فإن سيرتنا نحن هي في السماوات، التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح ( في 3: 20 )
كلمة «سيرتنا» في الآية موضوع تأملنا اليوم تعني ”جنسيتنا “ أو ”موطننا“، وإنني عن نفسي أفضِّل كلمة ”بيتنا“ لتأدية المعنى المقصود.
فإن الكلمة المقترحة تقرِّب المعنى إلى الأفهام العادية، لا سيما وأن النص الأصلي يتفق مع هذا المعنى.
وعليه نقدر أن نقول: ”فإن بيتنا هو في السماوات التي منها أيضًا ننتظر مخلِّصًا“.
ومن كِلا الوضعين نرى أن الصفة البارزة التي تميزنا في هذه الفترة الحاضرة هي السهر ورجوع المخلِّص.
ولا شك أن تلك اللحظة التي نتوقعها بالصبر تقرب وتقرب جدًا، فالأمور تجري على عَجَل لتنهي هذا التدبير الحاضر. على أنه ليس لنا أن ننتظر علامات، بل علينا أن ننتظر المخلِّص الرب يسوع المسيح.
إن هذا الحق الهام ينبغي أن يؤثر على حياتنا وعواطفنا واهتماماتنا، ويجعلنا نعمل كل شيء في ضوء رجوع ربنا ومخلِّصنا العزيز المبارك الذي قارب على الأبواب.
يقول الرسول في العدد الذي اقتبسناه ”فإن بيتنا هو في السماوات“ ومن هذا القول نفهم صفاتنا وحالنا أننا غرباء ونُزلاء نعبر صحراء مُجدبة.
وإننا لسنا مستوطنين في منازل خالدة شيّدناها لأنفسنا حيث كان ربنا الغني غريبًا بلا مأوى.
أي نعم، فنحن نتوقع الرحيل ولذلك لا يمكن بالطبع أن تستقر أقدامنا على الأرض لتخلد عليها.
ولكن هل نرضى أن ندخل عمليًا في حقيقة أن ربنا قد يأتي في هذه اللحظة؟
فربما ونحن نُطالع هذه الكلمات، نسمع هتاف البوق، حينما يُقام الراقدون، ونتغير كلنا لنقابل ربنا المبارك الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا.
فهل رجاء رؤيتنا لشخصه الكريم يؤثر علينا ونحن في سفر الطريق؟ إننا مُطالبون أيها الأحباء أن نحاسب قلوبنا لأنه يوجد في هذا العالم المضطرب ما يبعد قلوبنا عن هذا الرجاء المبارك.
وإذا رجلٌ اسمهُ زكا وهو رئيسٌ للعشارين وكان غنيًا، وطلب أن يرى يسوع مَنْ هو .. ( لو 19: 2 ، 3)
في قصة زكا رئيس العشارين، نجد درسًا ثمينًا جدًا، وهو أن الإنسان المهتم بخلاص نفسه، الجاد في طلب الحق، المشتاق إلى معرفة الرب يسوع، لا بد وأن يصل إلى غايته ويفوز بأكثر مما يطلب أو يفتكر مهما كان مركزه ومهما كانت ظروفه، فالباحث بالاشتياق لا بد وأن يجد ضالته بالسرور.
هذا الدرس ثمين جدًا، بالأخص في أيامنا هذه التي كثر فيها عدم المُبالاة والجمود الروحي والديانة السطحية.
كان زكا غنيًا وعشارًا، وقد جمع ثروته أثناء قيامه بهذه الوظيفة الممقوتة، إذ كان عُرضة لأن يجرِّبه الشيطان قائلاً: إن مركزك ووظيفتك وظروفك كلها حواجز منيعة تحول دون خلاص نفسك.
قبل أن يخلِّص الرب الخاطئ، يُوجِد فيه رغبة وشوقًا إلى الخلاص، فزكا كان مشتاقًا جدًا، لدرجة جعلته أن ينفك من رُبط الظروف ويتغلب عليها.
فقد كان ساكنًا في أريحا المدينة الملعونة، فضلاً عن وظيفته الممقوتة كما ذكرنا، ولكنه كان جادًا في طلب الرب «فطلب أن يرى يسوع».
والنفس النشيطة تتغلب على كل الصعاب، بل إننا نرى دائمًا أن الصعاب نفسها إنما تعمل على إظهار نشاط النفوس، فالنفس الخاملة تحتج: «الشبل في الشوارع»، بينما لا يكون هناك شيء من ذلك،
أما المشتاقة فترمي بنفسها ولو في مغارة الأسود!
هكذا كان الحال مع زكا، فعندما طلب أن يرى يسوع، قامت في وجهه عقبتان، تثنيان عزم الألوف من أصحاب القلوب الباردة، «ولم يقدر من الجمع لأنه كان قصير القامة».
ما أجمل أن نلاحظ زكا وهو يتغلب على صعابه!
فصعد إلى جميزة. والحقيقة، أنه لا عذر لأحد من الناس: «مَن يُرِد فليأخذ ماء حياة مجانًا» ( رؤ 22: 17 ).
وإننا نقرر كحقيقة ثابتة، أنه لا يوجد سبب في العالم يمنع إتيان النفس للمسيح في الحال، ولا توجد حُجة صحيحة ولا عذر مقبول يستطيع أن يثبت في نور الأبدية أو يبرِّر أي نفس لم تأتِ كما هي إلى المخلِّص لكي تنال خلاصها العاجل.
«يا زكا أسرع وانزل لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك، فأسرعَ ونزل وقبله فَرِحًا».
يا لها من مكافأة حلوة، ويا لها من ساعة سعيدة حظى بها ذلك الذي طلب وركض وصعد، فزكا أدلى ببصره إلى أسفل بالإيمان القلبي، ويسوع المسيح رفع عينيه إلى أعلى بالنعمة الغنية فتقابلت أعينهما وارتبطا رباطًا لا ينفك إلى الأبد.
