إننا في تعجب نتساءل: ما هذه المحبة التي جعلت المسيح يُهان من صَنعة يديه؟!
لكننا في الوقت نفسه ندرك شيئًا من معنى قول المسيح عن ساعة الصليب «الآن دينونة هذا العالم» ( يو 12: 31). ليس لحظة توقيع الحكم على العالم، فهذه لم تتم بعد، بل إن العالم في الصليب فُضحت سِماته الحقيقية، وتعرَّى من الورقة الأنيقة التي تخفي عيوبه.
ففي صليب المسيح اتضح كم العالم واقع بالتمام في قبضة الشيطان الذي جنَّده بالكامل ليصلب ابن الله. لقد ظهر فساد ساسته، وخبث ديانته، واتضح كم العامة والخاصة من البشر هم سواء بسواء!
بل اتضح أيضًا بشاعة قلبي وقلبك. فهل رأيت صورتي وصورتك هناك أيها القارئ العزيز؟!
يسأل المرنم قائلاً: هل رأيت نفسك فيمن صلبوه؛ نفسك بين الذين قد عذبوه؟!
إنها قصة مأساوية حقًا! وإن كنا نندهش من شر الإنسان، فإننا نندهش أكثر من محبة الفادي المنان. تُرى من أي شيء نتعجب أكثر؛ قساوة الإنسان من نحو المسيح، أم محبة الفادي الجريح؟!
يقول المسيح: «كل الذين يرونني يستهزئون بي» مَن يصدِّق هذا؛ الأغنياء والفقراء، علية القوم والأدنياء، اليهود والأمم، الواقفون والعابرون، كل مَن يرى مسيح الله يستهـزئ به!
«يفغرون الشفاه ويُنغضون الرأس» أي يظهرون حركات استنكار وتهكُّم «قائلين: اتكل على الرب فليُنجهِ، ليُنقذه لأنه سُرَّ به». يا لقساوتكم أيها الرومان! يا لبغيكم أيها اليهود! أما كفاكم قتله مصلوبًا، حتى تضيفون إلى جريمتكم الكبرى جريمة أخرى هي الاستهزاء به؟! بل ويا للعجب، فحتى اللّصان اللذان صُلبا معه كانا يُعيرانه!
في أول المزامير المسياوية؛ وهو المزمور الثاني نقرأ شيئًا مختلفًا تمامًا إذ يقول: «الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم». فلا بد أن يأتي اليوم الذي فيه يستهزئ الرب بالأشرار الذين رفضوا ابنه. لكننا هنا نرى الأشرار وهم يستهزئون بابن الله!
والعبارات التي استخدمها أولئك المستهزئون هي نفس العبارات التي سجلها البشير متى ( مت 27: 43 ).
كأن الأشرار كانوا يتممون ما ورد في مزمور22.
لقد كانوا يرددون عبارات السخرية القاسية وهم لا يدرون أنهم فعلوا كل ما سبقت فعيَّنت يد الله ومشورته أن يكون ( أع 4: 28؛ 2: 23).
حَيْثُ تَكُونُ كَلِمَةُ الْمَلِكِ فَهُنَاكَ سُلْطَانٌ ...حَافِظُ الْوَصِيَّةِ لاَ يَشْعُرُ بِأَمْرٍ شَاقٍّ وَقَلْبُ الْحَكِيمِ يَعْرِفُ الْوَقْتَ وَالْحُكْمَ ( جا 8: 4 ، 5)
إنجيل متى هو إنجيل الملك، وفيه يبدأ الرب حديثه كالملك، ويُعلن مبادئ الملكوت في الأصحاحات5، 6، 7.
وفي إنجيل متى هناك أربع أولويات ارتبطت بكلمة ”أولاً“:
(1) ”اذهب أولاً“ ( مت 5: 24 ): حيث يعالج الرب الخصام وعدم الغفران (راجع متى5: 21-24). والأولوية هنا على تقديم القربان إن تذكَّرت أن لأخيك شيئًا عليك (أي أخطأت إليه في شيء) «فاترك هناك قربانك قدام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدِّم قربانك». وطبعًا هنا الجو يهودي، أما الجو المسيحي فنراه في أصحاح18؛ فإن أخطأ إليك أخوك فاذهب أنت إليه لتربحه ( مت 18: 15 ). وفي هذا الأصحاح يأتي حديث مفصَّل عن الغفران ( مت 18: 21 -35).
(2) ”اطلب أولاً“ ( مت 6: 33 ) حيث يعالج الرب الاهتمام بأمور الزمان (راجع متى6: 25-34)، ويوصي بعدم الاهتمام لحياتنا بما نأكل ونشرب، ولا أجسادنا بما نلبس. ويوبخنا بطيور السماء وزنابق الحقل، ويُعلن الأولوية «لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تُزاد لكم» ( مت 6: 33 ).
