قلب تعليم يسوع : الخطبة على الجبل
ان فهمنا ما قاله يسوع في هذا النص العظيم ، بلغنا في الحقيقة قلب الدين المسيحي ، فهو من اهم نصوص الانجيل. يجب الكفّ عن تسميته "عظة" ، فان اختيار هذه الكلمة اختبار غير موفّق على الاطلاق. من هذه الخطبة على الجبل ، التي نجدها في انجيل القديس متى ( الفصول ٥ﻭ٦ﻭ٧) وفي انجيل القديس لوقا (الفصول ٦\١٢ـ٤٩) ، تنبعث وحدة لا تقبل الجدل : وحدة الاسلوب ووحدة المنطق. فيسير تفكير المسيح وفقا" لمنطق داخلي هو منطق الدين المسيحي : منطق نمط الحياة ونوعية الوجود التي اتى يسوع لينشئها. وبكلمة واحدة ، منطق الحب.
الانتماء الى الدين المسيحي هو المشاركة في اختبار الابن
تسبق الخطبة في انجيل لوقا ملاحظتان على شيء من الاهمية : قضى يسوع الليلة كلها في الصلاة على الجبل (٦\١٢) واختار ، في الصباح ، اثني عشر تلميذا" سمّاهم رسلا" (٦\١٣ـ١٤)
صلاة يسوع: نحن امام سر عظيم ، سر الثالوث الاقدس ، نتصوّر يسوع يخاطب الآب والروح القدس وهما غيره وليس هما آخرين (فان اللّه واحد). هو تجسّد ، فخضع لسنّة الخليفة ، وهي قبول ان تكون عطاء ومن اجل العطاء. ورد على لسانه في انجيل يوحنا : " لا افعل شيئا" من عندي" ، (يو ٥\٣٠). وستكون الخطبة دعوة الى الوجود البنوي : وهو سيتكلّم عن خبرة ، فاننا لا نتصور يسوع يقول اشياء لم يختبرها ولن يعيشها ، بل سيدعو الى المشاركة في اختباره ، وهو اختبار البنوّة ، اختبار الابن الذي هو مجرّد ابن. وهذا امر يجب ان نعدّه هاما" جدا" ، ان اردنا ان نخرج من المفاهيم النظرية ونفهم مرة واحدة أن كل شيء هو مسألة اختبار.
اختبار الرسل : لمّا كان تعليم يسوع دعوة الى المشاركة في اختباره للبنوّة ، للمحبة التي يعيشها اولا" كقبول (الابن يأخذ من الآب) ، وجب ان يكون الناس الذين يبشرون بأن اللّه أب أوّل من شاركوا في اختبار معلمهم. وسيتبع الاثنا عشر يسوع بعد اليوم اينما ذهب. نرى مرقس يوضّح فيقول :" فأقام منهم اثني عشر يصحبونه فيرسلهم يبشّرون" (٤\١٤). ليس تعليم يسوع فلسفة ، بل هو اختبار حياتي. فلا يستطيع رسل يسوع ان يكونوا دعاة فلسفة ، دعاة نظام فكري. ولن يستطيعوا ان يرددوا كلامه ، ما لم يستطيعوا ان يشهدوا لاختبار ، لاختبار علاقة معيّنة مع اللّه. ولمّا كانوا يعيشون مع يسوع ، كانت شهادتهم ناقصة الى حد بعيد :" كانوا بطيئي الايمان وسريعي التشويه وثقيلي الاحتمال". امّا بعد العنصرة ، فان الروح القدس ، الذي هو روح يسوع ، اي ذلك الذي يلهم وينعش نشاط يسوع من الباطن ، سيهب لهم ان يؤدّوا في انفسهم طريقة يسوع في العيش ونمط حياته ونوعية وجوده والحياة التي يعيشها كاملة" وفقا" لمنطق المحبة. والاّ ، كان الدين المسيحي نظاما" ، اي شيئا" آخر تماما" ، في حين انه يصبح على جانب كبير من الاهمية ، ان كان اختبارا".