كان رجلٌ في أرض عوص اسمه أيوب. وكان هذا الرجل كاملاً ومستقيمًا، يتقي الله ويحيد عن الشر ( أي 1: 1 )
توصف أخلاق أيوب بأربع صفات: فقد كان كاملاً، كامل الخُلق (نتكلم إنسانيًا) لا ينقصه الاستواء.
يمتاز كثير من الناس ببعض الملامح النبيلة، لكنهم ناقصون في أركان أخرى من شأنها أن تصطنع إنسانًا كاملاً تامًا. فنراهم مثلاً صادقين، لكن يعوزهم الإشفاق؛ لطفاء لكنهم مُستضعفون. أما أيوب فكان إنسانًا متوازنًا.
ثم أنه كان مستقيمًا، وهذا وصف علاقته بالآخرين. فقد كان البرّ، أي العدالة، تميز طرقه، كما كان يفهمها هو جيدًا.
ثم كان يتقي الله، ومخافة الله رأس المعرفة. لم يكن أيوب، كما يزعم البعض، إنسانًا غير مولود من الله، فقد كانت في نفسه حياة. كان من أولاد الله، لا خاطئًا بعيدًا عنه. وما لم نستوثق من هذه الحقيقة، فإن جانبًا كبيرًا من الاختبارات التي اجتازها يفقد مفهومه.
وأخيرًا كان يحيد عن الشر، أي أن مسلكه الظاهري كان في توافق مع حالة قلبه.
كل هذا السمو الأدبي لم يكن حصيلة دعوى الرياء الجوفاء، بل نتاج الخُلق الحَسَن، من جانب ذاك الذي يقول عنه الله: «ليس مثله في الأرض».
وفي تطابق مع أخلاقه الأدبية، وطبقًا لمستويات العهد القديم، كان أيوب على درجة من الرخاء سواء في دائرة الأسرة أو في المقتنيات. فقد كان له سبعة بنين وثلاث بنات. وإلى جانب وفرة الثراء، كان بنو أيوب يحيون حياة الرفاهية والمُتعة، ويتقاسمون المسرات مع أخواتهم. ولا نشتّم من كلمة الله أن الولائم التي كانوا يولمونها، كانت في ذاتها مطبوعة بطابع المجون والعالمية، كما كانت ولائم ذاك الذي قال لنفسه: «كُلي واشربي وافرحي».
وكل ما في الأمر أن أيوب أدرك احتمال أنهم قد «يشبعون ويكفرون ويقولون مَن هو الرب»، الاحتمال الذي كان يخشاه أجور من ذاته ( أم 30: 9 ). وعلى ضوء هذا الاحتمال أصعد أيوب مُحرقات لكل واحد من بنيه.
ومن الممكن أننا نلمس هنا شاهدًا بسيطًا عن بره الذاتي إذ يظن أن بنيه، دونه هو شخصيًا، هم الذين قد يتحولون عن الله. لكن يبدو أن هذا التصرف إنما يكشف عن قلق في نفس قديس يتقي الله، من أن أولاده قد يستسلمون لنوع من التجارب المألوفة في حياة المسرات.
ويظهر أن هذا العمل قد ذُكر هنا برهانًا على أصالة تقوى هذا الرجل.
اسمعوا لي يا بيت يعقوب، وكل بقية بيت إسرائيل، المُحمَّلين عليَّ من البطن، المحمولين من الرحم ( إش 46: 3 )
على درب الحياة العسير، وبين تقلبات الزمن المرير، وأمام عبوسة الأيام الغادرة، ما أحوجنا أن نتيقن أن لنا مَنْ يحملنا بمحبة هادرة، بذراعٍ رفيعة، وعلى صروف الزمان قادرة.
قديمًا سمع يعقوب خبرًا، يُنبئه بأن حلم الأحلام قد تحقق، أو أقول بأسلوب أدق، أن ما لم يكن يحلم به قد أتاه: «يوسف حيٌ بعد»، فكان رد فعلِهِ «فجمد قلبهُ» ( تك 46: 26 ). فالحلم بعيد، ومناله يحتاج إلى مزيد من التوكيد، وجسده ثقيل، يحتاج لحمله إلى معوانٍ شديد، فيقول الكتاب:
«وأبصر العجلات التي أرسلها يوسف لتحمله، فعاشت روح يعقوب» ( تك 46: 27 ).
فعندما سمع الخبر بحياة ابنهِ «جمد قلبه»، وعندما أبصر العجلات المُرسلة لحمله، «عاشت روحه».
في الآية موضوع تأملنا، نستمع إلى نداء فيَّاض بالطمأنينة من السيد نفسه:
«المُحمَّلين عليَّ ... المحمولين»، ولكن هذه الآية تأتي بعد حديث مأسوي للغاية في نفس الإصحاح، فقبلها يرد: «قد جثا بيلُ، انحنى نبو، صارت تماثيلها على الحيوانات والبهائم، محمولاتكم مُحمَّلة حِملاً للمُعيي، قد انحنت، جثت معًا.
لم تقدر أن تنجي الحِمل، وهي نفسها قد مضت في السبي» ( إش 46: 1 ، 2).
هذه الآيات تتكلم عن سقوط المملكة البابلية، التي استعبدت يهوذا وبنيامين «جثا بيل»، و«انحنى نبو»، وهما الإلهان الكبيران عندهم، وكلمة «بيل» تعني ”رب“، و«نبو» تعني ”نبي“، وعندما هربت بابل أمام المملكة الفارسية، احتاجت تلك المدعوة ”آلهة“، إلى حيوانات، لتُحمل عليها آن الفرار، بل والأكثر صارت حِملاً ثقيلاً أرهقت الحيوانات وجعلتها تنحني، فمضت الحيوانات بالآلهة المُحمَّلة عليها إلى السبي.
أَ ليست هذه مأساة كوميدية! الآلهة تُحمَل أم تَحمِل؟ فبعد هذا الحديث المرير، يتجه السيد إلى بيت يعقوب، ليشجعهم بالقول: «المُحمَّلين عليَّ المحمولين ...، وإلى الشيبة، أنا أحمِل، قد فعلت وأنا أرفع وأنا أحمِل وأُنجي» ( إش 46: 3 ، 4).