(3) ”أخرج أولاً“ ( مت 7: 5 ) حيث يعالج الرب مَن يأخذ موقع الديَّان (راجع متى7: 1-5)، حيث يوصي «لا تدينوا لكي لا تُدانوا». وهذا الذي يدين يُدقق النظر، ويطلب أن يُخرج القذى (القشة الصغيرة) من عين أخيه، بينما عينه هو فيها خشبة (العارضة الخشبية التي تحمل سقف المنزل). ويُقدّم الرب الأولوية «يا مُرائي، أَخرِج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذٍ تُبصِر جيدًا أن تُخرج القذى من عين أخيك!» ( مت 7: 5 ).
(4) ”نَقِّ أَولاً“ ( مت 23: 26 ) حيث نجد علاج الرب للداخل الفاسد (راجع مت23: 23-33)، فيستعرض رياء الكتَبة والفريسيين الذين يُعشِّرون «النعنع والشبث والكمون»، ويتركون الأهم «الحق والرحمة والإيمان»، و«يُصفُّون عن البعوضة ويبلعون الجَمَل!»، و”يُنقون خارج الكأس والصحفة“، بينما من داخل مملوآن بالدنس والفساد؛ «اختطافًا ودعارة».
فيوجه الرب الأولوية «نقِّ أولاً داخل الكأس والصحفة لكي يكون خارجهما أيضًا نقيًا» ( مت 23: 26 ). فالرب يطلب الاهتمام بالجوهر قبل المظهر، الداخل قبل الخارج، فغير ذلك هو الرياء والعمى الروحي.
يقول الإنسان: ”أستطيع أن أغفر، ولكني لا أستطيع أن أنسى“، فسطح المحبة البشرية قد يعلو أحيانًا إلى ارتفاع يغطي اللوحة المنقوش عليها سجل الإساءات، ولكن عندما ينخفض هذا السطح تظهر اللوحة باقية كما هي.
ولكن ليس الأمر هكذا مع محبة الله. ففيضان هذه المحبة، ليس فقط يُغطي هذه اللوحة، بل يمحو ما عليها من كتابة إلى الأبد، فلا يبقى لها أقل تأثير على الإطلاق «لن أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد»
ما أثمن هذه الكلمات: الله لا يغفر فقط، بل هو أيضًا لا يذكر! هنا الراحة الحقيقية للضمير المُتعَب: «دم يسوع المسيح ابنهِ يطهرنا من كل خطية» ( 1يو 1: 7 ). إن عيني القداسة غير المحدودة لا يمكنها أن تَريا أقل إثم على الضمير الذي تطهَّر مرة بدم المسيح الثمين. كل خطايا وآثام المؤمن قد طُرحت في بحر النسيان الأبدي. لقد وعد الله الصادق أنه لن يذكرها في ما بعد. يستطيع القول إنه «لم يُبصر إثمًا في يعقوب» ( عد 23: 21 ).
إن الإنسان لا يستطيع أن ينسى؛ لا يستطيع أن يمنع الذاكرة من أن تجد على سطحها يومًا ما سجَّل الماضي، ولكن الله يستطيع ذلك.
إن عمل المسيح الفدائي قد محا إلى الأبد كل إثم المؤمن، لذلك لا يمكن أن يقف ضده مرة أخرى على الإطلاق.
أين خطاياك أيها المؤمن؟ إنها ليست عليك لأن الله قد وضعها على الرب يسوع. وليست على الرب يسوع لأنه بعد أن حملها كلها هو الآن في المجد. فأين خطاياك إذًا؟ لقد انتهى أمرها وزالت إلى الأبد. فاسترِح على عمل المسيح. آمن وافرح «طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته» ( مز 32: 1 ).
وأنت أيها القارئ: هل قادك روح الله وكلمته لترى إثمك في نور محضره الإلهي؟ هل وصلت إلى معرفة نفسك هالكًا بالتمام؟ إن كان الأمر كذلك فتستطيع الآن أن تنال ما تقدمه هذه الكلمات المباركة من راحة لضميرك
” لن أذكر خطاياك وتعدياتك في ما بعد“.
لقد دفع الرب دينك ـ دفعه على الصليب ـ دفعه بدمه. آمن بهذا مُصدقًا الله فتنال نفسك السلام الكامل.
إن كان الله يؤكد لك أنه لن يذكر خطاياك وتعدياتك في ما بعد، فنصيبك يقينًا السلام الإلهي الأبدي، السلام المؤسس على دم المسيح، وكلمة الله الثابتة إلى الأبد.
إلى عبيدٍ أذلاَّء، إلى مَن تتقرَّح عيونُهم بالبكاء، إلى مَن تُلهِبُ السياطُ ظهورَهم حتى الدماء، وغابت وعودُ آبائهم وقاربت الاختفاء، ظهرت ولا زالت تلوحُ اليدُ القويةُ داحِرةَ العدو، مُستَبدلة البلاء، بمشاهدَ إعجازيةٍ، فإنها يَدُ السماء.