الانجيل لجميع الناس
في نظر لوقا ومتى على السواء ، توجّه الخطبة الى التلاميذ. ولكن كلاهما يشيران الى وجود جمع غفير جاء من بعيد ، لا من اورشليم فقط ، بل من ناحية صور وصيدا. ذلك بأن الرسالة التي سيبلّغها يسوع ليست نظرية (انها اختبار يعيشه الانسان) ، وليست ايضا" سرية (انها لجميع الناس ، لا مقصورة على بعضهم). سيقول يسوع :" والذي تسمعونه يهمس في آذانكم ، نادوا به على السطوح" (متى ١٠\٢٧). وسيقول المجمع الفاتيكاني الثاني مرددا" الصدى : "الكنيسة هي من اجل العالم". فاذا كان التلاميذ يحيطون بسيوع بصفتهم تلاميذ ، فمن اجل الجمع الغفير يفعلون ذلك. وما سيقوله يسوع للتلاميذ يهمّ جميع الناس. واذا كان هناك تلاميذ ، فلبشهدوا على اعين الجمع بأن الاختبار الحياتي المقترح على جميع الناس هو في متناولهم جميعا" ، بما ان بعضهم قاموا به بقبولهم ان يتبعوا يسوع.
فاللوحة المعروضة لنا واضحة جدا" ، وهذا ما يطلبه القديس اغناطيوس دي لويولا في الرياضيات الروحية. لننظر قبل ان نصغي : فهناك يسوع ، والتلاميذ المجمّعون حوله ، والجمع المزدحم على متصف منحدر الجبل (التوضيح من لوقا). ترون :
يسوع التلاميذ الجمع
القدوس الذين تمّ تقديسهم القابلون للتقديس
اللّه المتأنس المؤلهون القابلون للتأليه
الانسان الحر الذين تمّ تحريرهم جميع "المدعوين الى
الحرية" (غل ٥\١٣)
الابن الكامل كابن الذين يقومون جميع المدعوين الى
باختبار البنوة القيام بهذا الاختبار
ماذا يرى الجمع ؟ يرى يسوع وتلاميذه الى جانبه. التلاميذ هم أناس كانوا ، الى عهد قريب ، اعضاء من الجمع ، يعيشون كسائر الناس ويتّبعون نمط حياة سائر الناس. أمّا الآن فأصبحوا ينتمون كليّا" الى يسوع ، ويعيشون معه ومثله ، ويتبعونه "اينما ذهب" . فيرى الجمع أن هؤلاء الناس جرى لهم ما لم يجر للآخرين. هذا امر واضح ومنظور.
ماذا يرى التلاميذ ؟ يرون الجمع الذين خرجوا منه والذي سيرسلون اليه.
ماذا يرى يسوع ؟ يرى الى جانبه نواة كنيسته ، والى البعيد الكنيسة الكبرى التي يريد ان تكون حدودها حدود العالم. يرى الجميع الذين يدعوهم ، عن يد التلاميذ ، الى المشاركة في اختباره كابن اللّه. انه هو رسول الآب ، فسيكون التلاميذ رسل يسوع. وهو يعلم أن العالم سيرفضهم ، كما سيرفضه. وسيعيشون على مثاله ، سر الصليب الذي هو قلب الفعل الخالق (حين خلق اللّه ، تعرّض لصليب الابن).
تجنّب تفسير التطويبات بالمقلوب
حينئذ ، "فتح يسوع فاه". ان هذه العبارة السامية التقليدبة ، التي استعملها متى ، تشير الى اهمية ما يلي ، فكأنها دعوة الى السكوت ، لئل تفوتهم كلمة. وأول أقوال يسوع ، كما نعلم ، هي التطويبات. جرت العادة المؤسفة ان تعزل التطويبات عمّا يليها ، كما لو كانت التطويبات وحدة مستقلة وذات قيمة في حد ذاتها. وقد يخطر ببال بعض المسيحيين ان التطويبات والخطبة على الجبل تترادفان ، كما لو كانت الخطبة التطويبات. في الواقع ، تستغرق التطويبات نحو عشرة أسطر ، في حين ان الخطبة تمتد الى ثلاثة فصول طويلة من انجيل متى.