أَ لم يستلفت أنظار بل قلوب شعبه قديمًا «أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين، وأنا حملتكم على أجنحة النسور» ( خر 19: 4 ).
بل «وفي البرية، حيث رأيت كيف حَمَلك الرب إلهك، كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق» ( تث 1: 31 ).
ما دام الملك في مجلِسِه أَفاحَ
نارديني رائحته ( نش 1: 12 )
تقول العروس: «مادامَ الملك في مَجلسهِ أفاح نارديني رائحته».
والناردين الذي تُشير إليه المحبوبة هنا هو زيت عطري يُستخلص من نبات نادر، ينمو على سفوح
جبال همالايا في الهند.
ونظرًا لندرته واستيراده من بعيد، كان ثمنه مرتفعًا. وهو يحدِّثنا عن ذاك المجيد المرتفع الذي تنازل من أعلى قمة ووصل إلى مساكين الأرض.
لقد جاءنا المسيح من بعيد، من حضن الآب، ونبت في بيئة حارة، تكثر فيها التجارب، ولكن تحمَّل الكل بصبر، وتصاعدت منه الروائح التي سرَّت قلب الله (انظر على سبيل المثال متى12: 14- 21).
تقول المحبوبة هنا إنه عندما يجلس الملك إلى المائدة، فإنها لديها ناردين، تفيح رائحته في هذه الجلسة. فإن لم تَفح رائحة الناردين في مثل هذه المناسبة، فمتى تفيح؟؟
والطيب هو ”اسم المسيح“.
تقول العروس: «اسمُكَ دُهنٌ مُهراقٌ» (ع3).
وعليه فيكون سكب الطيب ونشر عبيره في المكان يُشير إلى السجود الذي يعني أننا نقدم المسيح، الدهن المُهراق، للآب.
وما أجمل أننا ننشغل بمجد المسيح، وأن يمتلئ القلب به ويفيض. فالسجود هو فيض قلب شبع بالمسيح وامتلأ به. فإذا فاض هذا القلب، فبمَن يفيض؟ وعن أي شخص يتكلم؟ الإجابة: «فاض قلبي بكلامٍ صالحٍ، متكلمٌ أنا بإنشائي للملك. لساني قلمُ كاتبٍ ماهرٍ. أنت أبرع جمالاً من بني البشر» ( مز 45: 1 ، 2).
وهناك فارق بين الشكر والسجود. الشكر يكون على شيء أخذته من الرب، وهذا جميل، لكن أجمل منه المشغولية به هو نفسه؛ أي بشخص المسيح.
عندما أتى الرب لزيارة إبراهيم ليعطيه الوعد بإسحاق قال له: «إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابنٌ» ( تك 18: 10 ).
وإن كان سرور إبراهيم بالابن عظيمًا، فقد كان سروره بالرب الذي سيرجع إليه أعظم. ونحن متأكدون من ذلك لأن الرب عندما امتحن إبراهيم بأن يقدم ابنه له، لم يتأخر ولم يتباطئ، بل بكَّر صباحًا ليقدمه كما أمره الرب. وهكذا، فعند الأتقياء شخص الرب أفضل من عطاياه.
وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليّته. فنظر وإذا العلّيقة تتوقد بالنار، والعلّيقة لم تكن تحترق ( خر 3: 2 )
عندما كان موسى يرعى غنم يثرون المدياني في طرف البرية أتى إلى حوريب، جبل الله، وهناك رأى منظرًا غريبًا. فعلى سفح ذلك الجبل المشهود، شاهد موسى علّيقة تتوقد بالنار، وبالرغم من اللهب المستعرة داخلها لم تحترق العلّيقة.
وقد أخذ العَجَب من موسى كل مأخذ فمال ليستطلع سر هذا الأمر وإذا بصوت الله يناديه، وإذا به في حضرة يهوه العظيم.
ومن داخل تلك العلّيقة تكلَّم الله مع موسى عن خلاص شعبه خلاصًا مجانيًا عظيمًا كاملاً، وأعلن ذاته كالمخلِّص القدير.
وفي تلك العلّيقة المحترقة نجد صورة رمزية لأعظم حادثة خارقة للطبيعة حدثت في تاريخ الدهور.
إن النار الملتهبة تُخبرنا عن الله «لأن إلهنا نارٌ آكلة» ( عب 12: 29 )، والعلّيقة تُخبرنا عن الناس؛ المساكين الخطاة العصاة، في جفافهم وعُقمهم وعدم نفعهم وعدم انتاجهم أي ثمر لله. فإذا ما نزل الله مرة، وهو نار آكلة وديان للشر، في وسط علّيقة البشرية الجافة العقيمة، فماذا تكون النتيجة؟ لا شك أنها نتيجة واحدة مؤكدة هي: احتراق العليقة. هذا هو فكر الإنسان الطبيعي، ومن هنا نشأت رغبته في إبعاد الله عنه. وإن ما حدث في سيناء يؤيد هذا الرأي، فهناك في ذلك الجبل المُخيف ـ وهو نفس الجبل الذي فيه حدثت أول مقابلة لموسى مع الله ـ أعطى الله الناموس وحينئذٍ غطت قمته سحابة وخرجت منها بروق ورعود واضطرم الجبل بالنار، وعندما تكلم الله إلى الشعب خافوا جدًا واستعفوا من أن تُزاد لهم كلمة، وطلبوا من موسى أن يكون وسيطًا بينهم وبين الله.
أجَلْ، فإنه يُخيَّل إلينا ونحن نتأمل في ذلك المنظر المُرعب أن الناس لا بد أن يحترقوا إذا ما نزل الله في وسطهم. ولكن هذا الفكر فاسد لأن الله الذي هو نور هو أيضًا محبة، وقد برهن على محبته في الوقت المعيَّن.
وقد آن ذلك الوقت المعيَّن حينما وَلدت العذراء ابنها البكر «وقمطته وأضجعته في المذود». وهنا منظر لملائكة الله. منظر حرَّك جمهورهم بالسجود والتسبيح لأن اسم ذلك الطفل «عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا».