أَ ليست هى يمينُ الربِ، جلاَّبةَ الترنُمِ في بلقعِ البلاء؟
أ لم يُكتَب: «صوتُ ترنُّم وخلاص في خيام الصديقين». وما هو موضوع ترنيمتهم هنا يا تُرى؟
«يمين الرب صانعة ببأس. يمين الرب مرتفعة. يمين الرب صانعة ببأس» ( مز 118: 15 ، 16).
في الآية أعلاه نقرأ عن ”اليد القوية“، وهى بعينها ”اليد الشديدة“، فنقرأ: «بيدٍ شديدة وذراع ممدودة، لأن إلى الأبد رحمته» ( مز 12: 136 ). وهى التي نتغنى عنها كما المرنِم: «فهناك أيضًا تهديني يَدُكَ وتُمسكني يمينُكَ» ( مز 10: 139 ).
والعجيب يا قارئي أن هذه اليد القوية الشديدة وأيضًا الهادية، تُديرُ الكون بحذاقةٍ غير محدودةٍ، ولكنها تعرِفُ أيضًا كيف تتعامل مع أفرادِنا، فتلوح حتى في تهاويل جزيرةِ بطمس، مبَدِدةً مخاوفَ المُبتلي فيهتف: «وضعَ يده اليُمنى عليَّ قائلاً لي: لا تخف» ( رؤ 1: 17 ).
ولكنها عندما تديرُ الكون، إنها تعمل من وراءِ الستارِ وذلك لأن العالم لا يعرفها، فالعاقلُ قد يُدلي بحكمتِهِ، والشرير يثورُ بغضبِهِ، والأحمق بجنونِهِ، والبحرُ بفيضانِهِ، والصِلُّ بسُمِهِ، والشمسُ تلمَعُ أو ترتدي فجأةً ثوب كسوفِها، وتظل اليد القوية، تديرُ الأمورَ بسلطانٍ عَلَوي، لله الذي لا يُغلَبُ على أمرِهِ.
وعندما تعمَلُ على هذا النحو، قد يرى الإنسان الطبيعي، مبرِرًا لِما يحدُث، ويُفَسِّرَهُ على سبيل السطحيةِ بتحليلاتٍ مختلفةٍ، ولكن إن أخفقت في شرح الحقيقة فيكون وقوع هذه الأحداث في عينيهِ وكأنها ”بلا يد“.
أَ لسنا نقرأ في الوحي: «قُطِعَ حجر بغير يدين» ( دا 2: 34 ). وأيضًا نقرأ عن ملك جافي الوجه، سيُهلِكُ كثيرين وفي النهاية «وبلا يدٍ ينكسر» ( دا 8: 25 ). ثم نذكر: «ويُنزع الأعزاء لا بيدٍ» ( أي 34: 20 ). وأخيرًا نرجِعُ للسؤال: أ هو بيدٍ أم بلا يد؟ والإجابة أنه بلا يدٍ إنسانية، ولكن باليد الإلهية.
صديقي هل تبحث عمن سيُجري الأمور؟ هل تحاول أن تُفسِّرَ كُلَ الظواهر طبقًا لليد الإنسانية كَبُرَ أو قلَّ شأنُها؟
التفت إلى اليد الرفيعة، فبالنسبة لنا هي تُجري كُلَ أمورِنا، وللعالم تَحدُث كما وكأنها بلا يد.
لا شك أن حياة القداسة هي أحد الأغراض الأساسية من دعوة الله لنا، وبدون هذه الحياة لن يتسنى للمؤمن أن يكون في شركة مع الله. وقد يعترض أحدهم قائلاً:
إن هذا المطلَب مُحال تنفيذه ونحن نعيش في عالم سِمَته الأساسية النجاسة، والخطية تحيط بنا بسهولة. ولكن الله أعطانا كل المقومات الروحية التي تؤهلنا لنحيا هذه الحياة، فبالولادة الجديدة حصلنا على طبيعة الله الأدبية ( 2بط 1: 4 )، كما حصلنا أيضًا على روحه القدوس، القادر على حفظنا من السقوط في الخطية ( أف 1: 13 ؛ 1يو 5: 16)، بل والله نفسه يحفظنا من السقوط في الخطية بأنه يفتح لنا منفذًا وبابًا للنجاة حينما نتعرض للخطية ( 1كو 10: 13 ).
وكما عرَّفنا الكتاب بمصادر القوة المذخرة لنا، رسم لنا أيضًا الطريق الذي نسلكه «اسلكوا بالروح فلا تُكمِّلوا شهوة الجسد» ( غل 5: 16 ).