ان هذه العادة في الفصل بين التطويبات وما يليها عادة مؤسفة ، لأنها تؤدي حتما" الى الوقوع في خطأ تفسيري جذري لفكر يسوع ، كما لو قامت رسالة الانجيل على القول بأن ما كان اسود اصبح أبيض فجأة ، وكما لو وجب علينا بعد اليوم ان نسمّي سعادة ما كان تعاسة (البؤس والدموع والجوع). وفي اقصى مدى ، نكون قد قدّسنا الألم والعذاب باسم يسوع ، ورغّبنا بالتالي عن بذل الجهود البشرية للانتصار عليها : لا تجعلوا الناس اغنياء ، بما ان يسوع قد قال : الفقراء هم السعداء ! فنصل الى الكفّ عن النشاط الى الاستسلام امام مصائب الناس ، لأن يسوع قال ، على ما يزعمون ، ان التعاسة في نظره هي السعادة.
لقد وقع هذا الخطأ التفسيري ، ونحن نكفّر اليوم عن الاخطاء التي ارتكبت. ورد في كتاب ﭙيغي ، "جان كوست"، صفحات عنيفة الى حد لا يصدّق. غير وارد ان يقدّس البؤس ، غير وارد ان يقال للفقراء الذين ليس لهم ما يسدّون به ميزانيتهم في آخر كل شهر : لا ينشغل بالكم ، فان يسوع يصرّح بأنكم سعداء لأنكم تعساء ! لو كانت التطويبات تعرض علينا تعزية مبتذلة ، لكان الدين المسيحي دينا" كئيبا" ودامعا". فالحق اننا نحلم بسعادة رخيصة وقائمة على الافراح الرخيصة. هذا هو الحلم الذي جاء يسوع يستنكره ، وما يعرضه علينا (تلك هي الكلمة الاساسية) هو ان يحوّل توقنا نفسه الى السعادة. طوبى لمن كانت نفوسهم رفيعة فأصبحت رغبتهم الاساسية ان يحيوا كأبناء الآب الذي في السماوات !
فالفقر والدموع والجوع والاضطهاد ليست شروطا" ليكون الانسان سعيدا" بتلك السعادة التي أتى بها يسوع. وليست التعاسة نوعا" من الشروط المسبقة ، كما لو كان البكاء والجوع ضرورين لتذوّق السعادة الحقيقية. كتب الأب جاك غيّيه هذه الجمل ، وهي تبدو لي حاسمة : " يبقى البؤس والاسر والجوع والدموع ، في نظر يسوع ، وجوه تعاسة الانسان المختلفة ، واذا اعلن سعداء من عانوا منها ، فلأنه جاء ينقذهم منها ... لا تقوم طرافة الانجيل على القول بأن ما كان اسود أصبح أبيض فجأة ، بل على ايجاد مخرج جديد وسعيد للذين هم في التعاسة".
ان التطويبات تدخل الانسان في سير تحويلي للوجود. وهي تفسير مسبق لسرّ الفصح ، اي لانتقال من الطبيعة الى التاريخ او الى الحرية ، لسرّ التخلّص من "أنا" جاهز ، بقصد خلق النفس بالنفس. المطلوب من الانسان ان ينتقل من الحرية ، انطلاقا" من ذلك "الأنا" الذي جهّزته الوراثة والبيئة والتربية. ام توقنا العفوي والغريزي الى السعادة يوافق طبيعتنا ، ولا بد ان يحوّل ليصل الى الحرية الحقيقية.
فالطويبات هي اذا" دعوة. لا تعبّر عن حقيقة عامة (التعساء سعداء) بل تدخلنا في موقف وتدعونا الى المشاركة في الاختبار الذي هو اختبار يسوع. والحال ان تابع الخطبة على الجبل هو الذي يقول لنا ما هو ذلك الطراز الحياتي الجديد الذي يوافق عظمة الانسان الجقيقية ، والذي تنتج عنه السعادة ، لا سعادة رخيصة وقائمة على الافراح الرخيصة ، بل سعادة جديرة بالانسان ، سعادة بحجم عظمة ابناء اللّه ، سعادة المحبة ، لا سعادة الرغبات المحقّقة. فأية سعادة تريدون ؟ سعادة من أيّ نوع وعلى أيّ صعيد ؟ هذا هو المهم. فان هناك أكثر من صعيد سعادة ، كما ان هناك ، على صعيد الثقافة ، موسيقى جديرة بأعمق ما في الانسان ، وموسيقى تلبّي اكثر ما في الانسان سطحية.