فطفل مذود بيت لحم كان هو المرموز إليه بالنار المشتعلة في العلّيقة «الله ظهر في الجسد ... تراءى لملائكةٍ» ( 1تي 3: 16 )، جاء الله في وسط الناس والناس لم يحترقوا!
ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نيامًا من الحزن. فقال لهم: لماذا أنتم نيامٌ؟ قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة ( لو 22: 45 ، 46)
أتت ساعة المسيح. ففي جثسيماني تمثلت أمامه كأس غضب الله ضد الخطية التي كان عليه أن يشربها في الجلجثة عن آخرها دون أن يترك منها شيئًا لنا. لقد اجتاز المعركة وحده، وصار عرقه كقطرات دمٍ نازلة على الأرض، وظهر له ملاك من السماء يقويه، من فرط الألم والحزن.
وهذه الحوادث كم هي مجيدة، وكم هي معروفة لنا جيدًا حتى أننا نمر أمامها في بعض الأوقات دون أدنى اكتراث، بينما كان من المفروض أن يكون لها أعمق الأثر في نفوسنا كلما قرأناها، ولكن ربما نحن نيام.
كان من المستحيل أن يشارك التلاميذ سيدهم في آلام جثسيماني، فلم يكن في المعركة سوى الرب بمفرده، وهو لم يفتش عن معاونين له، لكنه لم يجد «انتظرت رقة فلم تكن، ومُعزين فلم أَجد» ( مز 69: 20 ).
وكان من الواجب على التلاميذ أن يسهروا مع الرب، ولكنهم كانوا نيامًا من شدة الحزن. كان سيدهم يجتاز الآلام وهو في شركة مع الآب، وكان من العسير عليهم أن يدركوا مجد اللحظة التي يعيشون فيها، ولا الخطر الذي كانوا يتعرضون إليه، فكرر الرب إليهم هذا القول:
«قوموا وصلُّوا لئلا تدخلوا في تجربةٍ».
إنهم دائمًا أمام فكره. وهو لا يوجه إليهم اللوم، بل يقول لهم بكل رِفق: «لماذا أنتم نيامٌ؟». كان لزامًا عليهم أن يسهروا وذلك لمصلحتهم الشخصية.
وعندما تقدم يهوذا مع الجمع ليسلِّم سيده، كان الرب على استعداد لمقابلته، أما بطرس الذي كان قد غرق في النوم، فلم يكن على استعداد لهذه المقابلة، فاستسلم لطبيعته وضرب بالسيف.
«إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم، فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنَّا» ( رو 13: 11 ).
إن كان هذا الكلام صحيحًا في أيام الرسول، فكم تكون الحاجة الآن إلى الاستيقاظ حتى إذا ما هاجمتنا التجربة، نكون على استعداد لمواجهتها.
إن الصعاب، والأحزان المختلفة ـ ولا سيما الحزن الذي تسببه حالة الضعف التي تجتازها الكنيسة حاليًا ـ لا يمكن أن تكون عذرًا لنا لحالة النوم.
وإذا كنا نيامًا فلنسمع الكلمات الرقيقة التي يرددها الرب الذي أحبنا ومات لأجلنا «لماذا أنتم نيامٌ. قوموا وصلُّوا لئلا تدخلوا في تجربة».
هؤلاء الرجال ... لم تكن للنار قوةٌ على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأتِ عليهم ( دا 3: 27 )
لا يجب أن يغرب عن بالنا أن الوقت الحاضر ليس هو زمان قوة المسيح بل زمان عطفه. عندما يسمح لنا الرب بأن نجوز في مياه التجارب العميقة، كثيرًا ما تميل قلوبنا إلى التساؤل: ”لماذا لا يُظهر الرب قوته ويخلّصنا؟“.
والجواب على ذلك هو: إن الوقت الحاضر ليس وقت قوة المسيح، فهو بلا شك قادر أن يزيل المرض، ويبدد التجربة، ويمنع المصيبة من الحلول، ويحفظ الشخص العزيز من قبضة الموت القاسية، ولكنه عوضًا عن أن يُظهر قوته للخلاص، كثيرًا ما يسمح لتلك الأمور أن تجري مجراها، ثم يمطر وابلاً من عطفه الحلو على القلب المُجرَّب الحزين بكيفية تجعلنا نعترف أننا ما كنا لنقبل العالم كله بديلاً عن التجربة بالنسبة لوفرة التعزية.
هذا أيها القارئ العزيز هي خطة سيدنا في الوقت الحاضر، ولكن بعد قليل لا بد أن يُظهر قوته، لا بد أن يأتي كالراكب على الفرس الأبيض، لا بد أن يُشهر سيفه، لا بد أن يُشمر عن ذراع قوته، لا بد أن ينتقم لشعبه ويستخلص حقوقهم إلى الأبد. أما الآن فسيفه مخفي في غمده، وذراعه مُغطاة ومستورة، لأنه زمان إظهار محبة قلبه لا حِدة سيفه وقوة ذراعه. فهل أنت راضٍ بذلك؟
هل أنت مكتفٍ بعطف يسوع عليك حتى في أشد أوقات التجربة والحزن؟
إن القلب والنفس غير الصابرة، والإرادة التي لم تَمُت بعد، تشتاق لأن تهرب من التجربة والضيقة، ولكن هذا لا يُجدي نفعًا، بل فيه خسارة عظيمة، ولا بد لنا أن نتدرج من درجة إلى درجة في المدرسة، ولكن المعلم برفقتنا، نور مُحياه يضيء علينا، وعطف قلبه يدعّمنا في أصعب التدريبات.
ثم انظر أي مجد رجع إلى اسم الرب عندما جاز عبيده في التجربة ظافرين بنعمته منتصرين!
اقرأ دانيآل3: 26- 28 ثم خبّرني: هل يوجد أثمن وأجمل من ثمار الأمانة في اتباع الرب؟
فالملك ومُشيروه الذين كانوا من وقتٍ قصير مشغولين بالأصوات الموسيقية والعبادة الكاذبة، نراهم الآن مهتمين بتلك الحقيقة المدهشة أن النار التي أحرقت أقوى الرجال، لم يكن لها تأثير على عبيد الإله الحقيقي إلا فيما يتعلق بحل رُبطهم وإطلاقهم ليسيروا أحرارًا مع ابن الله.
