورة الموقف.
‏كل هذا جعل من هذه الصلاة نقطة تحول عظمى في تاريخ، لا الجماعة الاولى وحدها، بل والكنيسة على مدى الدهور والعالم كله! لقه كانت البدء الحقيقي لاستعلان العلاقة الإلهية التي بدأت تربط الله بالإنسان، والدعوة العليا التي تلقاما الإنسان من خلال هذه الصلاة، ليدخل في وحدة مع الله وشركة. ويكفي برهاناً على ذلك وتوثيقا، أن تسجيل هذه الصلاة العلنية هكذا في الإنجيل أعطت الفرصة لكل إنسان أن يسمع هذا الحديث، ويفهمه، ويحتفظ به لنفسه، ويأخذه كوثيقة لحسابه إن يشاء!!
‏والمسيح حينما بدأ صلاته، بدأ وكأنه في حالة تجلي, معطيا للعالم ظهره، ليبدأ رحلته السرية الظافرة نحو الآب. وكان المسيح يصلي بتركيز شديد, موجهاً كل مشاعره نحو الآب، ولكن كان التلاميذ حاضرين في صلاته وكأنه يستعلن لهم أقصى ما يمكن من أسرار حياته الخاصة وتعاليمه ومشاعره‏، كاشفاً لهم ومن أجلهم صلته السرية بالآب، وكنا نحن أيضأ حاضرين بصفتنا كل الذين يؤمنون بكلامه، ولا زلنا حاضرين نسمع صوت الابن يصلي من أجل الكنيسة، وكل الذين يؤمنون به وبكلامه.
‏وصارت صلاة المسيح هذه ‏كنز إلهامات للكنيسة على مدى الدهور، تستمد منها دستور إيمانها, ومفردات تعليمها، وضوابط سلوكها, ومنتهى رجائها!
‏أما قلب هذه الصلاة النابض، فهو قول المسيح: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17). بمعنى أن المسيح ارتضى وتعين منذ البدء أن يجعل نفسه ذبيحة خاصة من أجل العالم، لكي يقدم التلاميذ ذواتهم أيضاً ذبائح حية ومقبولة في ذبيحة المسيح، وهكذا يستمر الخلاص حياً فعالاً، حتى يتغير وجه العالم، وبهذا ينتهي عمل المسيح بتكريس البشرية لله!
‏تقسيم الصلاة: من العسير تقسيم الصلاة تقسيمأ منهجياً صحيحاً، لأنها صلاة؛ والمسيح لم يبوبها مسبقاً، بل
‏كان يعود إلى ذكر الأمر نفسه في مواضع متباينة.
‏ولكن بقدر الإمكان قسمها الشراح إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
‏القسم الأول: (1-5). حيث يقدم الابن نفسه إلى الآب في المجد المشترك.
‏القسم الثاني: (6-19‏). يقدم وصيته للآب فيما يخص التلاميذ الحاضرين هذه الصلاة.
القسم الثالث: (20-26‏). يقدم وصيته للآب فيما يخص الكنيسة على طوك المدى.
القسم الأول فيما يخص صلته بالآب
1:17-5
حيث يصلي من أجل:
1- مجده الذي يُنشىء مجداً للآب.
2- عمل الابن على الأرض من حيث غايته.
3- من حيث أسلوب عمله على الأرض.
4- من حيث اكتمال عمله حسب المواصات المعطاة.
5- طلب استعادة مجده السالف على أساس اكتمال كل شيء.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
1- تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً.

‏«تكلم يسوع بهذا»: واضح هنا العلاقة الصميمة بين التعليم السابق وبين هذه الصلاة، صحيح أنها كانت نقلة
‏مفاجئة ولكن دون انقطاع في المنهج العام، فهو انتقال من التعليم فيما يخص الخلاص إلى الدخول العملي في سر الفداء. كانت أخر جملة قالها المسيح قبل دخوله في الصلاة هي: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)! كان هذا هو المدخل الرسمي لصلاة التكريس التي كرس فيها نفسه للموت، كآخر مرحلة في مراحل خطة الخلاص التي جاء بها من عند الآب.
‏و«أنا قد غلبت العالم» معناه تقديم الوثيقة التي تعني أنه غلب كل شيء في العالم، ولا يوجد فيه خطية واحدة تمنعه من أن يقدم ذبيحته لأجل الآخرين، وليس عن نفسه. فبطهارته وقداسته الكاملة تأهل أن تكون ذبيحته شاملة لكل العالم، لأنه غلب في معركة العالم. وبناء عليه، فقد استحق أن تُقبل ذبيحته على أساس استعلان مجده جنباً إلى جنب، حتى تُفهم الذبيحة أنها ذبيحة إلهية، لها ما لها من أثر وفاعلية دائمة، ذبيحة الغالب، وكل من يشترك فيها يشترك في انتصارها. فهي ذبيحة إنتصار لحسابنا، كما يقرر ذلك القديس يوحنا في رسالته الاولى: «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد وُلد من الله، ... لأن كل من وُلد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا. من هو الذي يغلب العالم؟ إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (1يو1:5و4و5)
‏وما هي «غلبة العالم» بالنسبة للذين آمنوا بالمسيح واشتركرا في ذبيحته، قولاً بالإيمان، وعملاً بأكل الجسد وشرب الدم؟ هى اقتفاء حياة المسيح والاقتداء به: «ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو49:2)، «لكن ما كان لى ربحاً، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحبها نفاية لكي أربح المسيح.» (في7:3-8)
‏غلبة العالم هي الانتباه، حتى لا نتعلق بالمادة أو بمظاهر العالم الجاذبة «للرغبة»، المعشوقة لاستعباد الحواس؛ وهي إما خدع راق كالجمال والحب والفن، وإما خداع منحط كالجنس ولذة الأكل والشرب. لذلك نجد أن عنصر «غلبة العالم» سيصبح أساساً لتنويع درجاتنا في السماء، كنهاية النهاية: «من يغلب، فساعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضأ وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ21:3‏)؛ وهذا بحد ذاته أعلى مستويات الوجود الروحي للانسان، الذي آمن بالمسيح واقتفى أثر حياته وتقوى بها.
‏والملاحظ أن غلبة المسيح على العالم بحياته، أعطته بالضرورة أن يغلب الموت بموته: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو30:14). وصار لقب المسيح في السماء «الغالب»: «خرج غالباً, ولكي يغلب» (رؤ2:6‏). وغلبة المسيح منحها لنا كشركة في موته وقيامته, بهذه هتف بولس الرسول: «يعظم إنتصارنا بالذي أحبنا» (رو37:8)، أي أن المسيح كمنتصر سيمسك بيدنا لننتصر ونعبر. فالانتصار أساس الانتقال من العالم إلى الله؛ لأنه لما أكمل المسيح الانتصار على العالم, تهيأ للانتقال إلى الآب.
«ورفع عينيه نحو السماء وقال»: هنا انتقل السيح بنفسه وبسامعيه ودخل مباشرة في الحديث على المستوى الإلهي، فرفع عينيه إلى السماء، يعني اتجه بكل كيانه نحو الوجود الإلهي المطلق، فالسماء رمز الحضرة الإلهية الدائمة. ولأول مرة يسمع الإنسان حديثاً سرياً بين الآب والآب السماوي. فالحديث موجه للآب مباشرة، ولكن على مستوى الأذن البشرية لتسمع، والقلب ليفهم، ويرتقي بوعيه الروحي للمدارك الإلهية العالية. فالإنسان في هذه الصلاة، وبهذه الصلاة، مدعو رسمياً للدخول في هذه الشركة السرية بين الابن والآب، من خلف الابن الواقف يصلي بنا.
«أيها الآب» (نقول باختصار أن «الآب« هو مصدر القوة الإلهية المفكرة الواعية اللانهائية, ومصدر النور والحياة والإرادة والقداسة والمحبة التي لها القوة لتجذب كل شيء. و «الابن« هو الفعل: الفعل لقوة الآب وفكره ووعيه, وهو كلمة هذا الفكر وفعل حياة الآب وعمل إرادته، والمنفذ لحبه المطلق. لذلك كان بالضرورة أن الفعل (الكلمة) يكون هو الخالق كفعل إرادة الآب للخلق. وهو أيضاً وبالضرورة الخالق للكائنات الروحية كفعل حياة وروح مطلق للخلق الواعي. و «الروح القدس« هو روح الآب, وروح الابن, قوة الحياة المطلقة فى الآب والابن, فهو الشاهد لما بين الآب والابن، شهادة مدركة ومنطوقة في الآخرين, وهو قوام الحياة وديمومتها ونموها وسر غبطتها واتحادها بالله.
‏هكذا جاءت الترجمة اليونانية. ولكن الأصل العبري الذي تكلم به المسيح هي اللفظة المشهورة
«‏أبا» ‏وبالإنجليزية father. والنطق بهذه الكلمة معناه الاتجاه المباشر بين المسيح وأبيه السماوي. ولكن لم يقل «‏يا أبانا»، فالصلاة لا تُحسب أنها عامة وكأنه واحد من العامة. ولم يقل «يا أبي»، لذلك فالصلاة تُحسب هنا أنها ليست سرية خاصة, فهي داخلة في الصفة التي تجعلها صلاة البشرية كلها بفم المسيح بين الابن والآب بآن واحد. لذلك يقولها علنا وبالصوت المسموع: «أيها الآب»(1): ‏ففي الحقيقة، هذه الصيغة التي خاطب بها المسيح الله: «أيها الآب» توضح كيف يحصر المسيح نفسه في الجنس البثمري، لا كواحد بل كمن يمثل الإنسان ككل، ولكن بجرأة تفوق قامة البشرية، إنها جرأة من هو وحده يعرف الآب, وله الآب، وهو آت إليه!
«قد أتت السأعة»: لاحظ أن المسيح كان يعرف ميعاد الساعة بالضبط، بل وما تحمله هذه الساعة من المهانة
‏والمجد، من الذلة والرفعة, من الموت والقيامة! فلما كان العالم يستحثها للمجيء: إما بدفع المسيح للظهور في مجده سواء من أمه أو من إخوته؛ وإما لاستعلان المهانة المخبأة فيها وذلك من اليهود ورؤساء الكهنة؛ كان المسيح يحجزها بسلطان: «لم تأت ساعتي بعد» (يو3:2). ولكن الأن أدرك أنه قد استنفذ زمانه على الأرض، وحان موعد الكأس ليشربها بكل ما فيها، وليعبر إلى الآب عبر الصليب والهوان: «وأما يسوع, قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب (أخذ الكأس وذاق وأعطى التلاميذ)» (يو1:13). المسيح كان يعلم أنه (أي العبور) ليس هو موت بل انتقال!! في ذلك يقول القديس أغسطينوس [ وقد بين (المسيح) أن الزمن كله, وأن كل مناسبة عمل فيها عملاً, أو سمح بشيء ما أن يُعمل، فإن ذلك كله هو بتدبير منه، بينما هو لا يخضع للزمن.]
«مجد ابنك, ليمجدك ابنك أيضا»: هذا هو مضمون الساعة، فقد أتت الساعة التي يتمجد فيها الابن. وقد سبق وأن أعطى المسيح لهذه الساعة مضمونها : «وأما يسوع فأجابهما (فيلبس وأندراوس) قائلاً: قد أتت الساعة, ليتمجد ابن الإنسان» (يو23:12). كما أن طلب التمجيد هذا يغطي مضمون هذا الجزء الأول من الصلاة (1-5‏).
‏والتمجيد هنا هو في مفهوم المسيح استعلان طبيعته الإلهية للعالم. وحقيقة طبيعته تظهر للعالم بواسطة قيامته المنتظرة, أي انتصاره على الموت؛ التمجيد الذي يستحقه بالفعل في مقابل انتصاره على العالم. فهنا طلب المسيح يختص بصميم الإعلان عن رسالته للعالم للخلاص المنشود. على أن قيامته علنا وصعوده إلى الآب ستؤل حتماً إلى استعلان وتمجيد الآب! حيث يتضح أن خطة الخلاص تبتدىء بإرسال الآب للابن لخلاص العالم، وتنتهي بذهاب الابن إلى الآب، متمماً هذا الخلاص. وهكذا تُستعلن حقيقة وطبيعة الآب، باستعلان حقيقة وطبيعة الابن، الأمر الذي عبر عنه المسيح: «مجد ابنك. ليمجدك ابنك أيضاً». هذا يفسره بولس الرسول بمنتهى الوضوح والقوة في رسالته إلى فيلبي: «لذلك رفعه الله أيضاً, وأعطاه اسماً فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض, ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو «رب» (اسم يهوة فى القديم) لمجد الله الآب» (فى9:2-11)
ويلاحظ من هذا الطلب في الصلاة، أن «مجد ابنك» تجيء ولها هدف مباشر: «ليمجدك ابئك». هنا واضح العلاقة الصميمة والمتبادلة على المستوى الواحد بين مجد الابن ومجد الآب، كما يتضح بالمنطق أن أيا من مجد الابن أومجد الآب لا يُستعلن بدون الأخر، فالارتباط بين مجد الابن ومجد الآب جوهري ولكن المطلوب في النهاية هو مجد الآب! لهذا يلزم أن نربط هذا الطلب: «مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضا»، بطلب سابق ألح عليه المسيح وهو في بدء التجربة: «الآن نفسى قد اضطربت، وماذا أقول, أيها الآب نجني من هذه الساعة, ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة, أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء: مُجدت وأُمجد أيضاً» (يو27:12-28). وكان تعقيب المسيح على هذا الصوت: «ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم» (يو30:12). واضح أن هذا الطلب السابق كان هو الطلب لتمجيد اسم الآب، وذلك بالتدخل في عمل المسيح الذي يعمله باسم الآب, والقصد أن يتمجد الآب بموت المسيح، حينما يستعلن غلبته على الموت بالقيامة, فيتمجد عمل المسيح كله، وبالتالى الاسم الذي يعمل به ومن أجله!
وهنا في هذه الآية (1:17) يتكرر الطلب بوضوح، على أساس أن تمجيد الابن يُنشىء تمجيد الآب, وهو القصد والنهاية. ثم لا ننسى، أنه تطبيقاً للآية الاولى (30:12)، فإن طلب المسيح المجد من الآب، لم يكن من أجل نفسه، بل من أجل السامعين، أي التلاميذ والعالم من بعدهم, وبالنهاية ليتمجد الآب.
‏كذلك, فإن قول الآب من السماء ردا على طلب الابن في الآية (27:12‏): «مُجدت وأمجد أيضاً»، يوضح أن الآب مجد اسمه في أعمال المسيح كلها, وهو يتمجد في ختام عمله بقيامة ‏المسيح من الموت!
‏هنا أيضاً بالمثل في الآية (17:1)، فإنه بقدر ما سيتمجد المسيح بالقيامة من الأموات، هكذا سيتمجد الآب حتماً: « ‏... الذق أقامه الله» (أع24:2). ومجمل تعليم المسيح لخصه المسيح فى «السعى لمجد الآب» هكذا: «من يتكلم من نفسه، يطلب مجد نفسه، وأما من يطلب مجد الذي أرسله, فهو صادق، وليس فيه ظلم.« (يو18:7).
‏تماما كما يلخص المسيح كل عمله على الأرض، أنه كان لحساب الآب، أى لمجده ولاستعلانه: «العمل الذي آعطيتني لأعمل، قد أكملته, أنا مجدتك على الأرض... أنا أظهرت اسمك للناس.» (يو4:17-6)
‏والمعنى البسيط الذي نستنبطه من مفهوم المجد بالنبسة للمسيح، هو في الواقع استعلان لاهوته وسلطانه المطلق على الموت, أو بمعنى إنجيلي عملي: استعلان قوة قيامته الإلهية وذهابه إلى الآب وجلوسه عن يمينه: و«المجد» في مفهومه الأساسي كأصل ومنبع, هو طبيعة الله في مفهوم سموه المطلق والفائق, وبقدر القرب منه ينتقل المجد إلى الآخرين. فللملائكة «مجد», ولأرواح القديسين في السماء «مجد». وهكذا كما يقول بولس الرسول: «لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد» (1كو41:15)، تعبيرا من صدق القرب والبعد عن الله مصدر كل المجد. و«التمجيد» من قبل الله والمسيح للآخرين ينحصر في معنى «التكريم», بالتقريب من الله مصدر المجد والنور: «وهؤلاء مجدهم أيضاً» (رو30:8)، وبإعطاء «مواهب فائقة»، بمعنى تجهيز الإنسان بقوة إلهية تعمل لاستعلان الله فيه!! وهو تثبيت لمفهوم القرب من الله.
1- ولكن ما هو المجد الذي يطلبه المسيح بمفهومه كغالب للموت بالقيامة وبكرامة الصعود والجلوس عن يمين الآب, كما جاء في الآية الاولى (يو1:17)؟ ‏بل ما هي المحصلة النهائية من كل عمل المسيح على الأرض وفي السماء أيضاً, بالمفهوم العملي الإنجيلي, وخاصة بالنسبة لنا؟
2- هذا يوضعه إنجيل يوحنا، بمنتهى الاختصار والوضوح، في الآية الثانية: «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته» (يو2:17). والبرهان الأكيد على صلة مجد المسيح بإعطاء الحياة الأبدية لنا, هو أن كل من حاز هذه العطية السماوية، أى الحياة الأبدية، يظل يمجد الآب والمسيح على الأرض وفي السماء، الآن وإلى أبد الابدين‏!!
3- ثم ما هي الحياة الأبدية في مفهومها العملي الإنجيلي أيضاً؟ وهذا أيضاً يوضحه إنجيل يوحنا بأجلى بيان في الآية الثالثة «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو3:17)
4- وما معنى «أن يعوفوك»؟ هذا كان عمل المسيح الذي استلمه من الآب في الآية الرابعة: «العمل الذي آعطيتني لأعمل، قد أكملته.» (يو4:17)
‏وهكذا يأتي كلام المسيح للآب في صلاته الخالدة، من الآية الاول حتى الآية الرابعة، مرتبأ ترتيباً مذهلاً يفوق كل تصور. وعليه، فلينظر القارىء إلى أي حد يستحق المسيح المجد الذي يطلبه، لا كإضافة عليه، بل كاستحقاق من واقع عمله ونتيجة حتمية له. وإن كان من العدل، لو أنصف العالم، لأعطاه له منذ البدء، ولكنه أنكره عليه؛ فاستعلن مجده في النهاية ليفحم العالم الجاحد؛ بل ليخلصه: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوق (حياة المسيح العملية)، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح (بالقيامة من الموت)، تراءى لملائكة (استعلان مجده المنظور من السماء)، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم (أخيرأ أدرك العالم حقيقته)، رُفع في المجد (آخر منظر سماوي له).» (اتي16:3)
‏كذلك يلزم أن نتبه أن «مجد» المسيح ليس صفة يمكن أن ندركها بمفردها، لأنها كما سبق وقلنا هي استعلان حقيقته الإلهية التي لا تُدرك إلا بالإيمان، ومن خلال عمله الذي أكمله على الأرض والذي لا يزال يُكمله عنا في السماء. وغاية استعلان المسيح، هي أن يدرك العالم حقيقته الإلهية الجوهرية، أنه والآب واحد في المجد؛ إلى هنا ينتهي عمل المسيح وينتهي معه التاريخ. فالتاريخ كله وُضع لكي ينتهي عند كمال استعلان المسيح، أي بلوغ الخلاص الكلي.
(1) ويُحسب هذا استعلاناً وكشفاً لسر العلاقة المباشرة والاتصال الجوهري الذاتي بين الابن والآب في وضعه المطلق، هذا الذي استلمته الكنيسة وعبرت عنه أيضاً بالنداء «يا أبا الآب»: «إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضأ للخوف (من الله بعد) بل آخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب» (رو15:8)، وقد كررها بولس الرسول لترسخ فى أذهاننا كميراث حقيقي. «ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه (البنوة) إلى قلوبكم صارخا يا أبا الآب» (غل6:4), وكأن المسيح في قلوبنا يدعو الآب بدالة البنوة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ.

