النقطة الثانية ترتبط بالأولى. مشكلتنا هي أننا بالطبع لا نرى الله حقا في الآخرين. نحن ربما بالعكس نرى الشيطان فيهم وفيما يقولون ويفعلون. أليس أخي هذا ـ على سبيل المثال ـ هو الذي طالما أساء لى بل اعتدى عليّ ضربا وتحقيرا وإهانة، ناهيك عن حصاري ومنعي من الخدمة؟ كيف أتناسى أو أتجاهل كل هذا وبالعكس أرى الرب فيه، ثم لأجل هذا الرب أوجّه عملي وطاقتي وعطائي، فتكون خدمتي حقا "صلاة" للرب كما يقولون؟ نظرية جميلة، لكنها عمليا غير قابلة للتطبيق.
نعم يا أمي، هي بالطبع غير قابلة للتطبيق. ولكن لماذا؟ ببساطة لأننا لا يمكن أن نرى الله حقا في الآخرين قبل أن نرى الله أولا في أنفسنا. هذه هي القاعدة. فقط حين نرى الله في أنفسنا فإننا عندئذ تلقائيا نراه في الآخرين أيضا، بل في كل مخلوق وفي كل شيء دون استثناء. ولكننا لن نرى الله أبدا في أنفسنا قبل أن نتحرر أولا من ذاتيتنا، من هذه "الأنا" التي نتماهى معها ونظن أتها هويّتنا، بينما هي في الحقيقة محض "وهم" لا وجود له! مجرد "ضلالة" في عقولنا لم تظهر إلا بعد سقوط الإنسان ـ وبسبب هذا السقوط ـ لتخفي وراءها بالعكس هويّة الإنسان الحقيقية الباهرة، التي هي ببساطة "صورة الله ومثاله"!
من هنا ندلف إلى النقطة الثانية:
***
ثانيا: اعمال الخدمة المنزلية التي اقوم بها كل يوم من تحضير الطعام لهم وغسل الاطباق وتنظيف البيت وغسل الملابس والاعتناء بامور والدتي كلها فانا اعتني بهما والعمل الذي اقوم به لاجلهما..........
نعم، ولكن.. من أين تأتينا هذه القوة التي نعمل ونتحرك بها؟ من أين تأتي قدرتنا على ذلك؟ من أين يأتي ابتداء وجودنا؟ من أين يأتي فكرنا وذكاؤنا؟ من أين تأتي حكمتنا أو فهمنا؟ من أين تأتي حتى إرادتنا، هذه الرغبة في خدمة الآخرين؟ حتى لو كانت المحبة دافعنا، فمن أين تأتي هذه المحبة وكيف ظهرت وترعرت بقلوبنا؟
لنقرأ معا:
«اثبتوا فيّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضا إن لم تثبتوا فيّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا».
فإذا كنا بدون الرب لا نستطيع شيئا، فمن هو الفاعل حقا وراء كل ما نقوم به في خدمتنا؟ أليس هو الله وروح الله القدوس؟ أليست خدمتنا وكل أعمالنا الطيبة هي بالأحرى هذا "الثمر الكثير" الذي جاء ـ عبرنا ـ نحن "الأغصان" ـ حين ثبتنا في "الكرمة"؟
نحن بالتالي لا نخدم الرب في الآخرين فحسب كما رأينا بالنقطة الأولى، بل أكثر من ذلك: "الرب فينا" هو أيضا مَن يقوم في الحقيقة بكل تلك الأعمال التي نؤديها! الرب، لا نحن، بل الرب هو الذي ـ من خلالنا ـ يعطي الجميع ويساعد الجميع ويعتني حقا بالجميع!
يمكننا بالتالي رصد 3 مراحل لهذا الفهم يا أمي الغالية:
في المرحلة الأولى: «أنــا الذي أخدم الآخرين وأعتني بهم. أنــا الذي أقوم بإعداد طعامهم، بتنظيف بيتهم، بغسل ثيابهم.. إلخ». هذه كما نرى هي مرحلة "الجهل الروحي"، مرحلة العماء التام عن حقيقة الأمور، من ثم مرحلة التعب والمعاناة والشقاء الدائم.
في المرحلة الثانية: «أنا الذي أخدم ليس الآخرين ولكني بالأحرى أخدم الرب فيهم. كل ما أفعل بالتالي هو في الحقيقة لأجل الرب، هو في الحقيقة صلاة وتسبحة ومناجاة وتمجيد لهذا القدوس الساكن فيهم». هذا ما طرحناه في رسالة الأمس، وكان دليلنا: «جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فآويتموني، عريانا فكسوتموني...». هكذا يتماهي الإنسان تماما مع الرب، لكن الأروع حقا من ذلك هو أن الرب أيضا ـ كما يقول القديس أوغسطين ـ يتنازل بكل مجده فيتماهى هو نفسه أيضا معنا ويتماهى فينا: «شاول، شاول! لماذا تضطهدني؟»
أما في المرحلة الثالثة: «لست حتى "أنا" الذي يخدم الآخرين حقا أو يخدم الرب فيهم»، ذلك أنني «بدون الرب لا أستطيع شيئا»، بل حتى قبل ذلك لأنني ابتداء «مع المسيح صُلبت، من ثم أحيا ـ لا أنـا ـ بل المسيح يحيا فيّ»!
فإذا أدركنا أن الرب فينا هو حقا مَن يخدم الرب فيهم: سقطت ذاتيتنا، فرديتنا، أنانيتنا، لم يعد بكل الوجود حقا سواه وصار من ثم المسيح هو الكل وصار في الكل! «حيث ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري سكيثي، عبد حر، بل المسيح الكل وفي الكل»!
***
وعليه: لنتذكر فضلا يا أمي دور الرب دائما ولا ننسب أعماله أبدا لذواتنا. هذا فكر الإنسان العتيق لا إنسان النعمة. كتبت سابقا عن هذا الأمر وبالتالي ـ بدلا من قولك "أنا" التي فعلت وفعلت ـ أصبحتِ تقولين: "الرب استخدمني" ففعلت وفعلت. لكن تغيير الألفاظ لا يعني شيئا. قولي ما تشائين واكتبي ما تريدين. المهم هو أن يتغير الذهن لا اللفظ. المهم هو أن يسقط هذا الفكر العتيق من قلوبنا، ولا يسقط هذا الفكر من قلوبنا إلا أن ندرك أولا عظمة هذه البشارة. إلا أن نعرف جيدا قدر هذه الكرامة. إلا أن نفهم حقا هذا الإيمان ونفهم كيف أخذ ما لنا وأعطانا ما له. إلا أن نؤمن يقينا أن ملكوت الله حقا داخلنا. أننا صرنا حقا هيكل القدوس وأن رب المجد يسكن حقا فينا. هكذا تدريجيا نمتلئ بنعمته، تفيض قلوبنا بسلامه وأرواحنا بقوته، وهكذا تستنير بصائرنا حتى نرى أخيرا بهاء أنواره وإشراق مجده، داخلنا،، في أنفسنا، كما في سائر الكون من حولنا!