ويا لها من أثمار ثمينة للانتذار الحقيقي للرب!
الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج. الذاهب ذهاباً بالبكاء حاملاً مبذر الزرع، مجيئاً يجيء بالترنم حاملاً حزمه ( مز 126: 5 ،6)
يا له من امتياز يمنحه لنا الرب عندما يضع على طريقنا الفرصة للزرع. والزرع هو "كلام الله" ( لو 8: 11 ) وكلمة الله هي ما يهم أن ننشره. "في الصباح ازرع زرعك وفي المساء لا ترخِ يدك" ( جا 11: 6 ).
ومن السهل أن نبدأ، وتوجد مشجعات على الطريق، وحماس البداية يحملنا فوق الصعاب والعوائق. ولكن الوقت يمر، ثم تأتي الدموع؛ صعاب، خيبة أمل، توبيخ، نكران للجميل، تعب، كلل ... وبذلك يستولي الفشل على القلب وينتهز العدو الفرصة ليبعد الذين دخلوا بفرح في عمل الرب نهائياً عن هذا العمل!!
لكن كلمة الله سبق وأن أخبرتنا أن الزرع هو "بالدموع". وهل كان الأمر خلاف ذلك بالنسبة لمخلصنا المعبود؟
كلا. إن العدد التالي يؤكد ذلك:
"الذاهب ذهاباً بالبكاء حاملاً مبذر الزرع". كم من الدموع كانت على طريقه!
كم من الجهد، كم من المقاومات!
ألا نسمعه في نهاية الطريق يقول بفم النبي إشعياء "عبثاً تعبت باطلاً وفارغاً أفنيت قدرتي" ( إش 49: 4 )؟
ألا يوجد في ذلك تشجيع عميق لنفوسنا؟ لو أننا طبقنا عملياً الأعداد الأخيرة لهذا المزمور (ونحن نضع جانباً معناه النبوي) نرى أن الذين يزرعون ليسوا بمفردهم، بل أمام عيونهم ذاك الذي قد عرف الدموع قبلهم وهو الزارع الإلهي، عندما كان يجول في الأرض.
إنه امتياز أن نزرع له، ولكنه امتياز أيضاً أن نختبر الدموع التي كثيراً ما ذرفها هو نفسه.
فهل نفشل إذاً عندما يبدو أن كل شيء يمضي بدون نجاح؟
وعندما يبدو كل شيء عبثاً وباطلاً؟ كلا، لأنه كما بالنسبة لربنا المعبود هكذا الأمر معنا "عملي عند إلهي ... وإلهي يصيِّر قوتي" ( إش 49: 4 ،5). "فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم" ( عب 12: 3 ).
إن "الذين يزرعون (الآن) بالدموع، يحصدون (في المستقبل) بالابتهاج".
ويجب أن نترك للزرع الوقت اللازم لينبت وينمو. ربما على الأرض تظهر بعض السنابل لتفرّح قلوبنا، ولكن ماذا سيكون الحال في يوم المجد حيث سوف يظهر كل شيء؟
ويا للترنم عندما يأتي السيد ويقول "نعماً أيها العبد الصالح والأمين ..."!!
ويا لها من مكافأة على دموع الزرع!!
هذا هو شهيد المسيحية الأول، ومعنى اسمه ”إكليل“. وقد تمتع بامتياز الشركة مع المسيح في آلامه لأجل البر، متشبهًا بموته، واستحق «إكليل الحياة».
ومن خلال ما سجله الروح القدس عنه، نستطيع أن نرى عدَّة مُشابهات مع شخص الرب يسوع المسيح:
1 ـ مشهود له ومملوء من الروح القدس ( أع 6: 3 ). هذه الشهادة كانت من المؤمنين في الكنيسة الأولى. أما المسيح فنقرأ عن سبع شهادات له في إنجيل يوحنا5؛ 7؛ 15 كذلك نقرأ أنه «رجع من الأردن (بعد المعمودية) ممتلئًا من الروح القدس» ( لو 4: 1 ).
2 ـ كان مملوءً قوة، وكان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب ( أع 6: 8 ). وقيل عن الرب يسوع «كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس» ( أع 10: 38 ).
3 ـ كان مقتدرًا في الكتب، وقد وبَّخ اليهود من جهة موسى الذي رفضوه، والناموس الذي لم يحفظوه، وأشار إلى تنحية الهيكل الأرضي. وهذا ما كان يفعله المسيح في حواراته مع اليهود (أع7 مع يو5؛ يو7؛ مت23).
4ـ اشار إلى قتل الأنبياء الذين أنبأوا بمجيء البار ( أع 7: 52 ). وكذلك المسيح وهو يوجه نداءه الأخير لأورشليم ( مت 23: 37 ).
5 ـ حوكم أمام السنهدريم ( أع 6: 12 ). وكذلك المسيح.
6 ـ اتُهم بالتجديف ( أع 6: 11 ). وكذلك قال قيافا عن المسيح: «قد جدَّف» ( مت 26: 65 ).
7 ـ أتوا بشهود زور يشهدون ضده ( أع 6: 13 ). وهذا ما حدث مع المسيح ( مت 26: 59 - 62).
8 ـ مات خارج مدينة أورشليم ( أع 7: 58 ). والمسيح صُلب خارج أسوار أورشليم.
9 ـ مات في عز شبابه، والمسيح قُطع في نصف أيامه ( مز 102: 23 ، 24).
10 ـ طلب الغفران لقاتليه ( أع 7: 60 )، وكذلك المسيح قائلاً: «يا أبتاه اغفر لهم ..» ( لو 23: 34 ).
11 ـ دُفن بواسطة أشخاص أتقياء ( أع 8: 2 )، وكذلك المسيح ( يو 19: 38 - 42).
12 ـ النتائج التابعة: خلاص شاول الطرسوسي (أع9)، وخلاص اللص التائب ( لو 23: 43 ).