«إذ»: «إذ» أتت هنا بمعنى «كما», كما جاء في الآية 22:17 «ليكونوا واحدأ، كما أننا نحن واحداً»؛ وأيضاً في 21:17 «ليكون الجميع واحداً، كما أنت أنت أيها الآب في وأنا فيك». فالمعنى هنا هو التساوي في المناسبة. لذلك، فهذه الآية شرح لزومية وأحقيقة ما سبق، بمعنى أن يطلب المجد عل قياس، أو بداعي، أنه أعطي سلطاناً ليعطى الحياة الأبدية لكل جسد!
‏هنا القول: «أعطيته سلطاناً على كل جسد» تفيد بحد ذاتها ألوهيته المطلقة. فـ «كل جسد» تعني «كل بشر» بتعبير العهد القديم. وهذا هو سلطان الله وحده! «يا سامع الصلاة إليك يأتي كل بشر» (مز2:56‏). واعطاء الابن الحق بإعطاء الحياة الأبدية لكل بشر، هي واحدة من المطلقات التي استلمها الابن، فقد أعطاه الآب كل شيء بصورة مطلقة: «الآب يحب الابن. وقد دفع كل شيء في يده» (يو35:3)، «يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه...» (يو3:13)، وأعطاه الدينونة: «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن.» (يو22:5)
‏من هذا يتبين أن المسيح كان يخدم خدمة المجد، وهذا معنى قول الصوت من السماء: «مّجدتُ»» (يو28:12)، أما طلب المسيح للمستقبل فقد حُفظ له بوعد: «أُمجد أيضاً».
‏ولكن للأسف فإن خدمة المجد هذه، بالرغم من أنها كانت في صميم المجد، إلا أنها لم تكن مفهومة ولا مُدركة, بل وكان مُفتريأ عليها. هذا يعني أن مجد المسيح في أعماله وحياته كلها على الأرض، كان مختبئاً في النهاية، أو أنه كان يعمل على أساس استعلان النهاية.
‏«على كل جسد... لكل من أعطيته»: المعنى قد يبدو متضارباً، إذ كيف أعطي الابن سلطاناً على كل جسد، ثم يعود ويقتصر الفعل على من أعطاه الآب فقط ؟! فهل للمسيح سلطان على من يريد الآب أن يعطيهم حياة أبدية؟ نعم، فسلطان الابن مطلق بالفعل على كل جسد، ولكن منهم من لن يقبل الحياة الأبدية التي يدعو إليها الآب، برفضه المسيح، هؤلاء يبقى سلطان المسيح عليهم للدينونة وليس للحياة الأبدية!!
‏ولكن ما هي الحياة الأبدية التي أعطي الابن سلطاناً أن يعطيها لنا؟
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3- وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المسيح الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.
‏الحياة الأبدية:

1- هي اسم قد استخدمه المسيح في إنجيل القديس يوحنا للتعبيرعن نفسه: «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11)، وعن عطائه لهذه الحياة. فلأن له هذه الحياة في ذاته، مثل الآب، فهو يُحيي من يشاء مثل الآب (21:5و26). ‏ولأنه نزل من السماء‏، ودخل العالم ملتحماً فيه بتجسده، فقد أعطى العالم هذه ‏الحياة بجسده (37:6), وفوق كل شيء ، فهو يمنح حياته لأخصائه الذين يلتصقون به ويتبعونه من كل قلوبهم (24:5)، وللذين يسمعونه ويدخل صوته إلى أعماق قلوبهم (24:5‏). وبسبب كل هذا العطاء المتعدد الوسائل للحياة، يقول المسيح إنه هو «الحياة» (25:11)، كقوة فعالة مُحيية .
‏ولكن كل هذا العطاء يتركز في تقديمنا إلى الله أبيه من خلال عطائه لهذه الحياة (6:14).
‏أما الوسائل التي استودعها سر الحياة لكي نقربها ونحن في موضعنا على الأرض, دون عناء, فهي تكمن في سر الشكر بكسر الخبز وشرب الكأس بعد البركة (الإفخارستيا) (35:6و48)، وفي سر الماء بالدفن فيه، وكأننا نموت لنحيا ونقوم معه (المعمودية) (5:3‏), وفي سر الكلمة (10:4 و63:6 و68:6), وفي سر الإيمام الحقيقي (38:7‏).
‏أما كُنة هذه الحياة بالمفهوم الإنساني الاخباري، فهي النور الحقيقي, أنا هو نور العالم, ونور الحياة (12:8)، «والحياة كانت نور الناس» (يو4:1)، النور الذي يدخل الإنسان فيضيء كيانه ويفتح وعيه، ليدرك نفسه فيدرك خالقه. يدخل الإنسان في النور، فيدرك الله، ويعيش فى حضرته (1يو:4:1‏)، لأن «الله نور.» (1يو5:1‏)
‏ب _ «والحياة الأبدية» في إنجيل القديس يوحنا هي المقابل «لملكوت الله» في الثلاثة الأناجيل الأخرى. غير ان اسم «ملكوت الله» هوتعبير من تعابير التراث اليهودي، يفهمه اليهود على أساس أن الله كان يملك على إسرائيل على المستوى الفكري الضيق. في إنجيل يوحنا، المسيح يخاطب العالم كله، فالحياة الأبدية بالنسبة له هي الحياة الأفضل والأعلى والدائمة، بالمقارنة مع الحياة الأقل التي يألقها الناس عامة تحت نور الشمس على الأرض، وفي «ظل الله» وليس في نوره، حياة طبيعتها المادة المحسوسة التي تقيم أودها من أكل وشرب وتنفس، يحكمها الزمان والمكان والحرارة والجاذبية، ومجدها الطول والعرض والإرتفاع. الحياة الأبدية ليست كذلك، فهي حياة متحررة من كل ضوابط المادة. فإن كانت الحياة الحاضرة يلزمها عقل الحسيات والمدركات الحسية، فالعقل لا يصلح كأداة لمعرفة الحياة الأبدية. هنا تنبري الروح الواعية بالعقل العالي الواعي، الذي يدرك المطلقات، من نوع طبيعة الحياة الأبدية نفسها؛ هذا العقل يعمل الآن بصورة جزئية، لذلك فالإنسان أعطي له في هذا الزمان إدراك الله والحياة الأبدية إدراكاً جزئياً.
‏وكلمة «االحياة الأبدية» ليست غريبة عن الفكر والتراث اليهوديين، فهي واردة في الأسفار بمفهوم معنى الخلاص، بصيغة مبهمة. ولكي نفرق بين الحياة في العالم والحياة مع الله، أعطي للحياة صفة الديمومة الإلهية «الأبدية». فكلمة «الحياة» وهي مُعرفة وموصوفة بالأبدية، تُعرف وتُقرأ على مستوى الإنسان، أما عل مستوى الله والمسيح، فلا يُقال أنه الحياة الأبدية بل «الحياة», كقوة وليس كاسم, فهو الذي يخلق الحياة ويقيمها، وهذا يتضح من وصف المسيح لكلماته الخارجة من فمه بل من كيانه الإلهي: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6)، لأن «الكلمة» في المفهوم الاعتباري العال، هي تعبير عن الذات والكيان (يو68:6‏).
‏ج- فإذا فهما الحياة الأبدية عل ضوء معنى ملكوت الله، فهي الحياة التي يملك الله عليها بروحه، حيث يحيا الإنسان بقيادة روحه القدوس, وحسب مشيئته، سواء بالفكر أو بالعمل وجعله الغاية لكل شيء. ودخول الإنسان الحياة الأبدية هو كدخوله ملكوت الله، وكأن الإنسان يولد لحياة أعلى، ليس عشوائياً كما يولد الإنسان من بطن أمه, بل بالوعي الجديد لحياة أخرى, حيث عامل الإيمان هو الأساس، فيرتقي الإنسان بأفكاره وأعماله وكل ملكاته، وكأنه خُلق من جديد. وفي الحياة الأبدية, التي يحصل عليها الإنسان, يكون الله قطبها الجاذب وعنصر ديمومتها الفعال، يستمد منه الإنسان صفاته الجديدة، حيث يُقال, عن حق, أن الإنسان يصير شريكاً في الطبيعة الإلهية: «بمعرفة الذق دعانا بالمجد والفضيلة, اللذين بهما قد وُهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية, هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة.» (1بط3:1-4)
وتكون حيازة الحياة الأبدية، هنا، كالعربون، كسبق مذاق، وهناك بالامتلاك والإقامة. لهذا يُقال عن حق أننا نرث ما لله في المسيح يسوع كأبناء بالتبني.
د- إعطاء الحياة الأبدية: هنا يجيء إعطاء الآب السلطان للابن على كل جسد، أي على الخليقة البشرية كلها, ليعطي الحياة الأبدية حسب مشيئة الآب، في هذا الزمان استعلاناً سرياً لماهية «الابن» المتجسد, فهو يمتلك الحياة في ذاته أولاً: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته» (يو26:5). ثم إن له سلطان الله في إعطاء الحياة الأبدية منذ الآن: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي (مستقبلاً) إلى دينونة، بل (الآن) قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)
‏معنى ذلك أن الآب والابن يشتركان معاً في إعطاء الحياة الأبدية، حسب نص الآية: «ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته»؛ المسيح يعطي بالفعل، والآب بالمشيئة والاختيار. ويستحيل فصل الفعل عن المشيئة المتتمة له, ولا المشيئة عن الفعل؛ فالآب «والابن المسيح» يعطيان الحياة الأبدية؛ وبناء على ذلك يتحتم أن تكون الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن معاً، بحيث لو قال المسيح: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك» فقط، لاستحال الأمر, لأن الحياة الأبدية أُعطيت بالابن يسوع المسيح. فبدون الابن يسوع المسيح، لا تكون حياة أبدية للناس. وكما أنه بغياب الحياة الأبدية، تغيب معرفة الله في ذاته، وهي المعرفة المؤدية لخلاص الإنسان، وتنحجب طبيعه الله كآب وابن عن الوعي البشري؛ كذلك فإنه بدخول الحياة الأبدية، تنكشف حقيقة الآب والابن، ويدرك الإنسان سر الله والخلاص.
‏من هذا يتضح حتمية ذكر: «ويسوع المسيح الذى أرسلته» مع «يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك», لأن معرفة الآب والابن هي جوهر الحياة الأبدية، وهي جوهر الإيمان بالتالى؛ هي معرفة ليست بالفكر المجرد، بل بطاقة الحياة الواعية العاملة لحساب الله والحياة الأبدية، كقوة وعي إيماني تقربنا إلى الله، وتحضرنا أمامه.
ه- ولكن ما هي الحياة الأبدية على مستوى الاختبار؟: لكي نعرف ما هي الحياة الأبدية على مستوى الاختبار اليومي، يلزم أن نعرف أولاً الفرق بين الحياة الأرضية التي تنتهي بالموت, وبين الحياة الأبدية التي لا يوجد فيها موت. فالحياة المائتة كلها متغيرات؛ فالفرح المعروف فيها قابل للتغيير وينقلب إلى حزن، والسلام ينقلب إلى قلق واضطراب, والحب ينقلب إلى بغضة وكراهية, والأمل والرجاء إلى يأس وقنوط .
‏أما طبيعة الحياة الأبدية, فكل صفاتها وأحوالها دائمة, غير قابلة للتغيير للضد, بل إلى الأفضل دائماً.
‏والآن، فإن كل مؤمن بالمسيح لا بد وأن يكون قد جاز فترة من فترات الفرح الروحي المبهج، وحمل أثارها في نفسه، يذكرها فتنتعش روحه، سواء كان ذلك على أثر سماع عظة أو قراءة كتاب روحي أو فصل من الإنجيل أو أثناء الصلاة. تلك اللحظات التي لا زالت منطبعة في نفسه وروحه، هي لحظة من لحظات الحياة الأبدية, ومذاقها فوق الطبيعة، وهي كافية أن تعزي الإنسان أثناء مصادماته لتجارب الحياة. ولكن يوجد مؤمنون جازوا فترات أطول، من هذا النوع من الفرح أو السلام أو الغبطة الروحية» حيث صارت لهم مجالاً دائمأ يلوذون به في مواجهة العواصف وزعازع الحياة الأرضية.
‏وما يُقال عن الفرح، يُقال عن السلام الروحي, وكل تذوقات نعم الحياة الأبدية الأخرى التي تطفح على النفس, فتملأها هدوءا وطمأنينة ورجاء وعفة وقداسة وتمجيدا دائماً والتصاقا حاراً بالرب. وهؤلاء الذين يذوقون هذه يختبرون الصلاة بالروح, والسجود بالروح، والتسبيح بالروح، ببهجة تفوق العقل.
هذه هي الحياة الأبدية، وهذا هو سبق مذاقها. وأوضح صفاتها، أن أثرها لا يزول على مدى عمر الإنسان كله, وهي تجعله يسخر من تقلبات الأيام والسنين, وتبقى حصناً أميناً للنفس.
‏هذه هي الحياة الأبدية المبهجة التي سوف نحيا ملئها فوق. هذه هي الحياة الأبدية التي هي عينها الحضرة الإلهية، وهي نفسها تذوق العشرة مع المسيح, بل هي حياة المسيح والآب. لذلك يقول القديس يوحنا، إنه لما ظهرت الحياة الأبدية في شخص يسوع المسيح، والتي كانت مخفية في الله، ورآها في شخصه، وشاهدها بروحه في تعاليمه, ولمسها بقلبه وروحه لمس اليد, صارت له شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (أقرأ 1يو1:1-4)؛ أي أن معرفة الآب وابنه يسوع المسيح، بالاستعلان، هي عينها الحياة الأبدية, وهي عينها الشركة مع الآب والمسيح! بل والإخبار بها يعطي نفس الشركة: «الذي رأيناه وسمعناه, نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا.» (1يو3:1)
«أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته»:
«يعرفوك»: صيغة الفعل هنا استمرارية، فنحن هنا بصدد الحياة الدائمة والأبدية. والمعرفة هنا منصبة على «أنت الإله الحقيقي وحدك» أي الآب؛ و«يسوع المسيح الذي أرسلته» هوا الابن المتكلم عن نفسه ولكن بصيغة الغائب. ومعرفة الله ليست كمعرفة الناس أو الأشياء أو المعارف العالمية. فأداة معرفة الدنيا هي العقل المحسوس العامل بالمخ البشري. وأما معرفة الله، فلا تؤتى بالعقل، بل بالوعي الروحي, وهو العقل أو الذهن العالي المختص بالمطلقات, وهذا يكتسب المعرفة بالاستعلان، أي يُستعلن له الحق، فيدركه. والاستعلان يأتيه من فوق، من خارج الكيان الإنساني، بالخبر الإلهي، أي بالبشارة بأمور الله المفرحة والسارة، سواء بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة أو الرؤيا: « إن كان منكم نبي للرب, فبالرؤيا أستعلن له, في الحلم اكلمه, وأما عبدي موسى، فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فما إلى فم وعياناً أتكلم معه, لا بالألغاز, وشبة الرب يعاين.» (عد6:12-8)
‏والمسيح افتتح عهد الملكوت أو الحياة الأبدية للانسان، على مستوى كلمته: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6). هنا المسيح يُعرفنا بالحياة التي فيه، بواسطة سماع الكلمة وقبولها: «الحق الحق أقول لكم: الحق الحق اقول لكم: إن من يسمع كلامي, ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
‏التعرف على المسيح، هو هو التعرف على الآب, لأن رسالة المسيح هي استعلان الآب الذي فيه، بالكلمة والعمل: «الذي رآني, فقد رأى الآب» (يو9:14)). فالمسيح هو مستعلن الآب. والتعرف على المسيح والآب هو الحياة الأبدية. على أن المعرفة هنا لا يمكن أن تسمى معرفة فكرية أوعقلية, بل معرفة بالا ستعلان، أي كشفت الحقيقة؛ والحقيقة لا تنكشف إلا لمستحقيها، أي تُستعلن للآخذين فقط. فالله يُستعلن، أو يُعرف معرفة حقيقية لأخصائه، أي الذين له، أى الذين امتلكهم وامتلكوه. فالمعرفة للآب والابن هي بعينها شركة مع الآب والابن, كما يُعلن القديس يوحنا: «فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا، ونشهد، ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب، وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه, نخبركم به, كي يكون لكم أيضاً شركة معنا, وأما شركتثا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو2:1-3)
‏واضح هنا أن «الحياة» هي المسيح، و»أظهرت» بالتجسد, وقد اأُستعلنت في المسيح، فعرفوا الآب والابن. وما أدركه القديس يوحنا بالاستعلان المباشر بمعاشرته للمسيح نفسه، ينقله لنا، أي ينقل الاستعلان الذي حصل عليه، ينقله لنا بالخبر، ونحن من هذا الخبر نحصل على الاستعلان كاملاً بالإيمان بصدق الإنجيل. أما القديس يوحنا فبالاستعلان الذي بالإيمان حصل على شركة في المسيح والآب, وهو يدعونا إلى نفس الشركة معه، على مستوى تصديق الإيمان لقبول الاستعلان. هذه هي «معرفة» الآب والابن.
‏كما نلاحظ في هذه ‏الآية (17:3‏) أن «معرفة الآب» تساوي «معرفة يسوع المسيح» في بلوغ الحياة الأبدية. هذا التساوي هو على مستوى الفعل والعمل. هنا ممارسة حقيقية نحصل بها حالياً على الغبطة، التي هي عربون سعادتنا القاد‏مة الدائمة. ولكن ملء معرفة الآب والمسيح مذخوة لنا في الحياة الأخرى، التي هي بعينها ممارسة سعاد‏ة الحياة الأبدية ذاتها.
‏في سفر الرؤيا نجد أن الصفات الأساسية التي بها يُخاطب الله الآب هي نفسها التي يُخاطب بها ويوصف المسيح الممجد. ففي الآية (10:6) نسمع أرواح الشهداء تصرخ لدى الله قائلة: «وصرخوا بصوت عظيم قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض», ثم نجد الوحي يصف المسيح بنفس الصفات: «هذا يقوله القدوس الحق الذي له مفتاح داودى الذي يفتح ولا أحد يُغلق, ويُغلق ولا أحد يفتح.» (رؤ7:3).
«أنت الإله الحقيقي وحدك, ‏ويسوع المسيح الذي أرسلته»: المسيح يوجه الكلام للآب. ولكن كما يوجه المسيح الكلام للأب، نوجه نحن نفس الكلام للمسيح، حيث نقول: «أنت الإله الحقيقي وحدك». لأن صفة الألوهية هي للآب كما للابن، وصفة الحق هي للآب كما للابن, لأن الحق في المفهوم اليهودي ينصب على أمانة الله، واستقامة وصاياه، واستجابته لسؤال الإنسان البار، ووفائه بوعده إذا وعد. ها يظهر الإتجاه الفعلي العملي «للحق». وبالمفهوم الهلليني (أي اليوناني)، فإن الحق هو ما ليس «شبه حق», فهو ليس خيالاً أو كذباً، أي الاتجاه الفكري التصوري. والمسيح هو كذلك بالمفهومين: فهو«الصادق الأمين» (رؤ14:3؛ 11:19). وصفة «الواحدية» هي للآب كما للابن، لأنها صفة الطبيعة والجوهر الإهي أساساً. فالطبيعة الإلهية بسيطة بساطة مطلقة، أي غير غير مركبة، فالإنسان له طبيعة مركبة من جسد ونفس وروح، الله ليس كذلك. فالله روح كُلى مُطلق، لهذا يستحيل معه الثنائية، كما يستحيل فيه التقسيم أو الانقسام. فالله واحد كلي صاف، فالآب واحد، والابن واحد، لأن جوهرهما واحد بسيط غير منقسم قط.
‏من ها نفهم صفة الواحدية لله، أنها صفة جوهرية من وقع طبيعته وليس من جهة عدده؛ فحينما نقول: «الله واحد» فنحن نتعمق طبيعته، لا درءأ لتعدد الآلهة، ولكن وصفاً لحقيقة الله ذاته، على أن «الواحد المطلق» هو بآن واحد «الحق المطلق» وهو هو «الإله الواحد» حتماً.
‏ولكن المسيح جاء ليعلن الآب المحتجب. فمعرفة الآب يستحيل أن تتم بدون المسيح، الذي جاء ليستعلنه، ويستعلنه في ذاته، وفي طبيعته. فذكر المسيح مع الله الآب، هو بقصد التكميل الاستعلاني وليس الإضافة. وكما أن الابن يُمجد الآب، والآب يُمجد الابن، كذلك فالابن يستعلن الآب، والآب يستعلن الابن بالروح الذي أرسله. لذلك، يستحيل معرفة أحدها بدون الآخر. لذلك يقول المسيح ما هو مُعتبر تحصيل حاصل، أن «الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته». وكأنما هو يقول: إن الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن, الله الواحد بذاته.
‏والمسيح لم يقل هذا بصيغة المتكلم، لأن الممطق يمنع القول بأن الإله الحقيقي هو «أنت وأنا»، فقال بصيغة الغائب: «أنت, وهو» حيث مضمون «هو» في المفهوم اليهودي اللاهوتي بحسب الأسفار المقدسة تعني «الإله» في أبغ تعبير سري، هذا إذا جاءت من موقف المتكلم، كما وردت بالعبري مئات المرات في الأسفار المقدسة «أنا هو» الله.
‏وتطبيقاً لما قلناه, نقرأ للقديس يوحنا في رسالته الاولى: «ونحن في الحق, في ابنه يسوع المسيح, هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» (ايو20:5). وواضح هنا أن القديس يوحنا يعطي للمسيح كل الصفات التي لله الآب بلا تفريق، وهذا يعني بصورة جلية أن المسيح يسوع هو الاستعلان الكامل لله الآب الحامل لكل مفاته، الذي فيه وبه يُعرف الله الآب معرفة حقيقية وكاملة, وأن ملء الله الآب الكامل فيه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3- وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المسيح الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.
‏الحياة الأبدية:

1- هي اسم قد استخدمه المسيح في إنجيل القديس يوحنا للتعبيرعن نفسه: «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11)، وعن عطائه لهذه الحياة. فلأن له هذه الحياة في ذاته، مثل الآب، فهو يُحيي من يشاء مثل الآب (21:5و26). ‏ولأنه نزل من السماء‏، ودخل العالم ملتحماً فيه بتجسده، فقد أعطى العالم هذه ‏الحياة بجسده (37:6), وفوق كل شيء ، فهو يمنح حياته لأخصائه الذين يلتصقون به ويتبعونه من كل قلوبهم (24:5)، وللذين يسمعونه ويدخل صوته إلى أعماق قلوبهم (24:5‏). وبسبب كل هذا العطاء المتعدد الوسائل للحياة، يقول المسيح إنه هو «الحياة» (25:11)، كقوة فعالة مُحيية .
‏ولكن كل هذا العطاء يتركز في تقديمنا إلى الله أبيه من خلال عطائه لهذه الحياة (6:14).
‏أما الوسائل التي استودعها سر الحياة لكي نقربها ونحن في موضعنا على الأرض, دون عناء, فهي تكمن في سر الشكر بكسر الخبز وشرب الكأس بعد البركة (الإفخارستيا) (35:6و48)، وفي سر الماء بالدفن فيه، وكأننا نموت لنحيا ونقوم معه (المعمودية) (5:3‏), وفي سر الكلمة (10:4 و63:6 و68:6), وفي سر الإيمام الحقيقي (38:7‏).
‏أما كُنة هذه الحياة بالمفهوم الإنساني الاخباري، فهي النور الحقيقي, أنا هو نور العالم, ونور الحياة (12:8)، «والحياة كانت نور الناس» (يو4:1)، النور الذي يدخل الإنسان فيضيء كيانه ويفتح وعيه، ليدرك نفسه فيدرك خالقه. يدخل الإنسان في النور، فيدرك الله، ويعيش فى حضرته (1يو:4:1‏)، لأن «الله نور.» (1يو5:1‏)
‏ب _ «والحياة الأبدية» في إنجيل القديس يوحنا هي المقابل «لملكوت الله» في الثلاثة الأناجيل الأخرى. غير ان اسم «ملكوت الله» هوتعبير من تعابير التراث اليهودي، يفهمه اليهود على أساس أن الله كان يملك على إسرائيل على المستوى الفكري الضيق. في إنجيل يوحنا، المسيح يخاطب العالم كله، فالحياة الأبدية بالنسبة له هي الحياة الأفضل والأعلى والدائمة، بالمقارنة مع الحياة الأقل التي يألقها الناس عامة تحت نور الشمس على الأرض، وفي «ظل الله» وليس في نوره، حياة طبيعتها المادة المحسوسة التي تقيم أودها من أكل وشرب وتنفس، يحكمها الزمان والمكان والحرارة والجاذبية، ومجدها الطول والعرض والإرتفاع. الحياة الأبدية ليست كذلك، فهي حياة متحررة من كل ضوابط المادة. فإن كانت الحياة الحاضرة يلزمها عقل الحسيات والمدركات الحسية، فالعقل لا يصلح كأداة لمعرفة الحياة الأبدية. هنا تنبري الروح الواعية بالعقل العالي الواعي، الذي يدرك المطلقات، من نوع طبيعة الحياة الأبدية نفسها؛ هذا العقل يعمل الآن بصورة جزئية، لذلك فالإنسان أعطي له في هذا الزمان إدراك الله والحياة الأبدية إدراكاً جزئياً.
‏وكلمة «االحياة الأبدية» ليست غريبة عن الفكر والتراث اليهوديين، فهي واردة في الأسفار بمفهوم معنى الخلاص، بصيغة مبهمة. ولكي نفرق بين الحياة في العالم والحياة مع الله، أعطي للحياة صفة الديمومة الإلهية «الأبدية». فكلمة «الحياة» وهي مُعرفة وموصوفة بالأبدية، تُعرف وتُقرأ على مستوى الإنسان، أما عل مستوى الله والمسيح، فلا يُقال أنه الحياة الأبدية بل «الحياة», كقوة وليس كاسم, فهو الذي يخلق الحياة ويقيمها، وهذا يتضح من وصف المسيح لكلماته الخارجة من فمه بل من كيانه الإلهي: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6)، لأن «الكلمة» في المفهوم الاعتباري العال، هي تعبير عن الذات والكيان (يو68:6‏).
‏ج- فإذا فهما الحياة الأبدية عل ضوء معنى ملكوت الله، فهي الحياة التي يملك الله عليها بروحه، حيث يحيا الإنسان بقيادة روحه القدوس, وحسب مشيئته، سواء بالفكر أو بالعمل وجعله الغاية لكل شيء. ودخول الإنسان الحياة الأبدية هو كدخوله ملكوت الله، وكأن الإنسان يولد لحياة أعلى، ليس عشوائياً كما يولد الإنسان من بطن أمه, بل بالوعي الجديد لحياة أخرى, حيث عامل الإيمان هو الأساس، فيرتقي الإنسان بأفكاره وأعماله وكل ملكاته، وكأنه خُلق من جديد. وفي الحياة الأبدية, التي يحصل عليها الإنسان, يكون الله قطبها الجاذب وعنصر ديمومتها الفعال، يستمد منه الإنسان صفاته الجديدة، حيث يُقال, عن حق, أن الإنسان يصير شريكاً في الطبيعة الإلهية: «بمعرفة الذق دعانا بالمجد والفضيلة, اللذين بهما قد وُهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية, هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة.» (1بط3:1-4)
وتكون حيازة الحياة الأبدية، هنا، كالعربون، كسبق مذاق، وهناك بالامتلاك والإقامة. لهذا يُقال عن حق أننا نرث ما لله في المسيح يسوع كأبناء بالتبني.
د- إعطاء الحياة الأبدية: هنا يجيء إعطاء الآب السلطان للابن على كل جسد، أي على الخليقة البشرية كلها, ليعطي الحياة الأبدية حسب مشيئة الآب، في هذا الزمان استعلاناً سرياً لماهية «الابن» المتجسد, فهو يمتلك الحياة في ذاته أولاً: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته» (يو26:5). ثم إن له سلطان الله في إعطاء الحياة الأبدية منذ الآن: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي (مستقبلاً) إلى دينونة، بل (الآن) قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)
‏معنى ذلك أن الآب والابن يشتركان معاً في إعطاء الحياة الأبدية، حسب نص الآية: «ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته»؛ المسيح يعطي بالفعل، والآب بالمشيئة والاختيار. ويستحيل فصل الفعل عن المشيئة المتتمة له, ولا المشيئة عن الفعل؛ فالآب «والابن المسيح» يعطيان الحياة الأبدية؛ وبناء على ذلك يتحتم أن تكون الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن معاً، بحيث لو قال المسيح: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك» فقط، لاستحال الأمر, لأن الحياة الأبدية أُعطيت بالابن يسوع المسيح. فبدون الابن يسوع المسيح، لا تكون حياة أبدية للناس. وكما أنه بغياب الحياة الأبدية، تغيب معرفة الله في ذاته، وهي المعرفة المؤدية لخلاص الإنسان، وتنحجب طبيعه الله كآب وابن عن الوعي البشري؛ كذلك فإنه بدخول الحياة الأبدية، تنكشف حقيقة الآب والابن، ويدرك الإنسان سر الله والخلاص.
‏من هذا يتضح حتمية ذكر: «ويسوع المسيح الذى أرسلته» مع «يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك», لأن معرفة الآب والابن هي جوهر الحياة الأبدية، وهي جوهر الإيمان بالتالى؛ هي معرفة ليست بالفكر المجرد، بل بطاقة الحياة الواعية العاملة لحساب الله والحياة الأبدية، كقوة وعي إيماني تقربنا إلى الله، وتحضرنا أمامه.
ه- ولكن ما هي الحياة الأبدية على مستوى الاختبار؟: لكي نعرف ما هي الحياة الأبدية على مستوى الاختبار اليومي، يلزم أن نعرف أولاً الفرق بين الحياة الأرضية التي تنتهي بالموت, وبين الحياة الأبدية التي لا يوجد فيها موت. فالحياة المائتة كلها متغيرات؛ فالفرح المعروف فيها قابل للتغيير وينقلب إلى حزن، والسلام ينقلب إلى قلق واضطراب, والحب ينقلب إلى بغضة وكراهية, والأمل والرجاء إلى يأس وقنوط .
‏أما طبيعة الحياة الأبدية, فكل صفاتها وأحوالها دائمة, غير قابلة للتغيير للضد, بل إلى الأفضل دائماً.
‏والآن، فإن كل مؤمن بالمسيح لا بد وأن يكون قد جاز فترة من فترات الفرح الروحي المبهج، وحمل أثارها في نفسه، يذكرها فتنتعش روحه، سواء كان ذلك على أثر سماع عظة أو قراءة كتاب روحي أو فصل من الإنجيل أو أثناء الصلاة. تلك اللحظات التي لا زالت منطبعة في نفسه وروحه، هي لحظة من لحظات الحياة الأبدية, ومذاقها فوق الطبيعة، وهي كافية أن تعزي الإنسان أثناء مصادماته لتجارب الحياة. ولكن يوجد مؤمنون جازوا فترات أطول، من هذا النوع من الفرح أو السلام أو الغبطة الروحية» حيث صارت لهم مجالاً دائمأ يلوذون به في مواجهة العواصف وزعازع الحياة الأرضية.
‏وما يُقال عن الفرح، يُقال عن السلام الروحي, وكل تذوقات نعم الحياة الأبدية الأخرى التي تطفح على النفس, فتملأها هدوءا وطمأنينة ورجاء وعفة وقداسة وتمجيدا دائماً والتصاقا حاراً بالرب. وهؤلاء الذين يذوقون هذه يختبرون الصلاة بالروح, والسجود بالروح، والتسبيح بالروح، ببهجة تفوق العقل.
هذه هي الحياة الأبدية، وهذا هو سبق مذاقها. وأوضح صفاتها، أن أثرها لا يزول على مدى عمر الإنسان كله, وهي تجعله يسخر من تقلبات الأيام والسنين, وتبقى حصناً أميناً للنفس.
‏هذه هي الحياة الأبدية المبهجة التي سوف نحيا ملئها فوق. هذه هي الحياة الأبدية التي هي عينها الحضرة الإلهية، وهي نفسها تذوق العشرة مع المسيح, بل هي حياة المسيح والآب. لذلك يقول القديس يوحنا، إنه لما ظهرت الحياة الأبدية في شخص يسوع المسيح، والتي كانت مخفية في الله، ورآها في شخصه، وشاهدها بروحه في تعاليمه, ولمسها بقلبه وروحه لمس اليد, صارت له شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (أقرأ 1يو1:1-4)؛ أي أن معرفة الآب وابنه يسوع المسيح، بالاستعلان، هي عينها الحياة الأبدية, وهي عينها الشركة مع الآب والمسيح! بل والإخبار بها يعطي نفس الشركة: «الذي رأيناه وسمعناه, نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا.» (1يو3:1)
«أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته»:
«يعرفوك»: صيغة الفعل هنا استمرارية، فنحن هنا بصدد الحياة الدائمة والأبدية. والمعرفة هنا منصبة على «أنت الإله الحقيقي وحدك» أي الآب؛ و«يسوع المسيح الذي أرسلته» هوا الابن المتكلم عن نفسه ولكن بصيغة الغائب. ومعرفة الله ليست كمعرفة الناس أو الأشياء أو المعارف العالمية. فأداة معرفة الدنيا هي العقل المحسوس العامل بالمخ البشري. وأما معرفة الله، فلا تؤتى بالعقل، بل بالوعي الروحي, وهو العقل أو الذهن العالي المختص بالمطلقات, وهذا يكتسب المعرفة بالاستعلان، أي يُستعلن له الحق، فيدركه. والاستعلان يأتيه من فوق، من خارج الكيان الإنساني، بالخبر الإلهي، أي بالبشارة بأمور الله المفرحة والسارة، سواء بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة أو الرؤيا: « إن كان منكم نبي للرب, فبالرؤيا أستعلن له, في الحلم اكلمه, وأما عبدي موسى، فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فما إلى فم وعياناً أتكلم معه, لا بالألغاز, وشبة الرب يعاين.» (عد6:12-8)
‏والمسيح افتتح عهد الملكوت أو الحياة الأبدية للانسان، على مستوى كلمته: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6). هنا المسيح يُعرفنا بالحياة التي فيه، بواسطة سماع الكلمة وقبولها: «الحق الحق أقول لكم: الحق الحق اقول لكم: إن من يسمع كلامي, ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
‏التعرف على المسيح، هو هو التعرف على الآب, لأن رسالة المسيح هي استعلان الآب الذي فيه، بالكلمة والعمل: «الذي رآني, فقد رأى الآب» (يو9:14)). فالمسيح هو مستعلن الآب. والتعرف على المسيح والآب هو الحياة الأبدية. على أن المعرفة هنا لا يمكن أن تسمى معرفة فكرية أوعقلية, بل معرفة بالا ستعلان، أي كشفت الحقيقة؛ والحقيقة لا تنكشف إلا لمستحقيها، أي تُستعلن للآخذين فقط. فالله يُستعلن، أو يُعرف معرفة حقيقية لأخصائه، أي الذين له، أى الذين امتلكهم وامتلكوه. فالمعرفة للآب والابن هي بعينها شركة مع الآب والابن, كما يُعلن القديس يوحنا: «فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا، ونشهد، ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب، وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه, نخبركم به, كي يكون لكم أيضاً شركة معنا, وأما شركتثا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو2:1-3)
‏واضح هنا أن «الحياة» هي المسيح، و»أظهرت» بالتجسد, وقد اأُستعلنت في المسيح، فعرفوا الآب والابن. وما أدركه القديس يوحنا بالاستعلان المباشر بمعاشرته للمسيح نفسه، ينقله لنا، أي ينقل الاستعلان الذي حصل عليه، ينقله لنا بالخبر، ونحن من هذا الخبر نحصل على الاستعلان كاملاً بالإيمان بصدق الإنجيل. أما القديس يوحنا فبالاستعلان الذي بالإيمان حصل على شركة في المسيح والآب, وهو يدعونا إلى نفس الشركة معه، على مستوى تصديق الإيمان لقبول الاستعلان. هذه هي «معرفة» الآب والابن.
‏كما نلاحظ في هذه ‏الآية (17:3‏) أن «معرفة الآب» تساوي «معرفة يسوع المسيح» في بلوغ الحياة الأبدية. هذا التساوي هو على مستوى الفعل والعمل. هنا ممارسة حقيقية نحصل بها حالياً على الغبطة، التي هي عربون سعادتنا القاد‏مة الدائمة. ولكن ملء معرفة الآب والمسيح مذخوة لنا في الحياة الأخرى، التي هي بعينها ممارسة سعاد‏ة الحياة الأبدية ذاتها.
‏في سفر الرؤيا نجد أن الصفات الأساسية التي بها يُخاطب الله الآب هي نفسها التي يُخاطب بها ويوصف المسيح الممجد. ففي الآية (10:6) نسمع أرواح الشهداء تصرخ لدى الله قائلة: «وصرخوا بصوت عظيم قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض», ثم نجد الوحي يصف المسيح بنفس الصفات: «هذا يقوله القدوس الحق الذي له مفتاح داودى الذي يفتح ولا أحد يُغلق, ويُغلق ولا أحد يفتح.» (رؤ7:3).
«أنت الإله الحقيقي وحدك, ‏ويسوع المسيح الذي أرسلته»: المسيح يوجه الكلام للآب. ولكن كما يوجه المسيح الكلام للأب، نوجه نحن نفس الكلام للمسيح، حيث نقول: «أنت الإله الحقيقي وحدك». لأن صفة الألوهية هي للآب كما للابن، وصفة الحق هي للآب كما للابن, لأن الحق في المفهوم اليهودي ينصب على أمانة الله، واستقامة وصاياه، واستجابته لسؤال الإنسان البار، ووفائه بوعده إذا وعد. ها يظهر الإتجاه الفعلي العملي «للحق». وبالمفهوم الهلليني (أي اليوناني)، فإن الحق هو ما ليس «شبه حق», فهو ليس خيالاً أو كذباً، أي الاتجاه الفكري التصوري. والمسيح هو كذلك بالمفهومين: فهو«الصادق الأمين» (رؤ14:3؛ 11:19). وصفة «الواحدية» هي للآب كما للابن، لأنها صفة الطبيعة والجوهر الإهي أساساً. فالطبيعة الإلهية بسيطة بساطة مطلقة، أي غير غير مركبة، فالإنسان له طبيعة مركبة من جسد ونفس وروح، الله ليس كذلك. فالله روح كُلى مُطلق، لهذا يستحيل معه الثنائية، كما يستحيل فيه التقسيم أو الانقسام. فالله واحد كلي صاف، فالآب واحد، والابن واحد، لأن جوهرهما واحد بسيط غير منقسم قط.
‏من ها نفهم صفة الواحدية لله، أنها صفة جوهرية من وقع طبيعته وليس من جهة عدده؛ فحينما نقول: «الله واحد» فنحن نتعمق طبيعته، لا درءأ لتعدد الآلهة، ولكن وصفاً لحقيقة الله ذاته، على أن «الواحد المطلق» هو بآن واحد «الحق المطلق» وهو هو «الإله الواحد» حتماً.
‏ولكن المسيح جاء ليعلن الآب المحتجب. فمعرفة الآب يستحيل أن تتم بدون المسيح، الذي جاء ليستعلنه، ويستعلنه في ذاته، وفي طبيعته. فذكر المسيح مع الله الآب، هو بقصد التكميل الاستعلاني وليس الإضافة. وكما أن الابن يُمجد الآب، والآب يُمجد الابن، كذلك فالابن يستعلن الآب، والآب يستعلن الابن بالروح الذي أرسله. لذلك، يستحيل معرفة أحدها بدون الآخر. لذلك يقول المسيح ما هو مُعتبر تحصيل حاصل، أن «الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته». وكأنما هو يقول: إن الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن, الله الواحد بذاته.
‏والمسيح لم يقل هذا بصيغة المتكلم، لأن الممطق يمنع القول بأن الإله الحقيقي هو «أنت وأنا»، فقال بصيغة الغائب: «أنت, وهو» حيث مضمون «هو» في المفهوم اليهودي اللاهوتي بحسب الأسفار المقدسة تعني «الإله» في أبغ تعبير سري، هذا إذا جاءت من موقف المتكلم، كما وردت بالعبري مئات المرات في الأسفار المقدسة «أنا هو» الله.
‏وتطبيقاً لما قلناه, نقرأ للقديس يوحنا في رسالته الاولى: «ونحن في الحق, في ابنه يسوع المسيح, هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» (ايو20:5). وواضح هنا أن القديس يوحنا يعطي للمسيح كل الصفات التي لله الآب بلا تفريق، وهذا يعني بصورة جلية أن المسيح يسوع هو الاستعلان الكامل لله الآب الحامل لكل مفاته، الذي فيه وبه يُعرف الله الآب معرفة حقيقية وكاملة, وأن ملء الله الآب الكامل فيه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
4- أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ.
5- وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.