وطبعًا ليس المطلوب منا بهذه الآية، أن نقوم بعملين: الأول السلوك بالروح، والثاني عدم تكميل شهوة الجسد، بل أن نقوم بعمل واحد، وهو السلوك بالروح، لأن الآية لا تقول ”اسلكوا بالروح ولا تكمِّلوا شهوة الجسد“، بل تقول: «اسلُكوا بالروح فلا تُكمِّلوا شهوة الجسد». والعبارة الثانية تدل على أن عدم تكميل هذه الشهوة، هو نتيجة طبيعية للسلوك بالروح، أو بالحري للانقياد الكُلي وراء هديه وإرشاده.
ومن الوسائل التي تساعدنا على السلوك بالروح، حصر الفكر في «كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادلٌ، كل ما هو طاهرٌ، كل ما هو مُسرٌ، كل ما صيته حسنٌ، إن كانت فضيلة وإن كان مدح» ( في 4: 8 ).
إن هذا الأسلوب في التفكير، هو نوع من ”غسيل المخ“ أو بلغة الكتاب ”تجديد الذهن“ ( رو 12: 3 )، لأنه إذا كان العقل مشغولاً ومُشبَّعًا بأمور سامية، لا يكون هناك مجال لتسرب الخطية إليه، بينما إذا لم يكن مشغولاً أو مُشبَّعًا بهذه الأمور، تشرد الأفكار هنا وهناك، وتأتي إلينا بالأهواء التي تتعبنا وتحرمنا من الشركة الروحية مع إلهنا.
حقاً إن حياة القداسة والطهارة هذه سامية كل السمو، لأنها انعكاس لحياة الله ذاته. ونحن بالطبع لا نستطيع الارتقاء إليها بقوتنا الذاتية، بسبب بقاء الميل إلى الخطية في طبيعتنا العتيقة، بيد أن الله ـ في نعمته الغنية ـ لا يتركنا لقدرتنا الذاتية، وإلا كان مصيرنا الفشل الذريع.
ولذلك عندما نسلِّم حياتنا له تسليمًا كاملاً، يمكن أن يعمل بنا ما لا نستطيع أن نعمله بقوتنا الذاتية.
ألا ترى معي يا عزيزي أننا فقراء جدًا في إدراك عُمق محبة الله لنا. نعم، كم نحتاج أن ننهل من هذا النبع الذي لا ينضب، بل ونسبَح في هذا اليَّم الذي لا يُعبَر!
كم نحتاج أن نغوص عميقًا لندرك شيئًا من سموَّها!
إنها محبة المسيح الفائقة المعرفة.
إنها إهانة بالغة لقلبه المُحب وصلاحه غير المحدود أن نخاف على أنفسنا ونحن في طريق خدمته، بل إني أتعجب
من هذا الفكر!
فكيف أخاف على نفسي وأنا أراها بين يدي هذا المُحب الذي بذل نفسه على الصليب لأجلها، والآن هو حي في السماء لأجلها؟
إني أرى نفسي الآن بين يدي هذا الجالس على عرش الله وكل شيء مُخضع تحت قدميه، وأتساءل متعجبًا: كيف يمكن أن يخرج شيء ما من تحت قدميه ليؤذي ما بين يديه؟!
نعم إن «المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج».
وكلما تعمّقت في إدراك محبته لي، سأحبه أكثر. وكلما أرى من جديد كيف قادته محبته لبذل نفسه لأجلي، سأمضي قدمًا في طريق بذل نفسي لأجله، وعندئذٍ لن يكون هناك خوف من الآلام في طريق الخدمة في مواجهة الصعاب والمشقات.
لقد بدأ اختبار بولس من هذه النقطة البديعة «ابن الله، الذي أحبني وأسلَمَ نفسه لأجلي» ( غل 2: 20 )، وكانت النتيجة أن الآلام لم تُخِفْه، بل والموت لم يُعِقْه. يقول لإخوته: «إن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً:
إن وُثُقًا وشدائد تنتظرني. ولكنني لست أحتسب لشيء، ولا نفسي ثمينة عندي، حتى أُتمم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع، لأشهد ببشارة نعمة الله» ( أع 20: 23 ، 24).
والرب يا عزيزي رحيمٌ جدًا بنا، وصالح جدًا من جهتنا، والخوف من الآلام التي تأتي من يديه لتجهزنا لخدمته، هو نوع من الشك في صلاحه وأمانته. فهو يعرف جبلتنا، ويذكر أننا تراب نحن، لذلك يعرف جيدًا طاقة احتمالنا.
إنه لا يتركنا نتألم كيفما اتفق، لكن كل شيء عنده بحساب.
ثم انظر ما أعظم هذا الذي أعطاه لبولس أثناء الآلام. لقد أعطاه ليس نعمة بل نعمته، ونعمته كانت كافية لتجعل بولس يُسرّ بالآلام وكأنها هدايا جميلة لا بلايا ثقيلة ( 2كو 12: 9 ، 10).