أنتَ سترٌ لي. من الضيق تحفظني. بترنم النجاة تكتنفني ( مز 32: 7 )
من الواضح أنه عندما يكون الخاطئ في حالة العداوة مع الله، يكون متصالحًا مع نفسه ومع العالم ومع الشيطان. ولكن في اللحظة التي فيها يتصالح مع الله، تبدأ حربه مع نفسه ومع العالم ومع الشيطان.
من ثمَّ نرى أنه حالما نعرف الله كمُبرِّرنا، في الحال نرى أنفسنا مُحَاصرين بجيش من الأعداء الروحيين من داخل ومن خارج، وهذا يُشعرنا بالحاجة إلى شيء آخر، إلى ملجأ نهرع إليه في كل حين، بل نتحصن فيه ولا نخرج خارجًا عنه.
«أنت سترٌ لي. من الضيق تحفظني. بترنم النجاة تكتنفني» ( مز 32: 7 ).
ما أعظم الفرق بين حالة النفس هنا وحالتها في عددي3، 4 من نفس المزمور (مز32) «لمَّا سكتُّ بليت عظامي من زفيري اليوم كله، لأن يدك ثقُلت عليَّ نهارًا وليلاً. تحوَّلت رطوبتي إلى يبوسة القيظ».
ما أعظم الفرق بين زفير نفس مُثقلة بالخطية، مرتعبة من الدينونة، وبين «ترنم النجاة» الذي تشيد به نفس مُبررة مُحتمية في الله. على أن زفير الاضطراب خير من السلام الكاذب، ولكن المؤمن ليس له نصيب في هذا أو ذاك، لأن اضطرابه قد سكن بواسطة يقينه أن الله هو مُبرِّره وملجأه، لذلك عوضًا عن أن يُخرج زفير الاضطراب، يرنم ترنيمات النجاة، وعوضًا عن أن يصرخ:
”يا لشقائي“، يهتف ”يا لسعادتي“ «بترنم النجاة تكتنفني» و«إن كان الله معنا، فمَن علينا» ( رو 8: 31 )،
و«شكرًا لله الذي يعطينا الغَلَبة بربنا يسوع المسيح» ( 1كو 15: 57 ) و«شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نُصرته في المسيح كل حينٍ، ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكانٍ» ( 2كو 2: 14 ).
هذه بعض ترنيمات النجاة التي بها يكتنف الإله المخلِّص المُبرَّرين والمحميين فيه.
ويا ليتنا نمتلئ بها دائمًا.
إننا بكل أسف كثيرًا ما نُظهر التذمر والتشكي عوضًا عن ترنيمات النجاة، مع أننا لو تأملنا في إحسانات الرب ومراحمه علينا لازداد لهْجنا بترنيمات النجاة ازديادًا عظيمًا، لأنه بمَن يليق الفرح والترنم إلا بالذين تبرَّروا واحتموا في الله.
فقال الأب لعبيده: أَخرِجوا الحُلَّة الأولى وأَلبسوه، واجعلوا خاتمًا في يدهِ، ..، وقدموا العجل المُسمَّن .. فنأكل ونفرح.. فابتدأوا يفرحون ( لو 15: 22 - 24)
لقد لقى الابن الضال ترحيب النعمة، وقُبلات المُصالحة، وأُلبس رداء البر، وخاتم البنوة، وحذاء في رجليه، ولكن هناك شيئًا آخر: مائدة مستوفاة للشبع والفرح «قَدِّموا العِجْل المُسمَّن واذبحوه فنأكل ونفرح».
ويجب أن نلاحظ الفرق بين كلمات الأب بالارتباط بالحُلَّة الأولى، وهنا بالارتباط بالعِجْل المُسمَّن. في المرة الأولى كانت كلمة «أَخرجوا (bring forth)»، والتي توضح أن الابن الضال كان خارجًا. ولكن الآن بعدما ارتدى الحُلَّة الأولى، وأصبح لائقًا لحضرة الأب، في هذا يقول الرسول: «شاكرين الآب الذي أهَّلَنا لشركة ميراث القديسين في النور» ( كو 1: 12 )، فهو الآن داخل بيت الأب، فتأتي كلمات الأب: «قدِّموا (bring hither)». يا لها من دقة رائعة!
«العِجْل المُسمَّن» يتكلم عن المسيح نفسه في كل سجاياه، وهو أيضًا أُعطي بواسطة الآب. ويكلِّمنا ذبحْ العِِجْل المُسمَّن عن موت المخلِّص عنا، حتى يتسنى للخطاة أن يتصالحوا مع إله قدوس.
ولكن «العِجْل المُسمَّن» لم يكن يُذبح فقط، بل كان أيضًا يؤكل مثل خروف الفصح، والأكل هنا يكلِّمنا عن الشركة. ولاحظ هنا كلمات الأب، فهو لم يَقُل ”فيأكل“ بل «فنأكل». فها الأب مع الخاطئ الذي صُولح الآن يأتيان معًا، ويشتركان معًا في ذلك الذي يكلِّمنا عن المسيح.
فذبيحة المسيح هي أساس شركتنا مع الآب.
يا له من وضع مبارك يفوق الوصف!
يا لها من ذروة مجيدة!
فها الضال، الآن ابنٌ على مائدة الأب، فأصبح له مكان الآن ـ ليس بين «الأجرى»، بل ـ بين عائلة الأب. وهم يشتركون معًا في ذلك الذي يكلِّمنا عن المسيح الكامل، الذي ذُبح لأجلنا. وما هي نتيجة تلك الشركة؟
أَ ليس فرح؛ بهجة قلب لا يعرف عنها شيئًا هذا العالم المسكين!
ولاحظ مرة أخرى صيغة الجمع: فليس فقط ”ابتدأ يفرح“ أي الابن، بل «فابتدأوا يفرحون». فالآب وجد مسرته، إذ يتغذى مع أولاده على المسيح الابن!
«وابتدأوا يفرحون» ..
وما هذا الفرح إلا البداية. مبارك الله، فالفرح لن ينتهي.
