إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ ... أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ ( مز 22: 1 ، 22)
لقد تنبأ أنبياء العهد القديم عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها ( 1بط 1: 11). ومزمور 22 يحتوي فعلاً على هاتين الفكرتين؛ الآلام والأمجاد.
من ع1- 21 موضوعه صرخة المتألم؛ ويبدأ بقوله الكريم: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟». ومن ع22- 31 موضوعه تسبيح المنتصر؛ ويبدأ أيضًا بقوله: «أُخبر باسمك إخوتي. في وسَط الجماعة أُسبِّحك».
عندما صرخ الرب كان بمفرده، فلم يكن ممكنًا أن يكون أحد معه. لكن عندما سبَّح؛ لم يُسبِّح وحده، بل نراه يُسبِّح وسط مفدييه؛ الجماعة التي انفصلت لأجله وصارت له.
ففي النصف الأول من المزمور نجده وحيدًا تمامًا، لم يكن معه أحد من أحبائه. عندما أتوا ليقبضوا علي المسيح «تركَهُ الجميع وهربوا» ( مر 14: 50). وهو يقول لله في هذا المزمور «لا تتباعد عني ... لأنه لا معين» (ع11).
لكن ليس فقط كل البشر تركوه، بل أيضًا الله تركه!
أما في النصف الثاني، فنجد أكثر من دائرة مرتبطة به.
في القسم الأول نراه مُحاطًا بأعدائه المُشبَّهين بالثيران الجامحة والكلاب الجائعة، يُعيِّرونه ويضطهدونه، بينما في القسم الثاني هو في وسط أحبائه ومفدييه يقود تسبيحاتهم لأبيه.
في القسم الأول وهو في ساعات الظلمة يشكو أن الله لا يسمع له ولا يستجيبه (ع2)، بينما في القسم الثاني يقول: «لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكَنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صُراخهِ إليهِ استمع» (ع24).
القسم الأول خلاصته التنهد (ع2). أما القسم الثاني فجوّه هو الترنم (ع22، 25).
في القسم الأول نرى ظلمة الجلجثة، وفي القسم الثاني فجر القيامة. وما أبعد الفرق بين ظلمة الجلجثة في رابعة النهار، وبين الصبح المُنير عندما قام المسيح من الأموات، فجلا ليل الدُجى!
في القسم الأول نرى أحزان المسيح، حيث يُرى وهو ذاهب ذهابًا بالبكاء حاملاً مبذر الزرع، وفي القسم الثاني نرى أفراح المسيح حيث نراه مجيئًا يجيء بالترنم حاملاً حُزمه ( مز 126: 6).
في القسم الأول نرى العمل الذي أتمه المسيح على الصليب، ثم بداية من القسم الثاني نرى نتائج عمله الكريم.
في أيام الكنيسة الأولى عندما عانَت أورشليم من الفقر، فإن كنائس الأمم أرسلت المساعدات لها.
ولقد شجع الرسول بولس الكنيسة في كورنثوس لتعطي بسخاء. ويربط الرسول المبدأ الذي كان سائدًا لدى الشعب في البرية، فالذين جمعوا من المَّن أكثر من حاجتهم تشاركوا مع الذين لم يتوفر لديهم بكفاية، وفي النهاية كل واحد اكتفى «الذي جمع كثيرًا لم يُفضِل، والذي جمع قليلاً لم يُنقص» ( 2كو 8: 13 -15).
فكون بعض المسيحيين لهم مصادر أكثر في الحياة عن غيرهم، إنما الغرض منه أن يشاركوا مَن ليس لهم، لكي تُسدد وتتوفر الحاجات الطبيعية والروحية والعاطفية.
ولكي يشجع الكورنثيين أن يعطوا بسخاء، فإن الرسول يُذكِّرهم بالحقائق الخمس التالية:
(1) كان الرب يسوع سخيًا وكريمًا. ولقد تخلى الرب عن مركزه في القوة والكرامة لكي يُشاركه المؤمنون في ميراثه «فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح، أنه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقرهِ» ( 2كو 8: 9 ). إنه ذاك الذي يجب أن نتمثل به ( 1كو 11: 1 ).
