تفسير سفر إشعياء - الأصحاح 51 | تفسير تادرس يعقوب


العدد 1- 16:
1. دعوة للتمتع بعمل الفداء :

في هذه الدعوة تكررت كلمة "اسمعوا" أو "انصتوا" ثلاث مرات [1، 4، 7]. فإن كان "كلمة الله" قد سمع وأطاع وهو الخالق والديان والمشرع فبالأولى أن يتسم شعبه بروح الطاعة... وكأنه لا يمكن لنا الدخول إلى الحياة الإنجيلية والتمتع بالخلاص المجاني ما لم نسمع وننصت ليعمل الرب فينا.

ما هو مضمون الدعوة؟

أ. تكرار كلمة "اسمعوا" تعني أن الدعوة في صميمها حث على الطاعة، طاعة الإيمان المملؤة ثقة في الله وحبًا.

v [الطاعة تقيم أصدقاء الله]. أنه يقول: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" (يو 14: 15)، لم يقل "اصنعوا معجزات" إنما ماذا قال؟ "احفظوا وصاياي".

مرة أخرى: "أنتم أصدقائي" (يو 15: 14) ليس عندما تخرجون شياطين بل "إن فعلتم ما أوصيتكم به" ... لنُجاهد أن نصير أصدقاء الله لا أن نبقى أعداء له.

القديس يوحنا الذهبي الفم[1]

ب. "اسمعوا ليّ أيها التابعون البرّ الطالبون الرب" [1]. بالطاعة يتحول الاستماع إلى سلوك عملي، أي اتباع البر أو السير في طريق برّ الله، أما غاية ذلك فهو طلب الرب والالتقاء به والاتحاد معه. هذا هو إيماننا، وهذه هي مسيحيتنا: استماع، طاعة، حياة، اتحاد مع الرب!

ج. الاقتداء بإيمان إبراهيم؛ "انظروا إلى الصخر الذي منه قُطعتم وإلى نقرة الجب التي منها حُفرتم، انظروا إلى إبراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم، لأني دعوته وهو واحد و باركته واكثرته" [1-2].

كأنه يقول لهم إن كنتم تستصعبون الدعوة، قائلين كيف نسمع صوت الرب ونتبع بره ونطلبه في حياتنا؟ انظروا إلى أبيكم إبراهيم وسارة التي ولدتكم. لقد جاء إبراهيم من عائلة وثنية، بل كان العالم كله في ذلك الوقت قد انحرف عن معرفة الله، فجاء إبراهيم كما من صخر قاس ومن طين في نقرة جب، لم يسمع من والديه كلمة تعزية؛ ولا تسلم شريعة إلهية، ولا سنده كاهن أو نبي، ومع هذا إذ دعوته استجاب، كان واحدًا وحيدًا في إيمانه فباركته وأكثرته... وصار شعبي من نسله!

حقًا إن كنا نسلم بأن آدم مخلوق من التراب، ونحن قد جُبلنا من الصخر ليس لنا إحساس روحي، بل تمرغنا كما في وحل الجب فلا نيأس، لأن أبانا إبراهيم هو أيضًا من نسل آدم وقبل الدعوة وأطاع ونال المواعيد الإلهية في نسله.

كان إبراهيم شيخًا وسارة زوجته عاقرًا، كان رحمها كصخر بلا حياة، عاجز عن الإنجاب، لكن الله أقام من الحجارة أولادًا لإبراهيم.

v يمكن لله أن يخرج من الحجارة أناسًا... فإن الطفل الذي يُحبل به في رحم متحجر يكون كمن وُلد من حجارة...

الآن في هذه النبوة [1-2] ترون أنه يُظهر لهم بأنه أقام منذ البداية أبًا بطريقة معجزية كما من حجارة، وما حدث قبلاً يمكن أن يتحقق الآن (مت 3: 5).

القديس يوحنا الذهبي الفم[2]

v يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم (مت 3: 9). يُشير هنا إلى الأمم، إذ هم حجارة بسبب قسوة قلوبهم. لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم" (حز 36: 26). فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا.