معًا مع الآب، نجد فرحنا في المسيح، وسوف نفرح دائمًا وإلى الأبد.
ثم جاء ووجدهم نيامًا، فقال لبطرس: يا سمعان، أنت نائمٌ! أمَا قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ ( مر 14: 37 )
أخذ الرب معه بطرس ويعقوب ويوحنا إلى البستان، هؤلاء الثلاثة الذين كانوا على وشك أن يصير لهم مكانًا خاصًا كأعمدة في الكنيسة.
لقد سبق أن اختارهم الرب لكي يكونوا شهودًا لمجده على جبل التجلي، والآن يعطيهم الفرصة لكي يشاركوه في أحزانه في البستان.
لم يكن لأحد أن يشارك في آلام الترْك من الله فوق الصليب، ولكن من الممكن أن يكون هناك نصيب في الاشتراك لحد ما في التدريبات العميقة التي جاز فيها، له كل المجد، في البستان وهو يتمثَّل الصليب أمامه.
كان مزمعًا أن يموت تحت ثقل دينونة الخطية فوق الصليب، ولذلك قال: «نفسي حزينة جدًا حتى الموت!» ( مر 14: 34 ). وإذ حمل في جسده دينونة الخطية، أبطل شوكة الموت، وفقدَ الموت رهبته بالنسبة للمؤمن.
وكما كان المجد على جبل التجلي عظيمًا جدًا، كذلك كانت الأحزان في البستان أعمق من أن تتحملها الطبيعة الإنسانية الضعيفة. لذلك وجد التلاميذ راحتهم في النوم في الحالتين.
وعندما جاء الرب إلى التلاميذ ووجدهم نيامًا، وجّه الرب الحديث بالأخص لبطرس الذي كان قد وثق أكثر من باقي التلاميذ في محبته وإخلاصه للرب، وسأله قائلاً:
«يا سمعان، أنتَ نائمٌ! أما قدرت أن تسهر ساعةً واحدةً؟ اسهروا وصلُّوا لئلا تدخلوا في تجربة» (ع37، 38).
ولا يمكن أن نستعد لأية تجربة قادمة إلا بالصلاة التي هي الدليل على اعتمادنا الكُلي على الرب، لأن الثقة في الذات تولِّد شعورًا كاذبًا بعدم الخوف من التجارب، وبُناءً عليه لا يكون هناك إحساس حقيقي بالحاجة إلى الصلاة.
ولكن الرب بعطفه الشديد يقرّ صِدق محبتهم له، ويُظهر تفهمه لضعفهم «أما الروح فنشيطٌ، وأما الجسد فضعيفٌ». ثم مضى ثانيةً وصلى ثم رجع ووجد التلاميذ أيضًا نيامًا.
لقد ذهبت تحذيرات الرب لهم هباء لأن أعينهم كانت ثقيلة، وعندما رجع إليهم في المرة الثالثة، ما كان للرب إلا أن يقول لهم: «ناموا الآن واستريحوا!»، وبذلك فاتتهم فرصة السهر مع الرب وبرهنوا على ضعفهم، فقال لهم:
«يكفي! قد أتت الساعة!».
لقد مضى وقت السهر والصلاة، وجاء وقت التجربة، واقترب وصول ذلك الخائن الذي كان مزمعًا أن يسلِّم سيده.
واستطاع ذاك الذي قدر وحده على السهر والصلاة، أن يقول الآن في ثقة واتكال كُلي على الله
«قوموا لنذهب!».
إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يُعطون عنها حسابًا يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان ( مت 12: 36 ، 37)
قال المسيح: «إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يُعطون عنها حسابًا يوم الدين. لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان» ( مت 12: 36 ، 37).
وذلك لأنه «من فضلة القلب يتكلم الفم» ( مت 12: 34 ). فالفم هو أقصر طريق من القلب إلى الخارج.
قد يتكلم الإنسان ملايين الكلمات في حياته. وسيكتشف في يوم الدينونة أنها كلها مسجلة بكل دقة في سجلات الله. والله سيحاسب عليها كلها. قال أحدهم:
إن الإنسان من بداية يومه إلى نهايته، يدخل في المتوسط في نحو ثلاثين نقاشًا. وعلى مدى العام، فإن كلماته تملأ مئة كتاب في نحو 200 صفحة.
هذه كلها مسجلة عند الله الديان.
تفكَّر في هذا: كل عام مئة كتاب! يا تُرى كم منها بلا نفع؟ سوف يعطي الناس عن هذه كلها حسابًا يوم الدين!
وحين يقول المسيح هنا «إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يُعطون عنها حسابًا يوم الدين» فإنه يقصد الكلمة التي بلا نفع، أي الكلمة العاطلة (الفارغة).
هذا النوع من الكلام يتعامل البشر معه باستخفاف، إلا أن الوحي المقدس يعطيه أهمية كبرى. قال أحدهم: ”إن الكلام الفارغ ثقيل جدًا في موازين الله“. فلنتحذر!
ثم إذا كانت الكلمة التي بلا لزوم، سيعطي الناس عنها حسابًا، فكم بالحري الكلمات الرديئة والشريرة، الكلمات المؤذية والمُخزية، كلمات الكذب واللعنة والتجديف!
ونلاحظ أن يهوذا في رسالته عندما تحدث عن مجيء الرب لإجراء الدينونة، ذكر حيثيتين رئيسيتين للدينونة: أولاً، أعمال الفجور، وما أكثرها في هذه الأيام! والثانية خطيرة مثلها، وهي الكلمات الصعبة (يه14)!
لذلك كانت صلوات داود كثيرة ليحفظه الرب من النُطق بكلام خاطئ. قال مرة: «اجعل يا رب حارسًا لفمي، احفظ باب شفتيَّ» ( مز 141: 3 ).
ومرة قال: «لتكن أقوال فمي، وفكر قلبي، مرضية أمامك يا رب، صخرتي ووليِّي» ( مز 19: 14 ).
ومرة ثالثة قال: «قلت: أتحفظ لسبيلي من الخطأ بلساني. أحفظ لفمي كمامةً فيما الشرير مقابلي» ( مز 39: 1 ).
