سلام المسيح يا ست نعومة الجميلة، لعلك بكل خير وصحة وسعادة. أشكرك على افتقادك وعلى رسائلك ومشاركاتك عموما، كل هذا النشاط الرائع الذي لاحظته مؤخرا. أعتقد أنك الآن يا أمي بحال أفضل قليلا مما كانت عليه الأمور سابقا وقد أسعدني ذلك كثيرا. أقصد بالطبع روحيا وليس حياتيا أو عالميا. ما يدور بالعالم هو فقط "قصة الأنا" وحكاياتها التي لا تنتهي، وفي الحقيقة لا تعني الكثير. المهم هو حال القلب، حال الروح ومدى اقترابها من الله أو ابتعادها عنه. هذا بالتالي هو ما أسعدني، عندما لمحت بعض السكون والهدوء نسبيا في رسائلك. ربنا يباركك يا أمي الجميلة وليكن سلامه ونعمته دائما معك.
***
بعضنا يقول انا لا اشعر بوجود الله في حياتي والشعور بـ(عدم) وجود الله هو ضد الايمان المسيحي فالايمان المسيحي هو الثقة بما يرجى اي ان نثق بالهنا رب المجد يسوع بوجوده اللي مالي الكون وبرجائنا فيه بالملكوت الابدي من هنا على الارض .......... ولا تقل بانني لا اشعر بوجوده في حياتي فبذلك لا تصدقه وتصدق بوجوده في حياتك وذلك يهينه اضافة الى ذلك فلو تأملت بكل شئ من حواليك ستدرك بان الله موجود وشايل الكون بكلمة قدرته وشايلك على منكبيه وحاططك في نن عينيه وبيحارب عنك ان لزم الامر ومسيج حواليك بسوره الناري وسحابة مجده تظللك ولان ايماننا المسيحي هو ان تصدق ثم ترى لا ان ترى ثم تصدق به
لا يا ست نعومة، سامحيني ولكن ليس هناك طبعا أي "إهانة" لله، حاشا، وليس هذا "ضد" الإيمان كما تعتقدين. حديثك يا أمي طيب جدا وقد أمتعني بالفعل، أشكرك على هذه الرسالة الجميلة. أما من حيث الإيمان فنحن نؤمن بالفعل بكل ما تقولين. نحن نثق بالطبع بإلهنا ونؤمن بوجوده. المشكلة ـ كما أفهمها وأقابلها أحيانا ـ هي أننا ببساطة لا "نشعر" بهذا الوجود في حياتنا، وهذا أمر لا نملكه. هذا ليس بأيدينا. إيماننا سليم، لكنه عقلي نظري بحت. ليس لنا "اختبار" داخلي مباشر أو "خبرة" حية بالله في حياتنا.
أما السبب يا أمي ببساطة فهو أن هناك "جهاز اتصال" يربط بيننا وبين الله، وهذا الجهاز معطوب لا يعمل! إنه "النوس": أعلى قوى النفس وأعظم مَلَكاتها التي خلقها الله بالإنسان وميّزه بها عن سائر الخليقة، أعلى حتى من العقل نفسه. النوس (nous) كلمة يونانية نجدها بالكتاب وعند الآباء ولكن يصعب دائما ترجمتها: نترجمها أحيانا على أنها القلب، أحيانا على أنها الذهن، وأحيانا على أنها النفس أو الروح كلها، حسب السياق والمعنى المقصود في كل حالة.
يقول الآباء عن هذا النوس إنه "عين النفس" أو "عين الروح": كما أن الجسد بدون العين يعيش في ظلام ويتحول صاحبه إلى ضرير يتخبط، كذلك النفس بدون النوس عمياء تتخبط في الظلمة. النوس ـ لأنه يصلنا مباشرة بالله ـ هو مركز الحكمة والوعي والاستنارة والحدس والإلهام والإبداع وحتى النبوة. هو أيضا ما نسميه "البصيرة"، تلك العين الداخلية التي ترى الحقائق وتدركها، لا عن طريق العقل والحواس وإنما بطريقة حدسية مباشرة.
ما الذي حدث إذاً عند المعصية والسقوط؟ وما الذي يحدث كل يوم مع كل خطيئة نرتكبها، ولو حتى بأفكارنا؟ ببساطة ينقطع الاتصال بين الإنسان وخالقه، من ثم يظلم هذا النوس وينطفئ، يظلم قلب الإنسان وذهنه وتظلم روحه كلها!
ولكن ماذا تفعل النفس حين يظلم النوس أو يضعف؟ إنها تلجأ عندئذ إلى "العقل" ليقودها، بينما العقل ـ بدون النوس أو القلب ـ هو نفسه أعمى يتخبط، رهينا أسيرا للحواس، تتقاذفه الأفكار والهواجس وتعبث به الأوهام والخيالات. ولكن هكذا تدريجيا صار الإيمان عقليا نظريا لا اختباريا حيا. صار مجموعة من القواعد والسلوكيات: افعل كذا ولا تفعل كذا. لم يعد إيمانا ينبع من الخبرة الحية والرؤية المباشرة كما كان لدى الآباء مثلا، وإنما صار مجرد "دين" آخر، ومن ثم ـ كأيّ دين ـ صار مذهبا أخلاقيا ومجموعة من العقائد والأفكار المجردة. الدين في الحقيقة، كما يقول اللاهوتي الكبير الأب جون رومانيدس، هو نفسه مرض من أمراض العقل! مجرد أوهام وإسقاطات يخترعها عقل الإنسان ـ عن آله أو آلهة ما ـ ثم يصدقها. ولا عجب بالطبع لأن العقل ـ بدون النوس، بدون المعرفة الحقيقية بالله والاختبار المباشر معه ـ لا يملك أفضل من ذلك!
***
المطلوب بالتالي ـ كي نشعر حقا بوجود الله في حياتنا ـ هو ببساطة أن نشفى يا أمي أولا. المطلوب ـ بالتحديد ـ أن نُعيد هذا النوس أو هذا القلب الكسير المعطوب إلى العمل مرة أخرى، إلى الاستنارة وإلى التواصل المباشر مع روح الله لمعرفته حقا ولاستقبال أنواره ونعمته التي لا حدود لها. تلك هي "رحلة المسيحي" إذا أراد الله حقا، إذا أراد الحقيقة الأسمى بكل هذا الوجود، إذا أراد على الأقل التحرر وأراد الخير والجمال والمحبة والسلام والسعادة.