طوبى لفقراء الروح ، فان لهم ملكوت السماوات
ان فقر الروح هو في صميم المحبة. فالمحبة بدون الفقر ليست بالمحبة (وهذا غير مفهوم ، ان لم تختبروه). ولذلك فاللّه نفسه فقير : انه غريب عن التملّك (اللّه لا شيء له) ، لأن كيفية وجوده هي المحبة.
فقر الروح هو عدم تملّك انفسنا ، وبالتالي ترك الآخر يشك فينا من جهة ، والثقة به من جهة اخرى في امر سعادته هو. ان الجملتين اللّتين تحددان هوية الفقير هما هاتان : "أثق بك" – وهو الايمان – و"أعهد اليك بسعادتي" – وهو الرجاء. فان استند الفقير الى الايمان والرجاء ، عاش في الحبة ، وتمكّن من القيام بخدمة الآخر والآخرين ، فانه اصبح محررا" من العقبات.
من أوّل الكتاب المقدس الى آخره ، يبدو "مسكين يهوه" عبد الرب ، فهو اذا" في الملكوت : طوبى لفقراء الروح فان لهم ملكوت السماوات. هل دخلتم في ذاك الاختبار ، ذاك الطراز ، ذاك النمط الحياتي ؟ ان دخلتم ، كان لكم الملكوت. أمّا الذين لم يدخلوا فيه ، فيسوع يدعوكم : ان قلتم : نعم ، أصبح الملكوت لكم ، اي صلة الألفة باللّه. ان تطويبة الفقر تسود الانجيل كله. فلو لم يكن اللّه نفسه فقيرا" ، اي غريبا" عن التملّك على الاطلاق ، لكانت تطويبة الفقر غير معقولة : ليس اللّه ايّ شيء ، فهو كل شيء ، فالذي هو كل شيء لا شيء له. وهذا الشيء كله شيء يعطى وليس هو الاّ محبة.
طوبى للودعاء ، فانهم يرثون الارض
الوداعة قريبة جدا" من الفقر ، حتى ان المفسرين يتساءلون هل تطويبة الودعاء هي غير تكرار لتطويبة الفقراء. ذلك بأن كلمة "عناو" العبرية تدل في آن واحد على الوداعة والفقر. انها التخلي عن كل حق شخصي ، ان كان وحده معنيا" وان كانت القضية مجرد قضية اعتزاز بالنفس (لمن النظام القضائي ضروري في المجتمع ، كما ان السلطة التي تحميه امر ضروري).
الوداعة مرتبطة بالهدوء والعزم, انها المحبة ، لا في الطبع فقط ، بل في العقل. هي تدفع الى الاصغاء الى الآخرين والى تفهّمهم ، حتى لو اختلفت آراؤهم عن آرائنا او تعارضت معها. الوداعة تتجنّب المواقف المتصلّبة امام مفاجآت التاريخ ، وتمكّن من ابتكار الجواب ، يوما" بعد يوم ، تلبية" لنداءات الحدث ، وهو كثيرا" ما لا يمكن توقّعه.
طوبى للمحزونين ، فانهم يعزّون
افضل ما قيل في تطويبة المحزونين ، في العصر الحديث على الأقل ، هو ولا شك النص الذي كتبه ﭙيغي في ١٩٠٩ والذي عنوانه "نحن مغلوبون" : "ميل وتحذير ووخز حفيّ يخبرنا بأن النجاح لا يخلو ابدا" من الشائبة ولا الانتصار من الخشونة ، ولا حسن الحظ من الشائبة المتبقيّة،الميتافيزيقية على الاقل ، وبأن سعف المجد السرية العليا في التاريخ منحت دائما" لسوء الحظ".