‏الآيتان هنا مترابطتان, وكأنهما شطران لبيت شعر واحد. مضمونه: «أنا مجدتك على الأرض, والآن مجدني أنت في السماء». كان المجد الذي طلبه المسيح في أول صلاته: «مجد ابنك», يختص بتدخل الآب لتكميل باقي المهمة العظمى، وهي الجزء الأكثر إيلاماً وإذلالاً لابن الله في عملية الموت, بكل ما تثمله من العار والهزيمة الصورية.
‏أما المجد الذي يطلبه هنا, فهو مجد الاستحقاق للعمل، وكأنه قد اكمل «الآن» على الأرض وهو على عتبة الانطلاق إلى الآب. إذ لم يعد سبب للبقاء في حالة الإخلاء التي بقي فيها لحين تكميل المهمة العظمى.
‏أما طلب المجد في البداية، فالمسيح قدمه بصيغة الغائب غير المباشرة: «ابنك». ولكن هنا يقدم الطلب بصيغة المتكلم : «أنا», لأن الأول يختص بعلاقة عامة، الابن بالآب. أما في الثاني فيسوع المسيح يتكلم على الأرض بمواجهة في حالة التجسد، وقد أكمل الابن المهمة. ولكن في كلتا الحالتين تظهر العلاقة الوثيقة بين الآب والابن بصورة صارخة.
«أنا مجدتك على الأرض»: الرسالة التاريخية أُكملت, وهي بحكم المنتهية، وجاهزة الآن لتقديم الختام. صحيح أنها في اتضاع العبد، ولكن العبد نجح في اتضاعه الكامل وطاعته المطلقة في تنفيذ المهمة، وأكمل استعلان ‏الآب بالقول والعمل والآية. وهذا قمة التمجيد للاب. فتمجيد الآب تم باستعلان ابوته للمسيح وللانسان في كل العالم. هذا نراه اليوم بعد ألفي سنة بصورة فائقة النجاح، فاكل ينادي الآب: «يا آبانا»‏، بألوف وملايين الأفواه والقلوب، في كل يوم، بل في كل لحظة.
‏أما تمجيد المسيح على الأرض، فقد تم باستعلان بنوته لله، وهذا صار دستور إيمان كل مسيحيي العالم .
‏وأما تمجيده في السماء، فقد حازه بالدرجة الاولى، إذ صار المسيح والآب واحداً في كل إيمان.
‏ومن الآن والى الأبد سيظل تمجيد الله الآب يتم عن طريق تمجيد الابن يسوع المسيح وبه. فبدون الابن، لا يُمجد الآب، لأنه لا يوجد إلا وسيط واحد بين الله والناس، يسوع المسيح، ولأن بدون استعلان الابن (تمجيده) لا يُستعلن الآب (تمجيده). فالتمجيد هو إعلاذ الحق. فهو والاستعلان واحد.
‏«العمل الذي أعطيتني لأعمل, قد أكملته»: «أكملته»، تفيد الكمال أكثر مما تفيد الانتهاء منه، ويتضح ذلك من المقابل اللاتيني consommasi، وقد سبق أذ استخدم الإنجيل نفس اللفظة «أكمل» كمعيار أساسي وضعه المسيح نصب عينيه مذ البداية: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). واللفظتان العربيتان «أكمل», و«أتمم» لا تفيدان صميم المعنى الذي يهدف إلى «الكمال» أي التكميل على مستوى الكمال. فعمل المسيح يفوق معنى الأداء وحسب!!
‏وقول المسيح من العمل ككل أنه قد «أُعطي له»، يفيد أنه يعمل عمل طاعة المشيئة الآبوية. فالعمل لم يختاره المسيح لنفسه، لذلك حُسب بالفعل أنه ذبيحة وفداء، كإسحق تحت يد إبراهيم مربوطاً. وقد سبق المسيح وأوضح هذا مرارا: «لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملهت، هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لى أن الآب قد أرسلني» (يو36:5). لهذا يستعذب النساك والرهبان الطاعة، وبالأخص إذا كانت تحت يد شديدة، للقيام بأعمال شاقة أو حقيرة، إذ تُحسب لدى الضمير الصاحي والنفس الواعية أنها ذبيحة مقبولة لدى الله. ولا يستثقل العمل الحقير إلا الجهال الذين لم تنفتح بصيرتهم بعد على ذبيحة المسيح. ولذلك قيل أيضاً عن موس النبي: «... مفضلاً بالآحرى أن يُذل مع شعب الله، على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن ممصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة.» (عب25:11-26)
«والآن مجدني أنت أيها الآب عنه ذاتك, بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم»: الآن في فم المسيح رفيقة الساعة التي جاء من أجلها، وقد أكمل ذبيحة التاريخ الطوعية التوافقية بحسب مشيئة الآب تماماً وكمالاً، وقد أضمر لنفسه ما أضمر اليهود ضده وكما صمم عدو البشرية لهم، أن يُكمل ذبيحة تواضعه بذبيحة موته, موت الصليب. والآن المسيح يطلب أن يرتفع ابن الإنسان من الأرض إلى السماء، لأن عمل المسيح على الأرض وعمله في السماء وحدة واحدة لا تتجزأ!! والآن، وهو يطلب المجد والبهجة، كختام لعمله المضني على الأرض الذي أكمله في عمق التاريخ الإنساني الحزين، يطلب في الحقيقة تجلي تاريخ الإنسان وبلوغ نهايته المفرحة، وبالتال تجلي الخليقة العتيقة, بعد أن دان عالم الظلمة الذي رفض أن يتبع النور، وطرح رئيسه خارج دائرة التجديد، وقاد عالم الإنسان في النور كخليقة أخرى تماماً، وأدخلها في مجالها الأعلى الاخروي. وهي وإن بدت محصورة نوعا ما في شخصه, إنما كان هو ولا يزال كباكورة وكسابق لأجلنا. فالذين دخلوا معه، ويدخلون كل يوم، هم شهادة مدموغة بالتحول الخفي والسري الذي يتغير به العالم دون ضجيج. وهكذا تم، بالمسيح, القول الأول: «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس.» (يو3:1‏)
«عند ذاتك»: ‏حيث تترجم "عند" أحيانأ «مع». ففي الآية (يو38:8): «أنا أتكلم بما رأيت عنه أبي»، وفي الآية (يو17:14) : «... لأنه ماكث معكم ويكون فيكم». ولكن بالنسبة للمسيح والآب، فمجد الابن ومجد الآب هما المجد الواحد للذات الإلهية. فكلمة «عند ذاتك» تأتي هنا بمعنى الاتصال اللاهوتي المباشر الذي يفيد استعلان الوحدة القائمة بالمجد في الله بين الآب والابن. هنا عودة إلى القول الأول: «وكان الكلمة الله» (يو1:1)، لأن طلب المسيح أن يأخذ المجد الذي كان له عند ذات الآب قبل كون العالم، هو بالنسبة لنا مقارنة استعلانية واضحة بين حالة المسيح الآن في الجسد، وحالته قبل تجسد «الكلمة». الآن في تخل طوعى عن مجده لتأدية مهمة لا تقبل الظهور في المجد، لأنها مهمة تحمل عار الإنسان وذله تحت الخطية والناموس، وقبول هوان الموت كعقوبة عن كل زي جسد. ومن الآن يتطلع المسيح لما كان له قبل التجسد، أي يستعلن لاهوته, لتستعلن وحدته مع الآب, هاتان اللتان لم تفارقاه قط، لا بالروح ولا بالجسد ولا لطرفة عين. ولكن الإخلاء كان على مستوى الإخفاء عن أعين الناس ومدارك الشيطان. والآن يطلب المسيح الاستعلان لما هو له, عند ذات الآب, قبل الخليقة، أمام تلاميذه واليهود والعالم كله، حتى تبلغ رسالة تواضعه وطاعته حتى الموت على الصليب ذروة قوتها وفعلها الفدائي الخلاصي, فالذي تألم وصُلب وقُبر وقام، لم يكن هو ابن الإنسان وحسب، بل هو هو ابن الله الوحيد الواحد مع الآب.
‏وفي قول المسيح: «بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم»، تصريح بلاهوته كحقيقة ينبغي أن يُعترف بها، ففبل كوذ العالم لم يكن إلا الله وحده!
‏هذا الطلب الذي يطلبه المسيح الآن, أي استعلان حقيقة نفسه كابن الله وطبيعته الإلهية, كان قد ألمح إليه سابقاً حينما أعثر فيه تلاميذه لما قال عن أكل جسده وشرب دمه: «فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا، فقال لهم: أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً؟» ‏(يو61:6-62))
‏ويأتي الطلب الأول والطلب الثاني بخصوص المجد, في تطابق بديع مع مجد الآب واستعلان الذات الواحدة التي تتبادل المجد في ذاتها هكذا:
‏أنا مجدتك على الأرض، فمجدني أنت عند ذاتك في السماء.
‏أنا أعلنت حقيقة أبوتك فيّ, أي في ذاتي, للناس, أعلن أنت حقيقة بنوتي فيك, أي في ذاتك.
‏أنا استعلنت حقيقتك في عمق الزمان وفي العالم، استعلن أنت حقيقتي الآن في الأزلية قبل كوذ العالم.
‏والآن، أيها القارىء العزيز، قد يبدو في نظرك أن طلب المسيح المجد لنفسه واستعلان لاهوته ووحدته مع الآب، أمراً هينٍاً وتحصيل حاصل, وكأنه ليس من جديد في الموضوع. ولكن لننبه القارىء أن المسيح الآن يحمل جسد الإنسان ونفسه وروحه وفكره في ذاته، فهو مُثقل بطبيعة عاجزة غريبة كل الغرابة عن طبيعة الله!! فصعوبة هذا الطلب لا تخص المسيح «كابن الله» في ذاته, الذي لم يفارقه مجد اللاهوت؛ ولكن هذا يخص تجسده، أي طبيعة الإنسان الذي فيه، أنت وأنا وكل خاطىء مثلنا!! المسيح بطلبه هذا يطلب استحقاق ما لا يحق، بجراءة منقطعة النظير، تسندها طاعته حتى الموت، أن يكون للانسان الذي فيه ولطبيعته البشرية هذه الشركة في المجد عينه الذي يطلبه كابن الله!! فهذا الطلب هو بحد ذاته أعظم أعمال المسيح التشفعية لحساب الإنسان، باستحقاق ذبيحة طاعته, فهو الذي يحمل إكليل جوهر الفداء والخلاص لبني الإنسان، والذي ينتهي بالمجد!
‏+ «ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المصيح. بالنعمة أنتم مخلصون، وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع» (أف5:2-6‏)
+ «... وتعرفون محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3)
+ «الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده, بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء.» (في21:3)
+ «شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور, الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته. (كو12:1-13)
+ «متى أُظهر المسيح حياتنا، فحيئذ تظهرون أنتم أيضأ معه في المجد» (كو4:3)
+ «ونشهدكم لكي تسلكوا كما يحق لله، الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده.» (1تس12:2)
+ «الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا، لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح» (2تس14:2)
+ «وإله كل نعمة، الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع» (1بط10:5)
+ «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام.» (عب10:2)
+ «إن كا نتألم معه، لكي نتمجد أيضاً معه.» (رو17:8)
‏والآن، ليعلم كل إنسان، أن المسيح ابن الله هو جالس الآن بجسدنا هذا عينه عن يمين الله، ينتظر ذهابنا إليه. والبشرية فيه، بعد أن تمجد بها، صارت هكذا شريكة في مجد الله. هذه هي الخليقة الجديدة والإنسان الجديد.
‏وهذا يتضح بأبلغ بيان في طلب المسيح الذي سوف يقدمه في الآية (24): «أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني, يكونون معي حيث أكون أنا, لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم».
ؤإن كنا سوف نقدم الشرح الوافي لهذه الآية البليغة في محلها، ولكن ما يهمنا هنا في الآية (5‏) التي نحن بصددها، هو: يكونون معي, حيث أكون أنا», فهنا شركة في المجد البنوي لله، ثم «لينظروا مجدي» ليس بنظر العين، بل بشركة الرؤيا والإدراك والمعرفة الإلهية الفائقة, ثم «الذي أعطيتني» تفيد بكل وضوح المجد الإضافي الذي حازه المسيح «كابن الإنسان» لحساب الإنسان.
‏وقد ألمح المسيح لهذه الشركة القائمة في المجد الفائق عن الزمن والرؤية العينية الآن، عند قوله لبطرس: «حيث أذهب، لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً» (يو36:13). وأخيراً، هذه الشركة تفيد الأخروية (الإسكاتولوجيا) والتي جازها بطرس على الأرض وقت الشهادة تحت حد السيف، وكما رآها إستفانوس وهو تحت رجم الحجارة: «وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلىء من الروح القدس، فرأى مجد الله، ويسوع قائماً عن يمين الله. فقال: ها أنا أنظر السموات مفتوحة, وابن الإنسان قائما عن يمين الله.» (أع55:6-56)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
القسم الثاني: فيما يخص التلاميذ
(يو6:17-19)
‏وتتركز الصلاة في استعلان الآب للتلاميذ:
1- كيف استعلن الآب، وكيف قبلوه: (6-8).
2- كيف كان يحفظ التلاميذ، وقد حان وقت تركهم: (9-11).
3- العمل السابق، والعمل اللاحق: (12-13).
4- محنة التلاميذ في العالم: (14-15).
5- المسألة المطلوبة من أجلهم: (16-19).
‏بعد أن أفرغ المسيح ما في قلبه علنا، فيما يخص نفسه، لدى الله أبيه وأمام تلاميذه، اتجه بطلبه من أجل تلاميذه.
‏ويلاحظ أن عمل المسيح الذي أكمله على الأرض في حدوده الضيقة كان يشمل في الحقيقة الوعد بالتكميل الأعظم، في حدوده اللانهائية في السماء لدى ارتفاعه وعودته إلى الآب.
‏ونحن نجد في سؤاله الآب من أجل نفسه: «مجدني» اتجاهاً سرياً ولكن ملحوظاً نحو التلاميذ، فالمجد الذي يطلب هو يخص التلاميذ والإنسان عموماً. والآن من داخل سؤاله المجد لنفسه يسأل من أجل تلاميذه أن: «احفظهم», و«قدسهم». وأن المجد الذق يلح عليه من أجل نفسه والآب إنما يتجه في الواقع وضمناً إلى تكميل خلاص التلاميذ والعالم الذى بدأ بتجسده. والآن هو يطلب له الكمال .