(2) الاستعداد للعطاء له الأهمية الأكثر مما يُقدَّم ( 2كو 8: 12 ). لقد انتظروا حتى يُقدموا أكثر، لكن الرسول يقول أن يُعطوا الآن حسبما يستطيعوا لا بقدر ما ليس لهم.
(3) العطاء بسخاء ( 2كو 8: 11 ). كانت الكنائس في مكدونية سخية في عطائها برغم فقرهم واضطهاداتهم ( 2كو 8: 2 ).
(4) العطاء يُنتج حصادًا روحيًا ( 2كو 9: 6 -11). ونحن كالزارع، فإن زرَعنا بتقتير فسنحصد قليلاً. أما إن زرعنا بسخاء فسنحصد بسخاء كذلك.
كيف نشارك؟
ليس فقط بالمال وما نمتلكه، بل أيضًا بوقتنا ومواهبنا الروحية، ولنتشبَّه بالله أبينا وربنا يسوع المسيح، وأن نكون أسخياء في عطايانا لمَن هم أقل حظًا منا، وهذا نابع من الطبيعة الإلهية التي نلناها.
عَنْ هذَا الأَمرِ يَصْفَحُ الرَّبُّ لِعَبْدِكَ: عَنْدَ دُخُولِ سَيّدِي إِلَى بَيْتِ رِمُّونَ ليَسْجُدَ..، وَيَسْتَنِدُ عَلَىَ
يَدِي فَأَسْجُدُ.. ( 2مل 5: 18 )
من الواضح أن نعمان قد تغيَّر سلوكه إذ قد نشأت فيه أفكار جديدة وإحساسات جديدة، وابتدأ يشعر شعورًا جديدًا بمسؤولية لم يكن يعرفها من قبل، فقبل تطهيره كانت كل مجهوداته منصرفة إلى الخلاص من البَرَص، أما الآن فقد تحولت تلك المجهودات إلى كيفية السلوك أمام الله الذي طهَّره.
على أن التحفظ الذي يعمله نعمان، من جهة السجود في بيت رمون، أدنى بكثير من المستوى الواجب، لأن التعبد الصحيح لا يشترط شروطًا ولا يسعى في الحصول على تحاليل وفتاوي، فمتى رأيت شخصًا يقول:
هل أعمل هذا الأمر؟ هل هذا العمل حرام؟ أي ضرر في هذا العمل؟ وأمثال هذه الأسئلة، فاعلم أن المسيح لم يأخذ بعد مركزه الحقيقي في قلبه. لأنه إن كان محور النفس هو المسيح فحينئذٍ يكون هو القانون للحياة والمقياس والمحك لجميع الأعمال. فالمسألة ليست ما هو الضرر في هذا الأمر، بل هل هذا الأمر في المسيح؟
أيها القارئ العزيز إنه لمقياس منحط جدًا أن نبحث عن مقدار ما يمكننا أن نتمتع به من الملذات دون أن نفقد خلاصنا الأبدي. ليست هذه هي المسيحية، إنما المسيحية هي «لي الحياة هي المسيح» ( في 1: 21 ).
يا ليتنا نختبر قوتها ونُظهر أثمارها!
وفي جواب أليشع المختصر لنعمان درس نافع لنا، فهو لا يضعه تحت أي نظام ناموسي لأن هذا لا يتفق مع نعمة الله، كما لم يتفق معها أخذْ فضة ثمنًا للتطهير، وهو لا يضع نيرًا على عنقه لأنه سبق فتمتع بكل شيء من مجرد النعمة المجانية. وفي الوقت نفسه لا يقدر أن يصرِّح له بما طلب لأن هذا معناه التصريح بعبادة الأوثان. فماذا يعمل؟ وكيف يجاوبه؟ «قال له: امضِ بسلام» (ع19)، وبذلك يحيله إلى تلك النعمة التي سبق وتمتع بها، فهو لا يضعه تحت عبودية، بل يترك له فرصة لممارسة المسؤولية الشخصية. وكأني بنعمان بعد سماعه هذا الجواب تتنازعه الأفكار، فيقول في نفسه:
هل أقدر أن أمضي بسلام من مذبح يهوه إلى هيكل رمون؟ هل أقدر أن أمضي بسلام من مذبح يهوه إلى هيكل الوثن؟ هل أستطيع أن أجمع بين مذبح التراب الذي أخذته وبين بيت رمون؟ يا له من تدريب نافع وجميل.