كان قد صُدم في حياته بخسارة مادية ونفسية جسيمة، فانجرف بكل طاقاته وإمكانياته وأهوائه إلى فعل الشر، شاعرًا بلذة حسية وقتية يجنيها من الإنغماس في الشر وارتكاب الرذيلة، ولكنه أبدًا لم يشعر بفرح حقيقي وسلام عميق، ولو للحظة واحدة.
بالعكس، كان يشعر بغصةٍ في حلقهِ دائمة المرار، وخوفٍ ينتابه بين الحين والآخر، فيهرب منه مرة أخرى إلى فعل الشر لعله يرتشف منه ما يُسكره عن حقيقة ما هو فيه من ضياع. وكان قوله دائمًا: ”بعيدًا عن الخطية ضياعٌ بلا لذة، أما مع الخطية فضياعٌ تصحبه اللذة“. كان هذا هو مَنطِقه وطريقة تفكيره التي بها يُسكِّن نفسه التعوبة.
دعاه أحد الإخوة المؤمنين لحضور اجتماع كرازي، وبعد محاولات كثيرة وافق.
بدأ المتكلّم حديثه بالآية التي في صدر مقالنا، ثم قال: شاهدت ذات يوم قطيعًا من الخنازير يتبعون رجلاً دون انحرافٍ أو مقاومةٍ، وهو يقودهم إلى السلخانة ليذبحهم. تعجبتُ جدًا، فالمعروف أن الخنازير من أكثر الحيوانات صعوبة في قيادتهم، فكيف يقودهم هو بهذه السهولة والبساطة؟ اقتربت إلى الرجل وسألته عن السر في خضوع الخنازير له واتباعهم إياه بلا مقاومة.
أجاب الرجل مبتسمًا: ألا ترى هذه الحقيبة المملوءة بالفول في يدي؟ إن الخنازير تعشق الفول، ولذا فأنا ألقي إليها ببعض حبّات الفول أثناء سيري، وأنا على يقين تام بأنها سوف تتبعني دون مقاومة، فهي لا تعلم إنني إنما أقودها إلى الذبح.
ومن بين جميع الحاضرين، أشار الخادم إليه، قائلاً له: وأنت أيضًا إنما يقودك الشيطان إلى الذبح والهلاك.
إنه يعرف كيف يستدرجك ويلهيك بما تلتذ به وقتيًا. إن حبّاته الصغيرة تستهويك وتسعدك وقتيًا، وستظل تسير وراءه حتى آخر حبة، عندما تفتح الهاوية أبوابها لتدخل أنت، ثم تغلقها خلفك إلى الأبد.
فجأة، ظهرت الصورة على حقيقتها أمام عيني ذلك الشاب، فانفتحت عيناه وأدرك ما هو فيه من خطرٍ شديد. وفي مكانه صرخَ صرخةً مُرّة من قلبه؛ صرخة لم يسمعها غير الرب، طالبًا منه أن ينقذه من حيلة الشيطان، ومن شِباكهِ، ويستلم قلبه وكيانه ومشاعره، ويخلق منه إنسانًا جديدًا في المسيح. وهكذا انتقل ذلك الشاب من الموتِ إلى الحياة، ومن الظلمة إلى النور، ومن عبودية إبليس إلى حرية النعمة.
وأنت ـ عزيزي القاريء ـ ماذا عنك؟ هل انفتحت عيناك؟
فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ! ( لو 22: 33 )
حذَّر الرب بطرس بالقول: «الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة!» ، وأعتقد أن التحذير عينه، بالأولى، هو لنا جميعًا.
وهي حقيقة مع تسليمنا بها إلا أننا ننساها سريعًا، وحري بنا أن نحفرها في أذهاننا؛ أننا في حرب شعواء مع عدو مفترس يجول ملتمسًا ابتلاعنا، ولولا أن الرب لنا لابتلعنا بالفعل، ولولا شفاعته لأجلنا لفنى إيماننا أجمعين.
ماذا كان رَّد فعل بطرس؟
لقد انفعل واندفع ـ كعادته، وكثيرون يشاركونه إياها ـ قائلاً: «يا رب، إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت!».
ولعل قارئي العزيز يشاركني الاعتقاد بصدق دوافع بطرس هنا، وحسبي دليلاً أنه بالفعل مات من أجل الرب كما أنبأه الرب في يوحنا 21، وكما يحكي التاريخ.
لم تكن المشكلة في رغبته، بل في الإمكانية. لم يكن يدرك أنه لا يستطيع بإمكانياته أن يفعل ذلك، ففعل العكس!!
ومثله الكثيرون منا الآن ـ إن لم نكن جميعًا ـ في رغبة صادقة لإكرام الرب، ربما انفعالاً بخدمة أو موقف ما، أو اندفاعًا وراء حماسة تولَّدت، نسعى بإمكانياتنا لنفعل ذلك. فنحاول ونحاول، ونَعِد الرب ونعاهده، ونجدِّد العهود، ونجاهد، ونبكي، ونسأل، ونجرِّب طرقًا كثيرة، ونضع على أنفسنا أحمالاً لا قِبَل لنا بها.