1- كيف استعلن الآب وكيف قبلوه:
6- «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي وَقَدْ حَفِظُوا كلاَمَكَ.
‏المسيح يقدم تلاميذه على ثلا ثة مستويات:
‏الاول: علاقتهم بالمسيح: «أنا أظهرت اسمك للناس».
الثاني: علاقتهم بالآب: «كانوا لك».
‏الثالث: من واقع حالهم: «‏قد حفظوا كلامك».
وكل مستوى من هذه المستويات جعله المسيح سبب سؤال وطلبة، والثلاثة معاً يكونون الصورة المتكاملة للتلمذة الصحيحة التي يودها لهم ويعمل من أجلها.
«أنا أظهرت اسمك للناس»: «أنا أظهرت اسمك» تأتي موازية ومتساوية لقوله: « أنا مجدتك» (عدد4)، والاثنان يقعان تحت بند الاستعلان. فقد أكمل المسيح استعلان الله «كآب» له وللآخرين؛ له بنوع الخصوصية، وللآخرين بالنعمة المقدرة بتوسطه، وذلك بكل إصرار وتكرار، ليس في قوله وعمله فحسب بل وبحياته. وقد وضح أن هذا الاستعلان كان جديداً بالفعل على الذهن اليهودي، بالرغم من ادعائهم البنوية لله. وكم هو واضح في قول إشعياء النبي وهو يصف المسيح: «وأنا الرب إلهك، مُزعج البحر فتعج لججه، رب الجنود اسمه. وقد جعلت أقوالى في فمك، وبظل يدي سترتك، لغرس السموات، وتأسيس الأرض، ولتقول لصهيون: أنت شعبي.» (إش15:51-16)
‏بثلاثة أمورو أظهر المسيح اسم الآب:
الأول: بكونه هو الابن الذي أطاع الآب حتى الموت, لأنه باستعلان بنوته الخاصة الجوهرية لله، أظهر وأعلن أبوة الله.
الثانى: بإعطاء تعاليم الآب وكلماته تحت اسم الآب: «أنا هو.»
الثالث: بصنح القوات والآيات التي تعلن عن الآب الحال فيه. وكل نور أدخله المسيح إلى عالم الإنسان بإعلان الحق وممارسة الحب كان في الحقيقة هو بهاء أو شعاع مجد الآب، ورسم أو صورة لجوهره.
‏ولكن ليس الكل قبل هذا الاستعلان، فالاستعلان أُعطي تماماً، ولكن الذين انفتحت أعينهم وقبلوا حقيقة رسالة المسيح كابن، هم هؤلاء الذين عبر عنهم المسيح: «للناس الذين أعطيتني». فالاستعلان العام لابوة الله، قبله الناس، إنما على مستوى التلاميذ أولاً، الزين اجتذبهم الآب، كعينة نموذجية وخميرة، حسب قوله السابق: «لا يقدر أحد أن يقبل إلي، إن لم يجتذبه الآب» (يو44:6)، «لا يقدر أحد أن يأتي إلي، إن لم يُعط من أبي» (يو65:6) والحقيقة أن الذي يجتذبه الآب، يجتذبه الابن بالضرورة: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلي الجميع» (يو32:12‏). والمسيح يختار أيضاً: «ليس أنتم اخترقوني، بل أنا اخترتكم ‏وأقمتكم... » (يو16:15). ولكن على الناس أن يطيعوا هذا الاختيار، أو يرفضوه كيهوذا، ليصيروا عبرة للرافضين. ولكن كان عمل المسيح العام، هو إظهار اسم الله الآب لشعب إسرائيل أولاً: «أخبر باسمك إختوتي. في وسط الجماعة أسبحك.» (مز22:22)
«من العالم»: تفيد أن الله اختارهم وأخرجهم من حيازة العالم: «ولكن لما سر الله، الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه في لابشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحماً ودماً، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطقلت إلى العربية» (غل15:1-17). هنا في هذا الوصف للدعوة يتضح كيف يدعو الله الذين له، حيث يكمن في هذا الكلام المعنى المتسع والعميق لقول المسيح: «كانوا لك». فدعوة بولس الرسول كان يقف خلفها علاقة مع الله ذات أبعاد لا يعرف مداها إلا الله وحده، أي أن بولس كان لله أولاً، ثم أعطاه الله للمسيح، فصار بولس للمسيح. وهكذا وراء كل إنسان دعاه الله إلى ابنه، قصة وحكاية ذات أبعاد غائرة في القلب والضمير والوجدان بين الإنسان ولله، قصة حق مستعلن، وحب طاغ، ومشاعر قلقة وملتهبة قادها الله إلى ملكوت ابن محبته
«كانوا لك, وأعطيتهم لى»: ‏كان التلاميذ يمثلون في الحقيقة الشعب المختار، وبسلوكهم تجاه المسيح كانوا «إسرائيليين حقاً ‏لا غش فيهم»، وأثبتوا بذلك أنهم «خاصة لله» يهوه، وبذلك اعتبرهم المسيح أنهم كانوا يتبعون, بإيمانهم الإسرائيلي، الله الذي جاء المسيح ليستعلنه الآن كآب. وبإيمانهم بالمسيح، وضح أن الآب سلمهم للابن ليكمل خلاصهم وفداءهم.
‏«وأعطيتهم لي»: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية... أبي الذي أعطاني إياها» (يو27:10-29). «الذين أعطيتني حفظتهم, ولم يهلك منهم أحد» (يو12:17‏). هنا، يتضح أن عمل الآب في اجتذاب النفوس يسبق عمل الابن, وهذا حتمي. والإنسان يعرف أولآ الله، وحينما يخلص الإنسان في عبادته لله، يكشف له الله عن طريق الخلاص ويعرفه بابنه: «وكانت نبية حنة بنت فنؤئيل من سبط أشير, وهي متقدمة في أيام كثيرة، قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها. وهي أرملة نحو أربع وثمانين سنة، لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً، فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم» (لو36:2-38‏)؛ «وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان. وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل. والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب، فأتى بالروح إلى الهيكل, وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس، أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك، بسلام, لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب.» (لو25:2-31).
حنة النبية وسمعان الشيخ كانا لله، وأخلصا جداً في إيمانهما بالله، فشاء الله أن يكلل إيمانهما بإلإيمان بالمسيح.
‏واضح أن العمل يبدأ بالأب, وينتهي بالابن عبر الروح القدس، ليستقر الثالوث في قلب الإنسان. واختيار التلاميذ وكل المؤمنين الذين لم يكونوا يعرفون إلا الله, كان على أساس أن أرواحهم كانت ملتهبة فيهم مُسبقاً. ونحن نقرأ في بداية إنجيل يوحنا، كيف كان التلاميذ يبحثون عن الخلاص بكل قلوبهم: «وجدنا (المسيا) الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء.» (يو45:1)
« حفظوا كلامك»: الترجمة العربية هنا تجاوزت المعنى، فالصحيح هو: «حفظوا "كلمتك" اللوغس». فالمعنى هنا عميق، ويفيد أنهم استعلنوا كلمة الله التى هى المسيح، باعتباره جوهر التوراة، وبذلك كرموا كلمة الله في شخصه، و«حفظوها»، بمعنى أدركوا سرها؛ فسهروا عليه وأبقوه في كنز قلوبهم، وهكذا أبقوا الآب والحق في معرفتهم!
‏هذا المعنى شرحه المسيح سابقاً: «‏إنه مكتوب فى الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله، فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إليّ» (يو45:6)‏. هنا «سمع من الآب» تكشف عن انفتح على صوت الله وقبل سر الكلمة.
‏وهما يطيب لنا أن نكشف عن القوة المستترة فى قول المسيح هذا، فحفظ كلمة الله هو هو التلمذة الحقيقية لله والمسيح، وهو يعني السهر على الإنجيل بقديم أسفاره وجديدها، لاجتلاء كنوزه وبركاته المذخرة لنا: «طوبى للانسان الذى يسمع لى ساهراً كل يوم... لأنه من يجدنى يجد الحياة وينال رضى من الرب» ‏(أم34:8-35). وما من قديس أو واعظ مُلهم إلا وكان السهر على الإنجيل والكلمة طعامه وشرابه وفرحه وعزاءه.
‏وكلمة يحفظ الكلمة في إنجيل يوحنا ورؤياه تعني السهر عليها، يقابلها في الإنجليزية watch ‏ وليس guard، أي «يسهر» وليس «يحرس»، فعكس «يسهر» على الكلمة هو «يرفضها ويزدري بها ولا يعتبرها»، أما عكس «‏يحفظها» بمعنى «يحرسها» هو أنها تسقط منه وتضيع. ومن هذا نفهم أن حفظ الكلمة بمعنى السهر عليها هو قبولها قبولاً شهياً : « وجد كلامك فأكلته. فكان كلامك لى للفرح، ولبهجة قلبى، لأنى دٌعيت باسمك، يا رب إله الجنود.» (إر16:15)
والمزمور حينما يقول: «أما الآن فحفظت قولك (كلامك، اللوغس)» (مز67:119)، فهو يعني: «أدخرته لنفي دُخراً». فالمسيح يشبه الملكوت بإنسان باع كل ما عنده واشترى اللؤلؤة الكثيرة الثمن وحفظها (مت46:13)، وكذلك بالذي وجد الكنز في حقل، ومن فرحه باع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل (مت44:13‏). هذه الأمثلة كلها تدور حول قيمة كلمة الخلاص، أي الإنجيل، بالنسبة للحياة. فاللؤلؤة والكنز هما كلام الله، في تعبير المسيح، وقد أعطى المسيح لذلك مثلاً أقوى وضوحاً في مثل الزارع: «الذي في الأرض الجيدة هو الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح، ويثمرون بالصبر... فانظروا كيف تسمعون» (لو15:8و18)
‏لذلك فقول المسيح عن التلاميذ أنهم «حفطوا كلامك» هو الإعلان عن سر التلمذة الصادق والوحيد، وهو سر التقدم أيضاً والنمو والانفتاح. ولعل أقوى قيمة لمفهوم حفظ الكلمة عند المسيح، جاء في قوله: «الحق الحق أقول لكم، إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يرى الموت إلى الأبد» (يو51:8). وهكذا أصبح حفظ كلام المسيح في القلب، هو بذرة الحياة الأبدية التي تحول قلب الإنسان إلى ملكوت الله.
‏وإن أنسى فلن أنس في حياتي ما قراته عن السائح الروسي، لما أشعل أخوه الأكبر النار في كوخهم الوحيد، بعد أن سرق مدخوات أبيهم ليخفي فعلته الشنعاء، وفر هارباً، وكان السائح الروسي راقداً مع زوجته في الدور الأعلى، فدلى زوجته من النافذة وقفز وراءها، وذهبا كلاها يسيران في الشارع خالي الوفاض من كل ها امتلكاه، إلا الإنجيل في نسخة مخطوطة جلسا على قارعة الطريق يقرآن فيه؛ فأخذت زوجته تبكيه فسألها: لماذا تبكين يا أختي؟ فقالت له: كلام الإنجيل يا أخي حلو يعزيني عن كل ما فقدت!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
7- وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ.

هنا يشرح المسيح معنى أو ثمرة حفظهم لكلمة الآب، أو معنى سهرهم على تعاليم المسيح وفهمهم لسر الآب المتكلم فيه والعامل الأعمال. فالكلمة أضاءت بصيرتهم وآلهمت قلوبهم، وفتحت أعينهم، وأدخلتهم في نور الحق والحياة، وحكمتهم بكل حكمة.
«علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك»: إذا أردنا أن نترجم هذا القول إلى أبسط معنى، فهو أن التلاميذ أدركوا أني جئت لأستعلنك قولاً وفعلاً وعملاً وحياة!!
«الآن»: إن وضع هذا الظرف الزماني «الآن» هنا في هذه الآية خطير. فهو تعبير صادق عن وقفة أمام الموت! وبهذا يصبح معنى اكتمال معرفتهم بأن كل ما للمسيح هو من عند الآب, يعني أنهم بلغوا إلى حد الصلة التي تربطهم وسوف تربطهم إلى الأبد بالمسيح, لا كإنسان بعد، لأنه هو بحد ذاته استعلان الآب؛ فإزاء الموت الذي كان كفيلاً سابقاً أن يفك بل أن يقطع كل رباط بين الإنسان والإنسان, «الأن» لن يجرؤ الموت أن يصنع هذا مع المسيح بالنسبة لتلاميذه!! لذلك, فهو يدخل إلى محنة الموت واثقاً من متانة الرباط، الذي لن تفصم عرى العلاقة التي تربطهم به!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
7- وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ.