كلام ﭙيغي هنا كلام نبيّ من الانبياء ، فيحتاج نصّه الى توضيح من قبل احد الفلاسفة (النبيّ والفيلسوف يقولان شيئا" واحدا" ، شيئا" لا يختلف عمّا ورد في الانجيل : شيء عجيب !) ، وهو جان لاكروا : "النجاح صالح في حد ذاته ، فهو الذي يضفي معنى على بذل الجهد (يبذل الجهد للوصول الى النجاح). بالنجاح ، اي بالانتصار على العقبات ، نزداد وعيا" وخلقا" لأنفسنا. لكن النجاح لا يكون صالحا" (بشكل غريب) الاّ بقدر ما يكون أكبر كاشف للفشل ... فاذا انتهى بنا النجاح الى نسيان الفشل ، كان شر الملاهي. ان الذين ينجحون في كل شيء ، وليس لهم مثال اعلى غير الانتصار ، هم تلك الكائنات السطحية التي لا تصل ابدا" الى الوجود الصحيح الذي يستشعره مع ذلك المنعتقون واللاهون وخائرو العزائم والفاشلون على انواعهم ، والذي يشكّل عذابهم الأليم ... لم تقم عظمة دون جوان على كونه رجلا" ناجحا" ، بل على البقاء غير راض عن جميع انواع نجاحه وعلى مواصلة السعي ، في كل امرأة ، وراء مثال اعلى لا يستطيع ابدا" ان يدركه".
نرى اذا" بأي معنى يقول يسوع ، حين يصرّح بأن المحزونين يعزّون ، انهم سعداء. قيل في موسيقى شوبير "ان الموت حاضر منذ الآن في الرقص". لكن الانسان لم يخلق للموت ، بل للحياة. ولذلك فان علم الانسان بأنه ابن اللّه هو العيد البشري الحقيقي ، وهو العيد الوحيد في آخر الامر. أتى به يسوع الى الناس ، فلا بدّ من قبوله ، اي من القيام باختبار البنوّة الالهية : ان نحيا ، لا ان نفكّر فقط ، كأبناء لهم أب.
أذكر ذلك الكاهن الذي كنت اصادفه فأقول له عفويا" : كيف حالك ؟ فيجيبنى على نسق واحد : لا يمكن ان اكون سيئ الحال ، فان الآب يهتم بي. ليس الامر واضحا" ، فلا بد من تصديق ما يقول. والقضية قضية اختبار ! وفي آخر الامر ، لا يمكن ان يختلف هنا الاختبار عن اختبار يسوع ، لأن يسوع وحده يختبر أبوّة اللّه بحصر المعنى ، وبناء على كلامه نؤمن بأن الآب يهتم بنا. والاّ فكيف نعرف ذلك ؟ ليس من الواضح ان اللّه يهتم بالذين يموتون شيئا" فشيئا" من السرطان على سرير احد المستشفيات!
في "الحذاء الاطلس" ، يضع كلوديل على لسان احد أبطاله : "بما اني لا استطيع ان اهب لها السماء ، يمكنني على الاقل ان انتشلها من الارض. انا وحدي استطيع ان اوفر لها عدم كفاية بحجم رغبتها". الويل اذا" لجميع الذين لم يكشف لهم عدم كفايتهم ! وبعبارة اخرى ، الويل للمكتفين !
طوبى للجياع والعطاش الى البر ، فانهم يشبعون
الجوع والعطش الى البرّ ، هذه هي الطريقة الوحيدة لنكون ابرارا". المطلوب هنا هو الامانة. والامانة للنفس هي عدم كف الانسان عن السعي ليكون امينا" لنفسه. السعي او الطلب هو من كلمات الكتاب المقدس الاساسية. قال يسوع في مكان آخر : "اطلبوا فتجدوا" و "اطلبوا اولا" ملكوت اللّه وبرّه" ، تزادوا هذا كلّه". لكن من اكتفى بالعالم وبنفسه أنكر أنه لانهائي. يمكننا ان نقول ، بمعنى معيّن ، ان الكنيسة موجودة للمنازعة في وجود جميع المجتمعات ، أيّا" كانت ، وجميع السياسات ، حتى أفضلها. بحكمة وبصيرة ، طبعا" لكن الانسان لا يستطيع ابدا" ان يكون مكتفيا" بوجه تام في هذه الدنيا. يمكن القول بأن الانسان لانهائي اجوف ، لا يرضيه الاّ اللانهائي الحيّ الذي يبذل نفسه .
طوبى للرحماء ، فانهم يرحمون
الرحيم ، بحسب اشتقاق هذه الكلمة ، هو بائس القلب ، فانه يتألم من الم الآخرين . من كان لا يعرف ان "يتألم مع" لا يستطيع أن يتقبل عطية اللّه ، فان اللّه هو نفسه اول من يتألم مع الانسان. ان عذاب المسيح والآمه وموته على الصليب هي العلامة الحسيّة لعمق المحبة في اللّه ، وهذا العمق يجوز لنا ، ولا شك ، ان نسميه ألما" (وهو شيء غامض جدا") ، والاّ لا تكون المحبة محبة ، ولا يكشفه لنا الاّ ألم المسيح.