ثم تكون الصدمة، أنه بدلاً من أن ننجح في مسعَانـا، نفعل العكس (ارجع إلى رومية7)!!
والدرس الذي يجب أن يصل إلينا هنا، هو ما لخَّصه السيد في قوله البليغ: «لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا» ( يو 15: 5 ). نعم، لا نقدر فعل أي شيء بدونه، وأؤكد تعبير ”أي شيء“. في حين أن فيه يستطيع كل منا أن يهتف «أستطيع كل شيء في المسيح» ( في 4: 13 )، ودعني أضع هنا للمباينة التعبير ”كل شيء“.
وليتحقق ذلك عمليًا، أحتاج أن أفهم وأوقن أنني «مع المسيح صُلبت» ( غل 2: 20 )!
وليتنا نعلم أن الله، في الصليب، قد شطب على الإنسان تمامًا! وأنه ـ تبارك اسمه ـ لا يتوقع من الإنسان أي صلاح. والوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تنشئ فيَّ أي صلاح هي «فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ».
إن «الله هو العامل فيكم أن تُريدوا»؛ فهو مُنشئ الإرادة والأشواق فينا لأي عمل صالح.
ولكن لندرك أنه أيضًا العامل فينا لكي «تعملوا من أجل المسرة» ( في 2: 13 )، ووحده مَنْ يمكنه أن يعطينا الإمكانية لذلك.
وَقَعَ الْحَدِيدُ فِي الْمَاءِ.. فَقَالَ رَجُلُ اللَّهِ: أَيْنَ سَقَطَ؟ فَأَرَاهُ الْمَوْضِعَ، فَقَطَعَ عُودًا وَأَلْقَاهُ هُنَاكَ، فَطَفَا الْحَدِيدُ ( 2مل 6: 5 ، 6)
ينتقل بنا الروح القدس في قصة أليشع من الملوك والعظماء إلى منظر عادي بسيط يتعلق ببناء مكان لسكن بني الأنبياء. وهذه الحادثة توضح لنا بكل بساطة حياة الوداعة والتواضع التي كان يحياها رجل الله.
فمن ناحية نراه يعمل لإزالة مِحنة تعرَّض لها ملوك وقواد (2مل3)، ومن ناحية أخرى نراه مهتمًا بقطع الخشب وبناء مسكن لبني الأنبياء.
هكذا الرسول بولس، من ناحية كان مهتمًا بجميع الكنائس، ومن ناحية أخرى كان يصنع خيامًا؛ اُستُخدم في خلاص كثيرين من الغرق في الماء، كما خرج ليجمع بعض القضبان ليضعها على النار في الجزيرة التي تُدعى مليطة. وفي الواقع لم يكن أليشع وبولس سوى آنيتين لإظهار روح سيدهما وربهما العظيم، الذي وهو الحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته، يحتضن ولدًا صغيرًا بين ذراعيه، والذي وهو دائمًا في حضن الآب، كان يدخل بيت رجل صياد. وبينما يوجد رجال الله في أبسط الأعمال، نرى قوة الله تعمل لحسابهم؛ فبينما كان الرسول بولس يجمع القضبان ويضعها على النار، خرجت من الحرارة أفعى ونشبت في يده، لكنه نفض هذا الوحش إلى النار، ولم يتضرر بشيء رديء ( أع 28: 1 -5).
«وقع الحديد في الماء ... فقال رجل الله: أين سقط؟ فأراه الموضع، فقطع عودًا وألقاه هناك، فطفا الحديد».
وعلى خلاف نواميس الطبيعة صارت الفأس تطفو فوق الماء. لقد أُوقفت نواميس الطبيعة لكي يتعزى الرجل الذي استعار هذه الفأس التي سقطت منه في الماء بينما
كان يقطع خشبًا.
الله الذي هو خالق النواميس التي تحكم الخليقة، هو وحده الذي يستطيع أن يُغيِّر هذه النواميس لكي يُظهر قدرته؛ القدرة التي جعلت بطرس يمشي على الماء، كما جعلت الحديد يطفو فوق الماء.
إن الطريقة التي بها صار الحديد يطفو فوق الماء أظهرت قدرة الله بلا شك، لأنه لا علاقة مُطلقًا بين السبب والنتيجة، بين إلقاء عود من الخشب وبين حديد يطفو.
ألا نرى في هذا العمل حقيقة روحية عميقة؟
نعم نحن نرى أن عودًا من الخشب أُلقي في الماء فقهر قوة النهر، والأردن رمز للموت. إذًا نرى من خلال الحادثة:
أولاً: الصليب وقد قهر الموت، وأيضًا نرى بيت الله يُبنى بهذا الذي خرج من الموت، الذي له كل المجد.