هنا يشرح المسيح معنى أو ثمرة حفظهم لكلمة الآب، أو معنى سهرهم على تعاليم المسيح وفهمهم لسر الآب المتكلم فيه والعامل الأعمال. فالكلمة أضاءت بصيرتهم وآلهمت قلوبهم، وفتحت أعينهم، وأدخلتهم في نور الحق والحياة، وحكمتهم بكل حكمة.
«علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك»: إذا أردنا أن نترجم هذا القول إلى أبسط معنى، فهو أن التلاميذ أدركوا أني جئت لأستعلنك قولاً وفعلاً وعملاً وحياة!!
«الآن»: إن وضع هذا الظرف الزماني «الآن» هنا في هذه الآية خطير. فهو تعبير صادق عن وقفة أمام الموت! وبهذا يصبح معنى اكتمال معرفتهم بأن كل ما للمسيح هو من عند الآب, يعني أنهم بلغوا إلى حد الصلة التي تربطهم وسوف تربطهم إلى الأبد بالمسيح, لا كإنسان بعد، لأنه هو بحد ذاته استعلان الآب؛ فإزاء الموت الذي كان كفيلاً سابقاً أن يفك بل أن يقطع كل رباط بين الإنسان والإنسان, «الأن» لن يجرؤ الموت أن يصنع هذا مع المسيح بالنسبة لتلاميذه!! لذلك, فهو يدخل إلى محنة الموت واثقاً من متانة الرباط، الذي لن تفصم عرى العلاقة التي تربطهم به!!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
8- لأَنَّ الْكلاَمَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي.

‏المسيح يصعد بالدرجات نفسها التي صعدها التلاميذ، موضحاً أولأ أن حفظهم كلمة الآب المُعلنة بالمسيح وفيه، هو الذي أوصلهم إلى معرفة أن كل ما للمسيح هو من الآب، ثم يرتقي إلى درجة اليقينية التي بلغوها، موضحا أن سرها كان في أن المسيح سلمهم تلسيما وأعطاهم عطاء كل ما استلمه وكل ما أعطاه له الآب، وكان قبولهم للكلمة هو سر يقينهم بكل هذا. وهذا في الحقيقة أحد الأسرار المخفية في الإنجيل بخصوص كلمة الله أو وصيته وأوامره، فإنه بمجرد قبولها بالإيمان على أساس تصديق الله تصديقاً مطلقا لا يقبل افتراض الشك ولا يطلب البرهان, ولا يعتمد على المشاعر والعواطف المخادعة، بل تصديقاً قلبيا دون تدخل العقل الفاحص, فإن الكلمة، أو الآية أو الوصية أو الأمر الإلهي، يتحول في القلب إلى قوة تنفيذ!! فكلام الله ووصاياه، مهما بلغت في مظهرها الخارجي أنها صعبة التنفيذ أو حتى بلغت حد الاستحالة لدى العقل، فإنه بمجرد قبوها بالتصديق الكامل، تبدأ قوتها الكامنة تعمل في الحال. فكلام الله يحمل قوة تفيذه في داخله لدى الذين يؤمنون بصدق الله وأمانة وعده.
‏وعليك أيها القارىء أن تلحظ ذلك في ترتيب الأفعال التي جاءت في هذه الآية:
‏أعطيتهم الكلام، وهم قبلوا (بالإيمان)، وعلموا، يقيناً، وآمنوا باليقين، وبالنهاية بلغوا الإدراك الكلي الواثق بالمسيح ورسالته أنه خرج من عند الآب، كخروج الشعاع من مصدر النور، وأن الآب أرسله لتكميل الفداء والتقديس. هكذا يتحول القبول بالتصديق إلى علم, ثم إلى يقين, ثم إلى إيمان واثق, فاستعلان للحق. أي من علم إلى خبرة حية وشركة!! وعلى هذه الخبرة الحية والشركة الفعلية تأسست كنيسة الله التي نحيا خبرتها وإيمانها الحي اليوم. ولكن تبقى الحقيقة الاولى والأعظم أهمية «قبلوا»: «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله.» ‏(يو12:1)
«علموا يقيناً»: هنا الترجة العربية جاءت بتصرف، فهي «علموا حقاً وبالحقيقة». فالعلم بالحق، هو أكثر من اليقين. لأن الإنسان قد يتيقن من العلم بالشيء، ولكن يظهر ان يقينه جاء غير صحيح. ولكن إن كان العلم هو عن حق, أو باكتشاف الحق، فهو الاستعلان الإلهي، لأن الحق هو الله؛ وهذا العلم بالحق لا يقبل الزيف على وجه الإطلاق. على أن قبول العلم بالحق لا يأتي بالفهم والملاحظة أو المنطق والقياس, ولكن قبول الحق يأتي بالخضوع والطاعة المذعنة تحت سلطان كلمة الله! وهذا يُنشىء، ليس مجرد إيمان أعمى بالعقيدة، بل إيماناً يسنده استعلان الحق, إيماناً منفتحاً على الله. فالإيمان الحقيقي هو حياة وسلوك في نور معرفة الله, والإيمان الحقيقي يظل حياً بالكلمة يستمد نموه من سرها بلا انقطاع.
«أني خرجت من عندك, وآمنوا أنك أنت أرسلتني»: «أني خرجت من عندك» هي نفسها «أنك أرسلتني»؛ ولكن الأول هو فعل الابن والثاني هو فعل الآب. الأول يفيد عملية التجد، والثاني يفيد عملية الصليب ومهمة الفداء.
‏والمسيح سوف يبني على هذا المعنى قوله فيما بعد: «إني لست من هذا العالم»، وسوف يبني عليه إيمان التلاميذ بأنه خرج من عند الآب، وأن الآب أرسله، وأنهم أيضاً أصبحوا ليسوا من هذا العالم، باعتبار أن إيمانهم بهذا يفصلهم عن العالم ويضمهم إلى الابن الذي خرج والآب الذي آرسله!! إذ تصبح حياة التلاميذ مستمدة من الله كأصل وجودهم وليست مستمدة من العالم!!
‏والعالم رفض المسيح وذبحه، وبذلك أثبت أن المسيح ليس منه، وكذلك التلاميذ، فقد رفضهم العالم بشدة وقتلهم، وأثبت أنهم ليسوا من العالم (يو18:15-21). ويعلق على ذلك القديس يوحنا في رسالته الاولى بقوله: «لا تتعجبوا يا إخوتي، إن كان العالم يبغضكم» (1يو13:3). «هم من العالم، من أجل ذلك يتكلمون من العالم، والعالم يسمع لهم. نحن من الله، فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لا يسمع لنا.» (1يو5:4-6‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- كيف كان يحفظ التلاميذ, وقد حان وقت تركهم
9- مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ.
«أنا أسأل»: تأتي بمعنى «أصلي»، وهكذا ترجمت بالإنجليزية: I pray, وهو نوع رفيع من السؤال. وهذا الاصطلاح، وان كان شائعاً في العهد الجديد في معاملة الناس في التخاطب معاً وليس للصلاة، إلا أن القديس يوحنا قد اختص به فقط دون جيع الأسفار، في مخاطبة الله. فهو سؤال يُقدم كطلب، بدالة، ولم يستخدمه إلا المسيح في مخاطبة الآب.
‏هنا السيح يفرق بين الذين لله وبين الذين عليه. فالذين كانوا لله الآب وأعطاهم للمسيح الابن، هؤلاء الذين «قبلوا» كباكورة لجميع الذين «يقبلون» الابن حتى نهاية الدهور، هم الأعمدة التي ستقوم عليها الكنيسة وتبقى وتدوم.
‏المسيح هنا يطابق الصوت القائل لإرميا النبي: «وأنت فلا تصلى لأجل هذا الشعب، ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة، ولا تلح علي لأني لا أسمعك» (إر16:7). والسبب قاله المسيح، ردا على سؤالهم: «إلى متى تعلق أنفسا؟ إن كنت أنت المسيح، فقل لنا جهرا؟ أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون... لأنكم لستم من خرافي» (يو24:10-26)، وأيضاً: «لو كان الله أباكم، لكنتم تحبونني، لأني خرجت من قبل الله وأتيت؛ لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني. لماذا لا تفهمون كلامي، لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولة (= كلمتي «لوغس»). أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا.» (يو42:8-44)
‏أما من جهة محبة الله للعالم ومحبة المسيح له، والتي كلفته ذبيحة نفسه على الصليب من أجل كل العالم، فهي قائمة لا تثتنيها الصلاة ولا تتغاضى عنها، فذبيحته نفسها هي أعظم صلاة قُدمت لخلاص كل العالم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1). ولكن المسيح يصلى هنا خاصة من أجل الذين سيتركهم في العالم، العتيد أن يضطهدهم ويقتلهم أيضاً!
‏فالعالم المحبوب من الله سيرد الحب إيماناً، والذين لا يؤمنون سيُخرجون أنفسهم بأنفسهم من دائرة حب الآب وذبيحة الابن. المسيح أمرنا أن نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا ونصلي من أجل الذين يسيئون إلينا ويطردوننا، لأنه بذلك يُستعلن فينا حب المسيح، وتُستعلن ذبيحة صليبه، ويتجلى الفداء والبذل. فإذا رأى ذلك الأعداء يؤمنون، واذا لم يؤمنوا ربحنا نحن أنفسنا.
‏والمسيح هنا يسأل ويصلي من أجل الذين سيقعون فريسة اضطهاد العالم الذي استثنى نفسه من إيمان المسيح وحب الآب؟ فمن أجل هؤلاء، هو لا يسأل، لأنهم أوقعوا أنفسهم تحت دينونة وليس تحت تشفع صلاته: «الآن دينونة هذا العالم.» (يو31:12)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
10- وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ.

‏هذا مو المعيار الجديد الذي يضع الآب والابن على مستوى واحد يقوم على أساس تبعية أو ملكية التلاميذ، أي المؤمنين فرادى أو ككنيسة. فالتلاميذ، وكذلك المؤمنون, يُعتبرون تابعين لله الآب، بقدر ما هم تابعون للمسيح. وبمعنى أعمق، يعتبر الإيمان بالمسيح تأكيداً لتبعية المؤمن لله الآب. وكذلك، فإن المؤمن بالله، يصير إيمانه حقيقة مؤكدة، إن كان يؤمن بالمسيح ويتبعه، ذلك لأن استعلان حقيقة الله هي كائنة بصورة فريدة في المسيح يسوع الابن المتجسد.
‏فالآن، ها هو المسيح بنفسه واقف يسأل الآب ويصلي من أجل تلاميذه, أليس ذلك تأكيدا لصدق تبعيتهم لله والمسيح، وعلى أنهم يستمدون من الله والمسيح حياتهم ووجودهم، وليس من العالم؟! وهذا هو سر صلاة المسيح لأجل تلاميذه، والمؤمنين، والكنيسة ككل، التي باستمداد حياتها ووجودها من الآب والمسيح، أصبحت ليست من هذا العالم، وبالتال فإنها أصبحت في حاجة شديدة, بل وتستحق كل استحقاق, أن يسأل المسيح الآب من أجلها، ولو أن الآب نفسه يحب كل من أحب الاب، فهو لا يحتاج بعد أن يسأله المسيح من أجلها.
‏ولكن في قول المسيح: «وكل ما هو لك فهو لى»، نقلة سرية إلى التعريف به، أي بشخصه، أكثر من التعريف بمن هو له. فقول المسيح: «كل ما لي فهو لك»، يمكن أن يقوله كل واحد. ولكن قوله لله الآب: «وكل ما لك فهو لي»، هو قول لا يجرؤ عليه ملاك ولا إنسان، كان من كان، أو أي مخلوق، غير الابن الذي له ما للآب وهو واحد معه. هذا يحققه لنا سفر الرؤيا، بأن يعطي للمسيح ما للآب تماماً هكذا:
+ «قائلين بصوت عظيم: مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة, والغنى, والحكمة, والقوة, والكرامة, والمجد, والبركة.» (رؤ12:5)
‏ثم يعود سفر الرؤيا ويعطي لله الجالس على العرش هذه السبعة العظائم هكذا:
+ «وخروا أمام العرش على وجوههم، وسجدوا لله قائلين: أمين. البركة, والمجد, والحكمة, والشكر, والكرامة, والقدرة, والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين. أمين.» (رؤ11:7-12)
‏لذلك, فقول المسيح بعد ذلك: «وأنا ممجد فيهم» واقع في دائرة ما للآب حتماً وبالضرورة. فإن كان المسيح ممجداً فينا، فهو بالتالي تمجيد للآب. فالمسيح هنا يقدم للآب واحداً من أعظم نجاحاته أكمله لحساب الله: أن صار الإنسان البائس العاجز مصدر تمجيد لله على مستوى استعلان حقيقة الآب والابن. وإن كان يبدو هذا أنه لحساب الله شكلاً, فالحقيقة هي أن الإنسان هو الذي فاز بهذه الرتبة العليا: أن يعطي المجد لله، ويلهج بتسبيح الآب وحب الابن.
‏وإنها لحقيقة جديرة بالتعريف والتأكيد، أنه ليس في جيع أعمال الإنسان وأقواله أعظم وأجل من أن يمجد الله ويسبح بمجده. فالتسبيح بمجد الله، هو عمل الملائكة، واكليل الأرواح البارة المكللة في السماء، التي لا تكف عن تقديس الاسم المبارك وتقديم الشكر والسجود المتواصل والمجد الدائم. يعرف هذا الذين يحبون التسبيح ويتقنون السهر فيه, ويعترفون بما حصلوه من بركات، وتحصلوا عليه من قربى ورؤيا وسماع!
«وأنا ممجد فيهم»: مرة أخرى يلزم أن نفهم أن تمجيد المسيح يعني «استعلان حقيقة» بنوته لله وطبيعته وصفاته وأعماله, والآن، قد أصبح المسيح مُستعلنا بكل صفاته في تلاميذه، بكل يقين الإيمان أنه ابن الله الآتي إلى العالم، وهو هكذا في الحقيقة: «وأنا ممجد فيهم»، حيث انطبعت فيهم صفاته، وذلك إلى الدرجة التي إن أردت فيها أذ تعرف من هو المسيح، فتأمل في حياة التلاميذ وسيرتهم وأعمالهم وكلامهم، فستعرف من هو المسيح حقاً. فالاستعلان بالنسبة للحقائق الإلهية هو شركة فيها، لذلك فالتمجيد والدوام فيه، هو الإرتفاع بالسيرة الذاتية من الأرض إلى السماء: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات» (في20:3). لذلك، فالتسبيح بمجد الله والمسيح هو دخول سرى في ذلك المجد.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
11- وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ.