تتضمن الرحمة ان يفضّل الصغار والضعفاء والبؤساء والمرضى والمنعزلون (من أشد الآلام البشرية) والمذلّلون والمعنّفون والمظلومون والمغتمّون والقلقون. هذا هو النمط الحياتي الذي عاشه يسوع : العمل على تحرير المستبعدين بوجه من الوجوه ، وشهادة الانسان على انه نفسه لا يكون انسانا" حرا" ، ما لم يعمل على تحرير اخوته. اذ أنه يستحيل الانتقال الى الحرية من دون الانتقال الى المحبة. لا حرية خارج المحبة . أن يكون الانسان حرا" وان يحب هما شيء واحد.
طوبى لاطهار القلوب ، فانهم يشاهدون اللّه
سأل بونهوفر : "من هو طاهر القلب ؟ من لا يدنّس قلبه بالشر الذي يرتكبه ولا بالخير الذي يعمله". عدم تدنيس القلب بالخير الذي يعمله الانسان ، هذا هو شيء الهي لا يستطيع احد ان يعطيه الا اللّه. عدم تملّك الانسان للخير الذي يعمله هذه هي الطهارة ، اي البساطة والخلوّ من الثنايا. الطهارة هي موقف الذي لا يعود الى نفسه ولا يطبّل باحساناته. أذكر انقاذ بنت صغيرة كاد أن يحطمها القطار. أظهر المنقذ كثيرا" من البطولة ، مخاطرا" بنفسه. فلمّا كانوا يذكرون امامه هذا العمل ، كان يقول : "شيء طبيعي وليس هناك اي مشكل ، فاسكتوا ، اذ ليس لي اي فضل".
والبساطة هي ، بالمعنى الدقيق ، عكس "الازدواجية" بمعنى الرياء: لا ينظر الانسان الى نفسه يعمل الخير ، أن لا ينظر الى نفسه ينمو بالمحبة ، كما ان امرأة غنجة امام المرآة ترى نفسها جميلة بكل ما يضيفه الاصطناع الى جاذبيتها الطبيعية. الوجود "المزدوج" هو الوجود المقنّع ، فان القناع يضاعف الوجه (يقال في بعض الناس انهم ذوو عدة وجوه). أرانا مرسيل بروست الى اية درجة يبدو القناع والمكياج من خواص الحياة العالمية. ولقد حلّل مختلف وجوه عدم الوجود او الوجود المقنّع. ما من شيء اكثر الاشكال ممّا لا وجود له ولا معنى. ان اللّه يحب وجوهنا الواحدة وغير المقنّعة ، فهي وجوه فقراء. فوجهي الحقيقي هو ذاك الوجه الذي سيرى اللّه ، والذي سيكون وجها" لوجه معه للأبد.
طوبى للساعين الى السلام ، فانهم ابناء اللّه يدعون
يجب على الانسان ان يكون في سلام مع نفسه ليعمل على احلال السلام بين البشر. ويقوم السلام في النفس على توحيد الباطن ، وهو امر لا يناقض عدم الاكتفاء الفطري بكل ما لم يكن الاّ بشريا". فالاكتفاء بالنفس هو مبدأ خاطىء في توحيد الباطن.
السلام في النفس هو القيام ما وراء جميع التعارضات الثانوية التي تظهر على السطح ، وهو التوفيق الى حد ما بين الامور التي تبدو للعقول السطحية غير قابلة للتوفيق ، والتي تخلّف التقدّميين والتقليديين ، والقوميين والدولّيين ، واليسارين المتطرّفين واليمنيين المتطرّفين ، والمتصوّفين والمجادلين ، وبكلمة واحدة كل ما هو "متشيّع" لأنه من جانب واحد. ان اردنا ان "ندعى ابناء اللّه" ، اي اخوة فان لم يكن الابن ابنا" حقيقيا" ، لم يكن الناس اخوة" له. ولا يمكن ذلك ، ما لم تكونوا انتم في سلام وموّحدين باطنيّا" فتعملوا على احلال السلام الشامل.