إن «عظمة مردخاي الذي عظَّمه الملك» تذكِّرنا بذاك الذي صار إنسانًا ليتألم عن الخطية، ولكنه الآن كإنسان قد مجَّده الآب «فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة، وكل اسم يُسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضًا، وأخضع كل شيءٍ تحت قدميه، وإياه جعل رأسًا فوق كل شيء» ( أف 1: 21 ، 22).
هذه هي عظمة مردخاي الحقيقي، الرب يسوع المسيح، الذي من أجل اتضاعه هنا وطاعته حتى الموت موت الصليب، هو الآن مُمجَّد أعلى من السماوات، وإليه دُفع كل سلطان في السماء وعلى الأرض ( مت 28: 18 )، وقد حصل على هذا المركز كالإنسان المُمجَّد بتنازله إلى أقل مكان وبموته موت الصليب.
«ثاني الملك»... يُمكننا أن نرى في ذلك ما يُشير إلى المسيح كعبد يهوة الكامل عندما تنازل إلى هذا العالم ليصنع مشيئة الآب، والأمين في مشهد انعدمت فيه الأمانة لله، حتى إنه وجد فيه كل سروره.
وحتى في المستقبل، وهو على العرش، سيكون خادم الآب أيضًا كما كان هنا على الأرض. و1كورنثوس15: 24-28 يصوِّره لنا كمَن سيملك حتى يضع أعداءه تحت قدميه، وحينئذٍ كالقائد المِقدام الذي وكَّل إليه سيده أمر إخماد ثورة في مملكته، وإذ يتمم هذه الخدمة يقدِّم تقاريره للملك بإتمامها. وعلى ذلك نقرأ في 1كورنثوس15: 28 أنه بعد أن يُخضع كل شيء لله، حينئذٍ ربنا يسوع المسيح ـ كإنسان ـ سيخضع لله.
بعد أن يتم نهائيًا قوله: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» ( يو 17: 4 ).
هذه هي النهاية؛ نهاية إتمام العمل الذي لأجله صار إنسانًا.
«عظيمًا ... ومقبولاً عند كثرة إخوته» ... يا له من تغيير سيشمل البقية الأمينة عندما يكون الرب لهم كما كان لهم مردخاي هنا!
ويا له من تغيير سيتم بنفس النظام أيضًا! فإن توبتهم وتجديدهم سيكونان بعد اجتيازهم «ضيقة يعقوب» التي نرى ظلالها في سفر أستير ( زك 12: 10 -14؛ 13: 1؛ إر30: 7).
«طالبًا الخير لشعبه ومتكلمًا بالسلام لكل نسله». وهذا يُعيد إلى ذاكرتنا قصة يوسف، وبالأخص الكلمة المذكورة قي تكوين50: 21 «فالآن لا تخافوا. أنا أعولكم وأولادكم. فعزاهم وطيَّب قلوبهم».
وكما كان الأمر مع يوسف وإخوته، هكذا سيكون مع المسيح وإخوته حسب الجسد عندما يجتمعون مرة أخرى تحت حُكمه، ويسكنون في ملء السلام والنجاة والبركة.
تَكَلَّمْ بِهَذِهِ، وَعِظْ، وَوَبِّخْ بِكُلِّ سُلْطَانٍ. لاَ يَسْتَهِنْ بِكَ أَحَدٌ ( تي 2: 15 )
هذه العبارة يوجهها بولس إلى ابنه في الإيمان وشريكه في الخدمة تيطس، وفيها ملخَّص خدمة تيطس في جزيرة كريت.
ولا ننسى ما كان عليه جنس الكريتيين الأشرار من صفات ذميمة، وصفها «واحدٌ منهم ـ وهو نبيٌ لهم خاصٌ» ـ عاش قبل المسيح بما لا يقل عن 600 سنة، وهو الفيلسوف ”ابيمانيد“، أنهم: «الكريتيون دائمًا كذَّابون. وحوش ردية. بطون بطَّالة». أي أنهم بحسب وصف واحد من أُدبائهم وفلاسفتهم اشتهروا بالكذب والوحشية والشراهة. وفي أيام الرسول بولس كانت ما زالت هذه الصفات فيهم، لذلك قال: «هذه الشهادة صادقة» أي أن ذلك الفيلسوف قال الصدق عن مواطنيه ( تي 1: 12 ، 13).
لذلك كان لا بد لخدمة تيطس بين هؤلاء القوم أن تتميز بالسلطان. وهناك حالات يكون فيها استعمال السلطان، بحسب الله بيد مَنْ أقامهم لصيانة الترتيب في بيت الله، هو الوسيلة الوحيدة لصد تيار الشر.
غير أن هذا ليس معناه أن ”التوبيخ“ هو دائمًا الوسيلة الوحيدة أو الرئيسية.
لأن اللطف والنعمة والتشجيع والاحتمال والمحبة ـ جميع هذه الوسائل تكسب القلوب وتبني الآخرين. لكننا نريد أن نقول: إنه في بعض الحالات تكون الشدة لازمة لوقف الشر والحد منه.