«ولست أنا بعد في العالم»: هنا علة هذه الصلاة بمجملها، فلولا أنه قد أكمل رحلته، ووجه وجهه شطر السماء لما صلى من أجلهم، إذ كان يكفيهم أنه معهم. ولكن الأن وقد حان الوقت أن يتركهم وحدهم ليدخل في عمله الأعلى طبيعةً وشأناً، وهو أن يتراءى أمام الآب متشفعأ عنهم؛ لذلك وقف يمارس مقدماً عينة منظورة من عمله غير المنظور والدائم إلى مدى الدهور، عن الذين له، طالما بقوا وحدهم في هذا العالم.
«وأنا آتي إليك»: ‏الفعل «آتي» في المضارع الدائم، والمقابلة بين حالات المسيح الثلاث التي فيها يوصف المسيح ‏أنه «آت»، تحتاج إلى تأمل:
1- «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم.» (يو27:11)
2- «وأنا آتي إليك أيها الآب القدوس.» (يو11:17)
3- «آتي أيضاً وآخذكم إلي.» (يو3:14)
‏وكأن الزمن ملغى، فهو آت باستمرار إلى العالم، وآت إلى الآب وآت إلينا ليأخدنا! ولكن لكل حالة فعلها الخاص بها، وكل حالة مترتبة عل ما قبلها، وهي تبدو وكأنها جديدة، مع أنها ليست بجديدة. فالزمن وحده يتغير عندنا، أما عنده هو فلا يتغير: «بعد قليل لا تبصروني ثم بعد قليل أيضاً ترونني» (يو16:16)، «ولست أنا بعد في العالم»، و«لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم» (يو18:14)، «وأنا آتي إليك»، «وأنا لست وحدي لأن الآب معي.» (يو32:16)
‏تأمل في ذلك بولس الرسول فقال:
+ «وأنت يا رب (يعني المسيح الذي مُسح بزيت البهجة أكثر من رفقائه)، في البدء أسست الأرض، والسموات هي عمل يديك, هي تبيد، ولكن أنت تبقى. وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير, ولكن أنت أنت، وسنوك لن تفنى.» (عب10:1-12)
‏وأيضاً: «يسوع المسيح هو هو، أمساً واليوم وإلى الأبد.» (عب8:13)
ففي الظاهر الزمي، سيتركهم المسيح وحدهم؛ ولكن في الحقيقة، فإن ذهابه للآب هو دخوله في نطاق القوة الأكثر فعالية، وهذا يزيد من قربه إليهم، تماما كما سبق وقال عن نفسه: «وتتركوني وحدي، وأنا لست وحدي، لأن الآب معي.» (يو32:16)
‏ولكن الحقيقة الأشد عزاء، هو أنه طالما كان معهم على الأرض، فقد كانوا منه على بعد! ولكن لما تركهم وحدهم ذاهبأ إلى الآب، أصبح وهو في السماء متحداً بهم وهم به متحدون، وعن قرب. لذلك كان يقول لهم مراراً: «إنه خير لكم أن أنطلق» (يو7:16)!! ولذلك عينه قال لتوما: «لأنك رأيتي يا توما، آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو29:20). هذه الطوبى، هي الاتحاد عينه بالروح. أما إيمان العيان، فلا يزال يحتاج إلى الطوبى!!
‏والرؤيا العينية لا تفيد الإيمان شيئاً: «وأما الأن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي.» (يو24:15), والعيان لا يسُعف اللحاق بالمسيح: «لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكك ستتبعني أخيراً» (36:13)
‏ولكن عدم رؤياه، رؤيا العين، لا يمنع أن يرانا هو: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم» (يو22:16) فنمتلء به خباً وفرحاً. «الذي وان لم تروه، تحبونه. ذلك، وإذ كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.» (ابط8:1)
«أيها الآب القدوس»: بعد أن أوضح المسيح أن تلاميذه سيُتركون وحدهم في العالم، وأنه آت إلى الآب، يصبح دور الآب وارداً بصورة ملحة؛ وبسبب أن العالم قوة معادية للايمان ومركز تجارب، يكون الالتجاء إلى «قداسة» الآب أمراً حتمياً. فالنداء هنا من واقح الحال, وليس مجرد تسمية.
‏التجاء المسيح إلى «قداسة» الآب، هو بحد ذاته, يكشف عن خطورة وضع التلاميذ في غيابه بالنسبة لإمكانية ابتلاع العالم لهم. هنا تبلغ الصلاة ذروة توسلها الواقعي. فـ «قداسة» الآب هي حصن الذين في العاصف تجاه قدرة العالم على ابتلاع الضمائر الجزعة والواقعين تحت التهديد والوعيد والخوف أو الإغراء والترغيب.
‏هنا يبدو واضحاً, لماذا علمنا المسيح أن نخاطب الآب طالبين أن: «يتقدس اسمك». فهنا اللهفة في طلب تقديس اسم الآب، من حال واقعنا المهدد كل يوم ولحظة في العالم؛ فالشر محيط، والجذب عنيف, والإغراء ملبس بقوة شيطانية. فالالتجاء إلى اسم الله القدوس ليتقدس في حياتنا وأفكارنا وعيوننا وقلوبنا وضمائرنا، هو قوة غالبة وحصن منيع: ‏«اسم الرب برج حصين, يركض إليه الصديق و يتمنع.» (أم10:18)
‏وسوف تُكمل هذه الطلبة بالآية القادمة: «قدسهم في حقك»، حيث يُجري الآب فيهم فعل قداسته, ليحولهم من العالم إلى نفسه، من المستوى الجسداني إلى الروحاني، من الزيف إلى الحقيقة، من الزائل إلى الأبدي.
«احفظهم في اسمك الذي أعطيتني»: لقد أجمع العلماء المختصون بالمخطوطات أن «الذي أعطيتني» هنا تختص بالاسم وليس بالتلاميذ. وكذلك الاسم الوارد في الآية (12) الآتية بعد ذلك. ويقع هذا المعنى موقعاً لاهوتياً قويا وصحيحاً ، وهومطابق تماما لما جاء بالنبوة عن المسيح: «لأن اسمي فيه» (خر21:23). فالاسم هو الاستعلان الحقيقي للشخص، والمسيح حاز هذا الاستعلان حيازة ذاتية لنفسه، فكان يقوله وكأنه له، أو كأنه هو هو «‏أنا هو»، وهو اسم «يهوه» في كل أسفار العهد القديم.
‏وحيازة المسيح لاسم الله، معناه حيازته الكاملة لطبيعة الله وقوته وصفاته, وهذا واضح من قول الله لموسى مُنبهاً بخصوص النبي الذي سيقيمه مثله أن «اسمي فيه»، بجعل عصيانه مرجباً للقضاء وللدينونة ولا غفران، وهو هنا يتكلم عن المسيح: «احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه، لأنه لا يصفح من ذنوبكم، لأن اسمي فيه» (خر21:23)، «وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو، باسم يسوع، كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب، لمجد الله الآب.» (في9:2-11)
‏كل هذا يوضح أن المسيح يستعلن الآب استعلاناً ذاتياً, لذلك، يصبح معنى «احفظهم في اسمك الذي أعطيتي» يعنى «أعلن ذاتك لهم»، فهذا هو الحفظ البالغ منتهى القوة بالنسبة للإنسان الذي يواجه قوى العالم الشريرة!! وهذا الإعلان الذاتي لله, الذي هو الاسم في جوهر معناه, قائم في «الكلمة»، في الإنجيل، في تعاليم المسيح التي تركزت في استعلان الآب بالدرجة الاولى~ والمسيح بعد ما اكمل، باشر هذا العمل للتلاميذ: «فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو45:24). هذا هو نفسه استعلان ذات الله، وهو بعينه الحفظ الذي يعطي المناعة ضد قوى العالم السلبية.
‏وصلاة المسيح لكي يحفظهم الآب «في اسمك الذي أعطيتني» تطلب أن يثبتهم الآب في صفات أبوته، التي هي فعالة في المسيح كابن، لكي يعيشوا معاً في دائرة وجوده وعمله ومشيئته.
‏«في ‏اسمك»: الاسم هنا طاقة وقوة. والحفظ هو، إما بإدخال التلاميذ في مجال فعل الاسم أي الاستعلان الذاتي، وإما شمول التلاميذ بهذه الطاقة لتدخل فيهم. الاول تكون بفعل استعلاني يجذب القلوب إلى مجال قوته، والثانية بفعل نعمة تنسكب داخل قلوبهم بحسب منتهى خيرية الله.
‏وفي التراث اليهودي التقوي الذي ورثته الكنيسة، فإن مجرد النطق باسم الله يدخلنا في مجال قوة عمله، وكأنه هتاف بحضور الله أو بالدخول في حضرته. وقد دخل ذلك في صميم الطقس الدعائي، فالصلاة تُفتتح باسم الآب والابن والروح القدس، والتقديس يتم بدعاء الاسم على الماء ليصير مقدساً للتقديس والتعميد، وعلى الخبز والخمر ليصيرا إلى الجوهر الجسدي الإلهي, وعلى رأس المريض وبدهنه فيشفى. وباختصار، فلا يجرى أي طقس في الكنيسة إلا بدعاء الاسم, الذي هو بمثابة الحضرة الإلهية. وباسم الله الآب والابن والروح القدس، تُبنى الكنيسة، وتتقوى، وتعمل، وتبشر. وبدون اسم الله الآب والابن والروح القدس، لا توجد كنيسة. لذلك، فكل عمل العالم هو أن يُخفي اسم الثالوث عن المؤمنين به, أو يزعزع سلطانه في القلوب، أو ينتزعه كلية بجحد الإيمان، أو الإلحاد، أو التمادي في الملذات التي تغمر القلوب ليُنسى الاسم.
‏على أن نسبة «القدوس» للآب، تفيد السلطان المطلق والفائق للآب، الذي يفصله كل الفصل عن الخطية والخطاة والعالم المخلوق الذي ينحرف عن التعبد له: «لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا، قدوس = بلا شر ولا دنس, قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات» (عب26:7). هنا، الجزء الثاني «انفصل عن الخطاة» شرح للجزء الآول «قدوس بلا شر»!!
‏ومن هنا تكون قوة قداسة الآب في حفظ تلاميذه والمؤمين من سلطان العالم الخاطىء! «لأني (أنا) الله، لا إنسان، القدوس في وسطك، فلا أتي بسخط.» (هو9:11)
«ليكونوا واحداً كما نحن»: الوحدة المطلوبة هنا هي أساساً للحفظ، فاحفظهم في اسمك, لأنهم في العالم، بأن تجعلهم واحداً. والوحدة ليست مجرد ألفة العشرة ورابطة المودة والإجماع على الرأي أو المشورة، بل هي وحدة الطبيعة التي تأخذ قوتها وتحقيقها وانسجامها الفائق من المسيح وفيه. فالمسيح في وحدة مع الآب، قائمة بحضور التجسد. والقصد أن قوة الوحدة التي في التجسد مع الإنسان، ثم قوة الوحدة بين المسيح والآب هي القوة التي يطلبها لنا لتجعل كل المؤمنين في المسيح واحداً. هكذا يطلب المسيح للتلاميذ أولاً أن يكونوا واحداً بهذه القوة، فتتكون الكنيسة في قوة الاسم.
‏والوحدة، كقوة نابعة من وحدة الآب والمسيح، والتي يطلبها المسيح، لا يقصد أن تأتيهم مفروضة عليهم من خارجهم، بل يطلبها لتنشأ فيهم من داخلهم, وذلك بثبوتهم في الاسم، وبالكلمة، وبالصلاة؛ الأمر الذي استجاب له الآب بقوة في تكميل وعده بإرساله قوة الروح القدس الفعالة لهذه الوحدة عينها، كما حدث فعلاً يوم الخمسين.
‏والإنسان ينزع بطبيعته إلى هذه الوحدة، ولكنه يُخطىء دائماً الوسيلة، كما اجتمع في بابل قديما. فالجمعيات والجماعات والمؤسسات والنوادي والرحلات والرياضات، كلها محاولات للوحدة، ولكنها وحدة كاذبة تجمع على الظواهر وليس على الحقائق والجوهر. تجمع على الراحة والفسحة والتسلية والمرح والمسرات واللهو، وكلها خدع يزول مع الوقت، وربما تؤول إلى الضد، وغالباً ما تنتهي بمزيد من الفرقة والعداوة والانقسام، وربما الخطية والانحدار للاستغراق في الفردية.
‏أما الوحدة الحقيقية، فهي التي يطلبها لنا المسيح في اسم الآب وحفظه وقوة استعلان ذاته وجذبه، وهي تقوم على تقديس الاسم واستعلان الحق الإلهي في الكلمة. لذلك، فالإنجيل والصلاة هما وحدهما منبع الوحدة بين أعضاء جسد المسيح. والوحدة ألتي طلبها المسيح وقد تمت بالفعل بقوة الروح القدس، هي الكنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة الرسولية لقد كان الرسل والتلاميذ بذرتها الاولى، وصلاة المسيح كانت المخاض الذي وُلدت منه يوم الخمسين، وسر العلي الذي حفظها في العالم من العالم حتى اليوم!
‏وقوة الاسم, إذا تمسك بها كل واحد, هي بحد ذاتها قادرة أن توحد وترفع الفوارق بين طبائعهم, وتخفي ذواتهم عن أعينهم, وتخلي مشيئاتهم من أنفسهم، وذلك حينما يتوقف جذب العالم لشهواتهم ويتحرك الروح فيهم. وهذه هي الصورة التي أرادها لهم المسيح، فكانت:
+ «وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات. وصار خوف في كل نفس، وكانت عجائب وآيات كثيرة تجرى على أيدي الرسل. وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكل واحد احتياج. وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة, وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسيحين الله, ولهم نعمة لدى جميع الشعب. وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون.» (أع42:2-47)
ولكن لنعد إلى: «أيها الآب القدوس احفظهم»، فالوحدة التي يطلبها المسيح هي داخل نطاق عمل الاسم القدوس، فهي وحدة تقديس وطهارة. لأنه خارج القداسة والتقديس، يوجد العالم؛ والقداسة والتقديس في مضمونها الفعلي هي الانفصال عن ما هو للعالم. هنا تكون الوحدة التي تجمع التلاميذ، هي بشد كل منهم وانفصاله عن ما هو للعالم، وهذا لا يتم إلآ بالانجذاب المشترك نحو الآب والقداسة لتستمد الجماعة أو الكنيسة حياتها من مصدر خارج العالم، من قربهم من الآب والابن, من قوة استعلان الآب وعمله بالإنجيل. أما هذا الاتجاه التقديسي فسيوفي المسيح حقه في بقية الصلاة والتوسل (يو17:17-23).
وبعد أن يعمل اسم الآب في الجماعة، أي الكنيسة، ويوحدها معه وفيه، تبقى أبعاد أسرار هذا الاسم فائقة عن الزمان الحاضر. ففي هذا الاسم يكمن الميراث المحفوظ لنا في السموات: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس: من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى، واعطيه حصاة بيضاء، وعلى الحصاة أسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ.» (رؤ17:2)؛ «وهم سينظرون وجهه، وأسمه على جباههم.» (رؤ4:22‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
11- وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ.