الرجاء المنظور ليس رجاء لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا. ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر ( رو 8: 24 ، 25)
لم يُخلق الإنسان لأجل الحاضر، كما أن الحاضر لم يُقصد به مُطلقًا إشباع الإنسان.
ومهما تكن الحالة التي كان يوجد عليها الإنسان لو لم يسقط، فإننا جميعًا نذكر أن السقوط كان في علم الله السابق، وأن الشخص الذي به وله كل الأشياء لم يكن الإنسان الأول الذي من الأرض، التراب، بل «الإنسان الثاني الرب من السماء».
فالمصير الحقيقي لجنسنا إذن، أمر مرتبط بمجد الله الذي سيُعلن فيما بعد. لقد خُلق الإنسان وخُلقت السماوات والأرض جميعها لأجل مجد الله.
وعندما «يُجمع كل شيء في المسيح ما في السماوات وما على الأرض في ذاك»، وليس قبل ذلك الوقت، سيتم غرضا الله العظيمان من الخليقة والفداء. وهما مجد الله الكامل، وبركة المخلوق الكاملة.
إن مجد الله لا يتم ويُعلن في كماله في المشهد الحاضر ـ مشهد الفوضى والظلمة. إن الحاضر في الواقع ما هو إلا طريق ينتهي إلى إعلان مجد الله الكامل في المستقبل. في الحاضر تُزرع جميع بذور مستقبل الإنسان، ولكن في المستقبل يُجمع المحصول ويتمجد الله في النتيجة.
إن الإنسان جُعل لا للحاضر، بل للمستقبل.
إنه لم يقصد بالحاضر كفاية الإنسان، لأن الحاضر يعجز عن أن يُشبع القلب البشري، ولذلك يحن القلب ويتطلع إلى المستقبل. انظر كيف يتوق الطفل الذي عمره سنتان أو ثلاث سنوات لأن يكون تلميذًا في المدرسة!
وتلميذ المدرسة هذا يتوق لأن يكون شابًا، والشاب لأن يصير رجلاً، والرجل ـ مهما تكن ظروفه ـ لا يجد في هذه الظروف ما يُشبع قلبه ويملؤه، بل يسعى خلف ما يلوح به المستقبل.
إنه بالمستقبل يُمسك الرجاء «الرجاء المنظور ليس رجاء لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا. ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر» ( رو 8: 24 ، 25). هذا حقيقي بالنسبة لكل رجاء.
الكلام هنا عن رجاء المسيحي، ولأن ما نرجوه شيء نمتلكه في الحاضر، لذلك نجد في الرجاء الموضوع أمامنا حافزًا للجهاد ومسكٍِّنًا للاضطراب ونورًا وسط الظلمة المحيطة بالإنسان.
أيها الخاطئ المسكين البعيد عن الله، إن أقسى صورة للبؤس الذي أنت مُسرع إليه، هي فقدان الرجاء هناك.
شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح، لله والآب ( أف 5: 20 )
إن الشكر يقود إلى التسبيح، والله يسكن وسط شعبه المُسبِّح. يا لها من حقيقة عظيمة:
إن الله يُسرّ أن يسكن وسط تسبيحات شعبه!
وهو ما يُعلنه مزمور22: 3 «وأنت القدوس الجالس (المتوَّج) بين تسبيحات إسرائيل»، والذي قال هذه الكلمات نبويًا هو العبد المتألم ـ ربنا يسوع، الذي جاء إلى الأرض حتى يمكن أن يسكن الإله القدوس وسط شعب خاطئ.
وقديمًا كانت الخيمة تُقام في البرية حتى يمكن أن يسكن الله وسط شعبه إسرائيل، وهناك في قدس الأقداس، بين الكروبين، والدم مرشوش على كرسي الرحمة غطاء لخطايا الشعب، أمكن لله أن يكون وسط شعبه ليقودهم ويرشدهم. وعندما دخلوا أخيرًا أرض كنعان بحسب وعد الله، هناك استمر في السكن وسط شعبه في الهيكل الذي بناه له سليمان.
إلا أن العبد المتألم ـ ربنا يسوع، والذي يصوِّر لنا مزمور22 آلامه ـ تفرَّد بأن يُقيم علاقة أقرب من تلك بين الله والإنسان. إنه هو، الله الابن، مَن تنازل وأصبح إنسانًا حتى يفدينا. وهو ـ تبارك اسمه ـ لا يستحي الآن أن يدعو المؤمنين إخوة قائلاً: «أُخبر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أُسبحك» ( مز 22: 22 ؛ عب2: 12).
ويا له من أمر عجيب أن الرب يسوع بنفسه هو مَنْ يقود شعبه في تسبيحهم لله! فعندما نسبح الله حقًا تنخلع أفكارنا من ذواتنا ونمتلئ من عجبه ومجده. وإن بدأنا في إحصاء بركاتنا، سنجد سريعًا أن أوضاعنا ليست رديئة بقدر ما تخيَّلنا.
وهناك حادثة تقدم لنا مثالاً رائعًا على تسبيح الشكر. فعندما كان يهوشافاط ملكًا ليهوذا، أتى الموآبيون والعمونيون بجيش كبير لغزو الأرض، مما جعل يهوشافاط والشعب يلقون أنفسهم على رحمة الرب ليخلصهم، وقد استجاب الرب واعدًا أن يعضدهم عندما يخرجون لمُلاقاة العدو، فعيَّن يهوشافاط مُغنين يخرجون أمام الجيش في زينة القداسة «قائلين: احمدوا الرب لأن إلى الأبد رَحمته.
ولما ابتدأوا في الغناء والتسبيح جعل الرب أكمنة على بني عمون وموآب وجبل ساعير الآتين على يهوذا فانكسروا» ( 2أخ 20: 21 ، 22).
ولم يكن على جيش يهوشافاط حتى أن يحارب، فقد أهلك الأعداء أنفسهم! حقًا إنه مزيج الشكر والتسبيح، حتى في أوقات الخطر المادي، يصنع العجائب.