القديس جيروم[3]

د. دعوة معزية إذ يحوّل الله خرائبها وصحاريها إلى جنة للرب أو إلى فردوس. هذا هو عمل الله في كنيسته، يهب ثمار روحه القدوس لشعبه فيصير الكل ملكوتًا مثمرًا في الروح. "فإن الرب قد عزى صهيون، عزى كل خربها ويجعل بريتها كعدن وباديتها كجنة الرب" [3].

كثيرًا ما تحدث سفر إشعياء عن عمل الله الخلاصي كإقامة لملكوت الله المثمر، وتحويل البرية بستانًا روحيًا (إش 32: 5)، يسكنها الحق (إش 32: 6)، تفرح وتتهلل بالله ساكنها (إش 35: 1) الخ... الذي يُقيم منها فردوسًا وسماءً.

تطلع القديس يوحنا الذهبي الفم إلى الكنيسة خاصة عند ممارستها ليتورجيا الأفخارستيا (القداس الإلهي) كسماء، قائلاً: [هي أعلى من السماء وأكثر اتساعًا من المسكونة[4]. يتحدث على لسان السيد المسيح، فيقول:

"لقد غرستك في الفردوس، والشيطان طردك!

انظري، ها أنا اغرسك فيّ!

إني اسندك فلا يعود يقوى الشيطان على الاقتراب منك.

لا أرفعك إلى السماء، بل إلى هنا حيث رب السماء.

أحملك في داخلي أنا رب السماء!" [5]].

يقول القديس اكليمندس الاسكندري[6] : [إن الكنيسة الأرضية هي أيقونة الكنيسة السماوية، لهذا نُصلي كي تتحقق إرادة الله على الأرض كما في السماء. كما يقول: [إن سجلت نفسك كأحد أعضاء شعب الله تصير السماء مدينتك والله هو مشرعك[7]].

هـ. دعوة للفرح والبهجة؛ "الفرح والابتهاج يوجدان فيها؛ الحمد وصوت الترنم" [3]. هذا الخط واضح في السفر كله بكونه سفر الخلاص، يعلن عن قيام ملكوت الفرح الداخلي والترنم والتسبيح بلا انقطاع.

عندما زار القديس يوحنا كاسيان مصر، هاله أن يجد صحاريها وقُراها من الإسكندرية حتى أسوان قد امتلأت بالرهبان، لا يُسمع منهم إلاَّ صوت التسبيح غير المنقطع، حتى حسب نفسه أنه في السماء، متساءلاً: ألعل هؤلاء ملائكة أرضيون أم هم بشر سمائيون؟!.

هذه هي سمة الكنيسة الحقيقية: فرح داخلي لا ينقطع!

ينعكس هذا الفرح على كل حياة الكنيسة، وقد لاحظت مدام بوتشر أنه لم توجد أيقونة واحدة في كنائس مصر القديمة الفقيرة تحمل صورة شهيد يتعذب أو في ألم، ولا صورة للجحيم والعذابات، إنما كل الأيقونات يشع فيها روح الفرح والرجاء، حتى الشهداء تراهم فرحين يتطلعون نحو السماء، ناظرين إلى إكليل مجدهم.

انعكس الفرح على العبادة ففي كل يوم تقريبًا تحتفل الكنيسة بعيد سيدي أو عيد أحد الأنبياء أو الرسل أو السمائيين أو الشهداء الخ... وكأن الكنيسة تخلق جوًا من الفرح الروحي وسط متاعب هذه الحياة، فيختبر أولادها تعزيات الروح القدس وفرحه السماوي؛ فيعيش المؤمن يشارك السمائيين ليتورجياتهم وتهليلاتهم الهادئة المبهجة بغير انقطاع.

إحدى علامات الفرح البارزة في الكنيسة أن الكتاب المقدس - خاصة الأناجيل- أثناء الليتورجيات لا يُقرأ وإنما يُسبح به بنغم يملأ النفس تعزية. وقد شهد مستر ليدر الكاتب الإنجليزي المعروف في بداية القرن التاسع عشر عند زيارته مصر أن مجرد سماع الإنجيل أثناء القداس الإلهي في الكنيسة القبطية له أثر على النفس.

و. دعوة للكرازة، فإن من ينعم بفرح الخلاص لا يقدر أن يصمت عن الشهادة للحياة الإنجيلية، إنما يحمل شريعة الرب وإنجيله "نورًا للشعوب" [4]، مؤكدًا للكل أن الحياة في المسيح ليست ببعيدة ولا مستحيلة، فإن برّ المسيح قريب إلى كل قلب [5]، وذراعيه مبسوطتان بالحب على الصليب للشعوب، بكونه رجاء الكل [5].