إن الرب نفسه تكلَّم بسلطان إلى البحر الهائج، ووبَّخ بسلطان الأرواح الشريرة. ولكن هذه لم تكن الناحية الجوهرية من نشاطه، ولا كانت كذلك الناحية الجوهرية من خدمة تيطس مندوب الرسول في كريت. قال الرب عن نفسه: «تعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب» ( مت 11: 29 ). إنه كما «بزجرته ينشِّف البحر»، أيضًا بكلمة تشجيع فيها عطف ومحبة كان «يُغيث المُعيي بكلمة» ( إش 50: 2 ، 4).
أما تيطس فكان السلطان لازمًا له أولاً لأن البيئة التي دُعيَ للخدمة فيها كانت منحطة أدبيًا.
وثانيًا لأنه كان حديث السن. لذلك كان لازمًا له أن يتصرف بكيفية تجعله لا يتعرَّض لأي احتقار، لأن كرامته من كرامة كلمة الله التي كان ينادي بها. وكل إهانة تلحقه إنما كانت تمس كرامة هذه الكلمة التي أؤتمن عليها. ولذلك يقول له الرسول: «لا يَستَهِن بكَ أحدٌ»، وهكذا قال أيضًا لتيموثاوس ( 1تي 4: 12 )، لأن تيموثاوس كان مثل تيطس حديث السن.
.. أَنَّ الْفَتَاةَ الَّتِي أَقُولُ لَهَا: أَمِيلِي جَرَّتَكِ لأَشْرَبَ فَتَقُولَ: اشْرَبْ وَأَنَا أَسْقِي جِمَالَكَ أَيْضًا، هِيَ الَّتِي عَيَّنْتَهَا لِعَبْدِك ( تك 24: 14 )
لم تكن مُهمة العبد في أور الكلدانيين هي أن يجد فتاة مناسبة لإسحاق؛ فالمُناسِبَات كن كثيرات، ولكن كانت مهمته هي أن يجد العروس المُعيَّنة لإسحاق، ورفقة كانت معروفة ومُعيَّنة سابقًا ( تك 22: 23 ). فليست أية فتاة مؤمنة هي الفتاة المعيَّنة من الله للمؤمن كزوجة ( تك 2: 18 ؛ عا3: 3).
ونحن نتذكَّر أن مراسيم الزواج الأول تمت في جنة عدن لراحة آدم وسعادته. وفي الوقت الذي أخضع الرب كل شيء لإرادة آدم ولسعادته، إلا أنه ظلَّ وحيدًا، وفي حاجة إلى رفيق ليملأ الفراغ، لهذا «قال الرب الإله: ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له مُعينًا نظيره» ( تك 2: 18 ). ولاحظ دقة التعبير «مُعينًا نظيره (شريكًا)»، والكلمة ترد في هامش ترجمة داربي «Partenar or Counterpart»، أي ”الجزء المُكمِّل“ أو ”الجزء المُتمِّم“. ويُستخدم هذا التعبير لوصف آلة مكونة من قطعتين؛ كل قطعة هي الجزء المُكمِّل للآخر بحيث لا يمكن أن تعمل الآلة بفاعلية إلا بوجود القطعتين متَّحدتين وملتّصقتين معًا. وبالتأكيد لا يصلح أي جزء من أي آلة ليُكمِّل جزء من آلة أخرى.
عزيزي الشاب .. ربما تسألني: وكيف أعرف المُعيَّنة لي من بين كل المؤمنات اللواتي أعرفهن؟! وإجابتي: في قصة تكوين 24 نرى قيمة وفاعلية الصلاة وبخاصة ”الصلاة في الروح“. فإن إرشاد الروح القدس وقيادته هو مُميز أبناء الله في يوم الروح القدس. فما أن رفع العبد قلبه في صلاة، حتى استجابها الله «وإذ كان لم يفرغ بعد من الكلام، إذا رفقة التي وُلدت لبتوئيل ابن مِلكة امرأة ناحور أخي إبراهيم، خارجة وجرَّتها على كتفها» (ع15، 45)، الأمر الذي جعله يتفرَّس في الفتاة صامتًا (ع21).
أخي المحبوب ... لا تخطو خطوة واحدة، خصوصًا في تلك الأمور التي لا يمكن نقضها أو الرجوع فيها، دون رفع صلاة حارة لكي يكون الاختيار لله، دون أن يكون لك دخل فيه على الإطلاق، ولكي يحفظك من كل الأخطار، ولكي يُعلن لك إرادته.
ولتكف الفتيات المسيحيات عن التفكير في جذب الانتباه نحوهن، ولتسكِّن الفتاة قلبها كفطيم، ولتترك الأمر لله لكي يختار لها الشاب الذي يزيد جمالها، ويحمي ضعفها، ويبادلها محبتها.