«ولست أنا بعد في العالم»: هنا علة هذه الصلاة بمجملها، فلولا أنه قد أكمل رحلته، ووجه وجهه شطر السماء لما صلى من أجلهم، إذ كان يكفيهم أنه معهم. ولكن الأن وقد حان الوقت أن يتركهم وحدهم ليدخل في عمله الأعلى طبيعةً وشأناً، وهو أن يتراءى أمام الآب متشفعأ عنهم؛ لذلك وقف يمارس مقدماً عينة منظورة من عمله غير المنظور والدائم إلى مدى الدهور، عن الذين له، طالما بقوا وحدهم في هذا العالم.
«وأنا آتي إليك»: ‏الفعل «آتي» في المضارع الدائم، والمقابلة بين حالات المسيح الثلاث التي فيها يوصف المسيح ‏أنه «آت»، تحتاج إلى تأمل:
1- «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم.» (يو27:11)
2- «وأنا آتي إليك أيها الآب القدوس.» (يو11:17)
3- «آتي أيضاً وآخذكم إلي.» (يو3:14)
‏وكأن الزمن ملغى، فهو آت باستمرار إلى العالم، وآت إلى الآب وآت إلينا ليأخدنا! ولكن لكل حالة فعلها الخاص بها، وكل حالة مترتبة عل ما قبلها، وهي تبدو وكأنها جديدة، مع أنها ليست بجديدة. فالزمن وحده يتغير عندنا، أما عنده هو فلا يتغير: «بعد قليل لا تبصروني ثم بعد قليل أيضاً ترونني» (يو16:16)، «ولست أنا بعد في العالم»، و«لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم» (يو18:14)، «وأنا آتي إليك»، «وأنا لست وحدي لأن الآب معي.» (يو32:16)
‏تأمل في ذلك بولس الرسول فقال:
+ «وأنت يا رب (يعني المسيح الذي مُسح بزيت البهجة أكثر من رفقائه)، في البدء أسست الأرض، والسموات هي عمل يديك, هي تبيد، ولكن أنت تبقى. وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير, ولكن أنت أنت، وسنوك لن تفنى.» (عب10:1-12)
‏وأيضاً: «يسوع المسيح هو هو، أمساً واليوم وإلى الأبد.» (عب8:13)
ففي الظاهر الزمي، سيتركهم المسيح وحدهم؛ ولكن في الحقيقة، فإن ذهابه للآب هو دخوله في نطاق القوة الأكثر فعالية، وهذا يزيد من قربه إليهم، تماما كما سبق وقال عن نفسه: «وتتركوني وحدي، وأنا لست وحدي، لأن الآب معي.» (يو32:16)
‏ولكن الحقيقة الأشد عزاء، هو أنه طالما كان معهم على الأرض، فقد كانوا منه على بعد! ولكن لما تركهم وحدهم ذاهبأ إلى الآب، أصبح وهو في السماء متحداً بهم وهم به متحدون، وعن قرب. لذلك كان يقول لهم مراراً: «إنه خير لكم أن أنطلق» (يو7:16)!! ولذلك عينه قال لتوما: «لأنك رأيتي يا توما، آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو29:20). هذه الطوبى، هي الاتحاد عينه بالروح. أما إيمان العيان، فلا يزال يحتاج إلى الطوبى!!
‏والرؤيا العينية لا تفيد الإيمان شيئاً: «وأما الأن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي.» (يو24:15), والعيان لا يسُعف اللحاق بالمسيح: «لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكك ستتبعني أخيراً» (36:13)
‏ولكن عدم رؤياه، رؤيا العين، لا يمنع أن يرانا هو: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم» (يو22:16) فنمتلء به خباً وفرحاً. «الذي وان لم تروه، تحبونه. ذلك، وإذ كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.» (ابط8:1)
«أيها الآب القدوس»: بعد أن أوضح المسيح أن تلاميذه سيُتركون وحدهم في العالم، وأنه آت إلى الآب، يصبح دور الآب وارداً بصورة ملحة؛ وبسبب أن العالم قوة معادية للايمان ومركز تجارب، يكون الالتجاء إلى «قداسة» الآب أمراً حتمياً. فالنداء هنا من واقح الحال, وليس مجرد تسمية.
‏التجاء المسيح إلى «قداسة» الآب، هو بحد ذاته, يكشف عن خطورة وضع التلاميذ في غيابه بالنسبة لإمكانية ابتلاع العالم لهم. هنا تبلغ الصلاة ذروة توسلها الواقعي. فـ «قداسة» الآب هي حصن الذين في العاصف تجاه قدرة العالم على ابتلاع الضمائر الجزعة والواقعين تحت التهديد والوعيد والخوف أو الإغراء والترغيب.
‏هنا يبدو واضحاً, لماذا علمنا المسيح أن نخاطب الآب طالبين أن: «يتقدس اسمك». فهنا اللهفة في طلب تقديس اسم الآب، من حال واقعنا المهدد كل يوم ولحظة في العالم؛ فالشر محيط، والجذب عنيف, والإغراء ملبس بقوة شيطانية. فالالتجاء إلى اسم الله القدوس ليتقدس في حياتنا وأفكارنا وعيوننا وقلوبنا وضمائرنا، هو قوة غالبة وحصن منيع: ‏«اسم الرب برج حصين, يركض إليه الصديق و يتمنع.» (أم10:18)
‏وسوف تُكمل هذه الطلبة بالآية القادمة: «قدسهم في حقك»، حيث يُجري الآب فيهم فعل قداسته, ليحولهم من العالم إلى نفسه، من المستوى الجسداني إلى الروحاني، من الزيف إلى الحقيقة، من الزائل إلى الأبدي.
«احفظهم في اسمك الذي أعطيتني»: لقد أجمع العلماء المختصون بالمخطوطات أن «الذي أعطيتني» هنا تختص بالاسم وليس بالتلاميذ. وكذلك الاسم الوارد في الآية (12) الآتية بعد ذلك. ويقع هذا المعنى موقعاً لاهوتياً قويا وصحيحاً ، وهومطابق تماما لما جاء بالنبوة عن المسيح: «لأن اسمي فيه» (خر21:23). فالاسم هو الاستعلان الحقيقي للشخص، والمسيح حاز هذا الاستعلان حيازة ذاتية لنفسه، فكان يقوله وكأنه له، أو كأنه هو هو «‏أنا هو»، وهو اسم «يهوه» في كل أسفار العهد القديم.
‏وحيازة المسيح لاسم الله، معناه حيازته الكاملة لطبيعة الله وقوته وصفاته, وهذا واضح من قول الله لموسى مُنبهاً بخصوص النبي الذي سيقيمه مثله أن «اسمي فيه»، بجعل عصيانه مرجباً للقضاء وللدينونة ولا غفران، وهو هنا يتكلم عن المسيح: «احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه، لأنه لا يصفح من ذنوبكم، لأن اسمي فيه» (خر21:23)، «وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو، باسم يسوع، كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب، لمجد الله الآب.» (في9:2-11)
‏كل هذا يوضح أن المسيح يستعلن الآب استعلاناً ذاتياً, لذلك، يصبح معنى «احفظهم في اسمك الذي أعطيتي» يعنى «أعلن ذاتك لهم»، فهذا هو الحفظ البالغ منتهى القوة بالنسبة للإنسان الذي يواجه قوى العالم الشريرة!! وهذا الإعلان الذاتي لله, الذي هو الاسم في جوهر معناه, قائم في «الكلمة»، في الإنجيل، في تعاليم المسيح التي تركزت في استعلان الآب بالدرجة الاولى~ والمسيح بعد ما اكمل، باشر هذا العمل للتلاميذ: «فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو45:24). هذا هو نفسه استعلان ذات الله، وهو بعينه الحفظ الذي يعطي المناعة ضد قوى العالم السلبية.
‏وصلاة المسيح لكي يحفظهم الآب «في اسمك الذي أعطيتني» تطلب أن يثبتهم الآب في صفات أبوته، التي هي فعالة في المسيح كابن، لكي يعيشوا معاً في دائرة وجوده وعمله ومشيئته.
‏«في ‏اسمك»: الاسم هنا طاقة وقوة. والحفظ هو، إما بإدخال التلاميذ في مجال فعل الاسم أي الاستعلان الذاتي، وإما شمول التلاميذ بهذه الطاقة لتدخل فيهم. الاول تكون بفعل استعلاني يجذب القلوب إلى مجال قوته، والثانية بفعل نعمة تنسكب داخل قلوبهم بحسب منتهى خيرية الله.
‏وفي التراث اليهودي التقوي الذي ورثته الكنيسة، فإن مجرد النطق باسم الله يدخلنا في مجال قوة عمله، وكأنه هتاف بحضور الله أو بالدخول في حضرته. وقد دخل ذلك في صميم الطقس الدعائي، فالصلاة تُفتتح باسم الآب والابن والروح القدس، والتقديس يتم بدعاء الاسم على الماء ليصير مقدساً للتقديس والتعميد، وعلى الخبز والخمر ليصيرا إلى الجوهر الجسدي الإلهي, وعلى رأس المريض وبدهنه فيشفى. وباختصار، فلا يجرى أي طقس في الكنيسة إلا بدعاء الاسم, الذي هو بمثابة الحضرة الإلهية. وباسم الله الآب والابن والروح القدس، تُبنى الكنيسة، وتتقوى، وتعمل، وتبشر. وبدون اسم الله الآب والابن والروح القدس، لا توجد كنيسة. لذلك، فكل عمل العالم هو أن يُخفي اسم الثالوث عن المؤمنين به, أو يزعزع سلطانه في القلوب، أو ينتزعه كلية بجحد الإيمان، أو الإلحاد، أو التمادي في الملذات التي تغمر القلوب ليُنسى الاسم.
‏على أن نسبة «القدوس» للآب، تفيد السلطان المطلق والفائق للآب، الذي يفصله كل الفصل عن الخطية والخطاة والعالم المخلوق الذي ينحرف عن التعبد له: «لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا، قدوس = بلا شر ولا دنس, قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات» (عب26:7). هنا، الجزء الثاني «انفصل عن الخطاة» شرح للجزء الآول «قدوس بلا شر»!!
‏ومن هنا تكون قوة قداسة الآب في حفظ تلاميذه والمؤمين من سلطان العالم الخاطىء! «لأني (أنا) الله، لا إنسان، القدوس في وسطك، فلا أتي بسخط.» (هو9:11)
«ليكونوا واحداً كما نحن»: الوحدة المطلوبة هنا هي أساساً للحفظ، فاحفظهم في اسمك, لأنهم في العالم، بأن تجعلهم واحداً. والوحدة ليست مجرد ألفة العشرة ورابطة المودة والإجماع على الرأي أو المشورة، بل هي وحدة الطبيعة التي تأخذ قوتها وتحقيقها وانسجامها الفائق من المسيح وفيه. فالمسيح في وحدة مع الآب، قائمة بحضور التجسد. والقصد أن قوة الوحدة التي في التجسد مع الإنسان، ثم قوة الوحدة بين المسيح والآب هي القوة التي يطلبها لنا لتجعل كل المؤمنين في المسيح واحداً. هكذا يطلب المسيح للتلاميذ أولاً أن يكونوا واحداً بهذه القوة، فتتكون الكنيسة في قوة الاسم.
‏والوحدة، كقوة نابعة من وحدة الآب والمسيح، والتي يطلبها المسيح، لا يقصد أن تأتيهم مفروضة عليهم من خارجهم، بل يطلبها لتنشأ فيهم من داخلهم, وذلك بثبوتهم في الاسم، وبالكلمة، وبالصلاة؛ الأمر الذي استجاب له الآب بقوة في تكميل وعده بإرساله قوة الروح القدس الفعالة لهذه الوحدة عينها، كما حدث فعلاً يوم الخمسين.
‏والإنسان ينزع بطبيعته إلى هذه الوحدة، ولكنه يُخطىء دائماً الوسيلة، كما اجتمع في بابل قديما. فالجمعيات والجماعات والمؤسسات والنوادي والرحلات والرياضات، كلها محاولات للوحدة، ولكنها وحدة كاذبة تجمع على الظواهر وليس على الحقائق والجوهر. تجمع على الراحة والفسحة والتسلية والمرح والمسرات واللهو، وكلها خدع يزول مع الوقت، وربما تؤول إلى الضد، وغالباً ما تنتهي بمزيد من الفرقة والعداوة والانقسام، وربما الخطية والانحدار للاستغراق في الفردية.
‏أما الوحدة الحقيقية، فهي التي يطلبها لنا المسيح في اسم الآب وحفظه وقوة استعلان ذاته وجذبه، وهي تقوم على تقديس الاسم واستعلان الحق الإلهي في الكلمة. لذلك، فالإنجيل والصلاة هما وحدهما منبع الوحدة بين أعضاء جسد المسيح. والوحدة ألتي طلبها المسيح وقد تمت بالفعل بقوة الروح القدس، هي الكنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة الرسولية لقد كان الرسل والتلاميذ بذرتها الاولى، وصلاة المسيح كانت المخاض الذي وُلدت منه يوم الخمسين، وسر العلي الذي حفظها في العالم من العالم حتى اليوم!
‏وقوة الاسم, إذا تمسك بها كل واحد, هي بحد ذاتها قادرة أن توحد وترفع الفوارق بين طبائعهم, وتخفي ذواتهم عن أعينهم, وتخلي مشيئاتهم من أنفسهم، وذلك حينما يتوقف جذب العالم لشهواتهم ويتحرك الروح فيهم. وهذه هي الصورة التي أرادها لهم المسيح، فكانت:
+ «وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات. وصار خوف في كل نفس، وكانت عجائب وآيات كثيرة تجرى على أيدي الرسل. وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكل واحد احتياج. وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة, وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسيحين الله, ولهم نعمة لدى جميع الشعب. وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون.» (أع42:2-47)
ولكن لنعد إلى: «أيها الآب القدوس احفظهم»، فالوحدة التي يطلبها المسيح هي داخل نطاق عمل الاسم القدوس، فهي وحدة تقديس وطهارة. لأنه خارج القداسة والتقديس، يوجد العالم؛ والقداسة والتقديس في مضمونها الفعلي هي الانفصال عن ما هو للعالم. هنا تكون الوحدة التي تجمع التلاميذ، هي بشد كل منهم وانفصاله عن ما هو للعالم، وهذا لا يتم إلآ بالانجذاب المشترك نحو الآب والقداسة لتستمد الجماعة أو الكنيسة حياتها من مصدر خارج العالم، من قربهم من الآب والابن, من قوة استعلان الآب وعمله بالإنجيل. أما هذا الاتجاه التقديسي فسيوفي المسيح حقه في بقية الصلاة والتوسل (يو17:17-23).
وبعد أن يعمل اسم الآب في الجماعة، أي الكنيسة، ويوحدها معه وفيه، تبقى أبعاد أسرار هذا الاسم فائقة عن الزمان الحاضر. ففي هذا الاسم يكمن الميراث المحفوظ لنا في السموات: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس: من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى، واعطيه حصاة بيضاء، وعلى الحصاة أسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ.» (رؤ17:2)؛ «وهم سينظرون وجهه، وأسمه على جباههم.» (رؤ4:22‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3- العمل السابق والعمل اللاحق
12- حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ.

‏إن صلاة المسيح التي يقدمها في هذا الأصحاح هي أصلاً لإلغاء الفوارة الزمنية، في اعتبار العناية الإلهية. ويكاد المعنى يكون هكذا: لما كنت معهم في العالم بالجسد، كنت أحفظهم في اسمك، والأن لا تتركهم أنت حينما آتي أنا إليك، بل اشملهم بحفظك ورعايتك. وهذا ينسحب، بالتال، على كل الأجييال الآتية هكذا: هذا الجيل، جيل التلاميذ، أنا كنت معهم بالجسد أحفظهم، فالأجيال القادمة ليكن نصيبهم محفوظاً في اسمك الذي هو اسمي: «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت19:28)!
كنت أحفظهم ... حفظتهم .....: ‏الفعل الآول: «كنت أحفظم» وتعني «سهرت عليهم», والفعل الثاني: «حفظتهم» بمعنى «حرستهم» سهرت عليهم بالتعليم، فحفظت قلوبهم باستعلان الحق في اسمك. وحفظهم، وحرستهم، وحميتهم من جذب العالم، وذلك بأن حصرت قلوبهم في دائرة معرفتك.
‏والفعلان يفيدان قدرة المسيح على استعلان اسم الآب، أي صفاته، لهم وتعليمهم بكلماته وتعريفهم بكل ما عند الآب. وهذا بالطبع ظل مدخراً لنا بالإنجيل، كما علم به تلاميذه, مضافاً إليه الاستعلان الفائق بالروح القدس الذي أصبح يعرفنا بكل الحق, ويذكرنا بكل ما قاله المسيح.
‏والآن، وقد ذهب إل الآب وجلس عن يمينه، أصبح وجوده أكثر وضوحاً لنا الآن مما كان بالجسد مع تلاميذه آنذاك.
‏«ولم يهلك منهم أحد»: هذه ثمرة الحفظ والسهرو الحماية التي أعطاها المسيح لتلاميذه، الذين أثمرت فيهم تعاليمه وكلماته المحيية واستعلانه لمحبة الآب التي قبلوها، فانسكبت في قلوبهم فلم يُفقد أحد، وظلوا محفوظين ومحروسين في الاسم وقوته. وكان الرب مرتاحاً لموقفهم، ولكن كان يقيته ذاك التلميذ الذي هو مزمع أن يسلمه!
‏«إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب»: كان يهوذا في فكر الرب آنئذ، ولكن لم يذكر اسمه، لأن حساسيته تجاه الخطاة كانت رقيقة للغاية، شأن الراعي الصالح، وقد بلغت ذروتها تجاه صالبيه: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو34:22). أما يهوذا فلم ينظر المسيح إليه منذ البدء كتلميذ قط، وإنما كابن الهلاك: «أليس إني أنا اخترتكم الاثني عشر، وواحد منكم شيطان, قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي، لأن هذا كان مزمعاَ أن يسلمه، وهو واحد من الاثني عشر.» (يو70:6-71)
‏لقد دخل في جماعة الاثني عشر لكي يسقط منها، وصار تلميذاً لا ليتتلمذ على معلمه بل ليسلمه! لم يكن غنمة، بل ذئباً اندس في وسط الغنم. لم يكن من عمل الفادي أن يحرسه، بل أن يحترس منه، لم يستثنيه من تعليمه وحبه وثقته، شأنه شأن شسمه التي يشرقها على الخطاة، فقد سلمه الصندوق ليبرر وضميره تجاهه، وهو عالم أنه يسرقه، ووهبه ما وهب التلاميذ من الحب والثقة، ولكنه خانهما.
‏«ابن الهلاك»: ‏إن وصف المسيح ليهوذا بهذه ‏الصفة، لم يكن بقصد أن يدينه أو يحكم عليه، بل ليوضح لماذا فُقد وهلك. فيهوذا اختار ذلك لنفسه، وصمم عليه, ونقذ خطته، بالرغم من تلميحات المسيح وتصريحاته، بل وكسر كل العوائق التي وضعها المسيح في طريق خيانته, باللطف حيناً، والوعيد أحياناً، بالحب مرة وبتهديد الدينونة مراراً. ولكن في النهاية فرط فيه المسيح: «ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة»!! (يو37:13)، لذلك فـ «هلاك» يهوذا لا يحط قط من قدر المسيح، كمعلم، ولا يقلل من شمولية فدائه: «أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك, وقلبك غير التائب، تدخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة.» (رو4:2-5)
‏لقد اختار يهوذا بنفسه لنفسه الدور الذي تتم به النبوات ويكمل المكتوب، واختيار المسيح له مع الاثني عثر بالرغم من معرفته المسبقة لمصيره والدور الذي سيقوم به, ليتم الكتاب! «لست أقول عن جيعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم، لكن ليتم الكتاب: الذي يأكل معي الخبز، رفع علي عقبه» (يو18:13). والكتاب المذكور هنا هو المزمور 9:41 «أيضاً رجل سلامتي، الذي وثقت به، آكل خبزي رفع علي عقبه»، والكلام هنا على أخيتوفل (اقرأ 2صم23:17).
«قد جعلت قدامك الحياة والموت ... فاختر الحياة لكي تحيا» (تث19:3-). ولكن يهوذا اختار الموت دون الحياة. أن يهلك إنسان وهو في رفقة المسيح وواحد من التابعين له حتى النهاية, لا يمكن إلا أن يكون «ابناً للهلاك». لقد اختار يهوذا أن يهلك من أعلى وأميز موضع للأمان والخلاص!! ولا عيب على المخلص، لأنه إن كان قد اختار الصليب لنفسه، فلا عيب أن يختار أدواته!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
13- أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ.

المعنى هنا جميل وعميق للغاية, فالمسيح على الأرض يتكلم, ولكن من منطق تكميل الرسالة, وهو في حالة التأهب لترك العالم والانطلاق إلى الآب, فالكلام يأخذ طابعه الاخروي. والتلاميذ يسمعون حديث السماء وكأنه تم في السماء. والمسيح يقصد هذا قصدا، حتى يشعر التلاميذ بوجودهم في حضرة الابن والآب. فالكلام يخصهم. ووجودهم في حضرة الآب، يسمعون الابن متكلماً عنهم, يسأل ويطلب من أجلهم هو بعينه عينة من وجودهم الاخروي المزمع أن يكون، الذي يشددهم بالفرح الآخر أو الأخروي, وهو الفرح الكامل في طبيعته الأخرى، الذي سبق أن أعلنهم به: «اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً» (يو24:16)، والأن هو يطلب، وهم بالسر يأخذون، ليكون فرحهم كاملاً فيهم!
‏ومعروف في التقليد اليهودي أن الفرح لن يكون فرحاً كاملاً، إلا في أيام المسيا!
‏ولكن هنا فرح أعظم, وهو فرح الابن حينما يستودعه تلاميذه بأن يسلمهم إلى حفظ الآب القدوس.
‏فرح المسيح الخاص، الأن يبلغ ذروته وهو يترك العالم ذاهباً إلى الآب، وهو هو نفس الفرح الذي يريد أن يُسر به لتلاميذه عبر هذه الصلاة. إذ، وهم محفوظون ومحروسون في اسم الآب، يكونون وكأنهم قد انتقلوا من هذا العالم إلى الآب، أو بالحري انتقلوا من الموت إلى الحياة. ولم يعد للعالم سلطاناً عليهم!
‏هنا يطيب لنا أن نقول للقارىء، إن هذا اختبار حي يبلغه الإنسان بالصلاة, حينما ينطلق بروحه نحو الآب والمسيح، تاركأ العالم خلف ظهره، حيث يكون لسان حاله: «من لى في السماء، ومعك لا أريد شيئاً في الأرض.» (مز25:73)
 
أعلى