الكرازة أو الشهادة لعمل المسيح الخلاصي من صميم حياة كل مسيحي، وليست من عمل الكاهن وحده، لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[ليس شيء تافه مثل مسيحي لا يهتم بخلاص الآخرين.

لا تقل إني فقير، فإن فلسي الأرملة يخجلانك. وبطرس أيضًا قال: "ليس ليّ فضة ولا ذهب"، وبولس كان فقيرًا حتى أنه كثيرًا ما عانى من الجوع.

لا تحتج بظروفك القاسية، فإنهم هم أيضًا كانوا في ظروف قاسية.

لا تحتج بجهلك، فقد كانوا غير متعلمين.

ربما تكون عبدًا هاربًا، انسيموس أيضًا كان هذا!

قد تكون مريضًا، تيموثاوس كان كذلك!

كل أحد يقدر أن يُعين أخاه حتى ولو بالإرادة الصالحة، إن لم تكن لديه القدرة أن يفعل شيئًا...

لا تقل أنك لا تستطيع أن تؤثر على الآخرين، فإنك مادمت مسيحيًا يستحيل إلاَّ أن تكون ذا تأثير... فإن هذا هو جوهر المسيحي.

إن قلت أنك مسيحي ولا تقدر أن تفعل شيئًا للآخرين يكون في قولك هذا تناقض، وذلك كالقول بأن الشمس لا تقدر أن تضيء[8]].

ز. دعوة لخلاص أبدي يتعدى السموات والأرض؛ "ارفعوا إلى السموات عيونكم، وانظروا إلى الأرض من تحت، فإن السموات كالدخان تضمحل والأرض كالثوب تُبلى، وسكانها كالبعوض يموتون، أما خلاصي فإلى الأبد يكون وبري لا يُنقض" [6].

نقض السموات والأرض مع بقاء الخلاص إلى الأبد، إنما يُشير إلى صلب الإنسان القديم للتمتع بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. يلزم أن تزول السموات القديمة والأرض القديمة فينا لنتمتع بالسموات الجديدة والأرض الجديدة التي سكانها ليس كالبعوض يموتون وإنما يسكنها برّ الرب الأبدي.

إن كانت السموات تُشير إلى النفس والأرض إلى الجسد، فإن اضمحلال السموات وبلاء الأرض يعنيان تحطيم أعمال الإنسان القديم بالنسبة للنفس كما للجسد، لتقديس نفوسنا وأجسادنا بكوننا الخلقة الجديدة المتجددة كل يوم بعمل روح الله القدوس.

أما قوله "وسكانها كالبعوض يموتون" [6] فيُشير إلى ضعف أعمال الإنسان القديمة، إنها كالبعوض تموت! أما أعمال الإنسان الجديد فهي برّ المسيح الذي لا ينقض، أو هي الحب الذي لا يسقط أبدًا.

ح. دعوة جادة وشجاعة لا تضطرب أمام مقاومة الناس؛ "لا تخافوا من تعيير الناس، ومن شتائمهم لا ترتاعوا، لأنه كالثوب يأكلهم العث، وكالصوف يأكلهم السوس، أما برّي فإلى الأبد يكون، وخلاصي إلى دور الأدوار" [7-8].

من يرفع نظره إلى المخلص الأبدي لا يخشى تصرفات الناس ومقاومتهم فإنها تبطل وتنتهي أما خلاصنا فيبقى أبديًا.

الإنسان الروحي الحيّ يتطلع إلى إنسانه القديم الذي خلعه في مياه المعمودية كثوب قد بلى، وكبعوض قد مات في ضعف، أما تعييرات الناس وشتائمهم فكثوب يأكله العث وكصوف يأكله السوس! إنها أمور زمنية بالية لن تبقى كثيرًا، نحتملها بلا اضطراب، فإننا بهذا نُشارك مخلصنا الذي احتمل التعييرات والإهانات بسرور من أجلنا. قابل الشر بالحب، محتملاً ضعفات الأشرار.
أسفار الكتاب المقدس
أعلى