والقلب الذي عرف شيئًا عن قيمة المسيح وعن قوة محبته التي تحصره لا يجد أية صعوبة في الإجابة عن تلك الأسئلة.
لم يكن على خزافي الملك أن يفلحوا الأرض، ولا أن يقوموا بأي عمل سوى تشكيل الطين إلى أوانٍ نافعة للاستخدام والجمال، ومن أجل هذا الغرض خُصصت لهم أماكن للسُكنى، وقطع الأراضي.
وهكذا الحال معنا نحن أيضًا؛ فالمسيح له غرض من إعالتنا، وحيث أن حياتنا قد استقرت في تخومه، فإننا نستمتع بوجوده وبتكفّله بنا، حتى نُعتق من اهتماماتنا القلقة وهمومنا الأليمة، ونستطيع أن نُخضع ذواتنا، بقلوب متحررة وفَرِحة، لخدمته المُبهجة.
ويجب أن يكون ناموس حياتنا لا أن نرضي أنفسنا، أو نستشير إرادتنا الذاتية في اختيار مهامنا، ولا أن نسعى وراء تتميم مكاسبنا أو مآربنا الخاصة، بل دائمًا نسأله: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟»، وعندما يأتي الجواب ـ كما يأتي واضحًا إلى جميع الذين يسألون برغبة حقيقية أن يتعلَّموا، وبميل صادق إلى فعل إرادته، علينا أن نحقق القول: «أسرعت ولم أتوانَ لحفظ وصاياك» ( مز 119: 60 ).
إن الروح الذى يجب أن يحرِّك حياتنا العملية مشروح لنا بوضوح كافٍ في تلك العبارة الصغيرة «أقاموا هناك مع الملك لشغلهِ».
وعلينا ألا ننسى ذلك المعنى العميق جدًا، وهو أن الإقامة مع الملك لا بد أن تسبق تتميم شغله.
وما لم نحيا باستمرار تحت عملية التحفيز للشركة مع المسيح، فلن تُفتح آذاننا لنعرف ماذا يريد منا أن نفعل، ولن نُوجد في حالة التركيز الحاسم على مهامنا التي حددها لنا الرب يسوع المسيح.
إن مصدر الحياة النبيلة هو الشركة مع المُثُل النبيلة، وتبعية المسيح تُطلق الإنسان في مضمار حياة الطاعة للمسيح. إن الأوقات المُعطاة للصمت وللتأمل الهادئ في تلك الرابطة الحلوة المقدسة التي تربط النفس المؤمنة بالرب الفادي، ليست أوقات ضائعة بالمقارنة بالعمل النَشِط من أجل المسيح، حيث أن الحياة المتأملة والحياة العملية ليستا متضادتين، بل متكاملتين. وبالرغم من كون مريم ومرثا أختين إلا أنهما أحيانًا تكونان مختلفتين، ويحاول الحمقى أن يجعلانهما ضدًا لبعضهما البعض.
وهناك فكرة أخيرة تُحفزنا أن نضع كل مهاراتنا ومجهوداتنا في عملنا، وهى أن عمل الخزافين قد يُحمَّل إلى أورشليم ليكون مع الملك.
فما أنفعه للملك!
هو سيراه، لذلك دعونا نضع فيه أفضل ما عندنا. ونحن أيضًا سنراه عندما ندخل ”مدينة الملك العظيم“.
فلمَّا أخَذَ يَسُو عُ الخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ ( يو 19: 30 )
قال الحكيم: «قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد. لا شيء يُزَاد عليه، ولا شيء ينقص منه» ( جا 3: 14).
فعمل المسيح إذًا يثبت إلى الأبد، وآثاره أيضًا تبقى إلى الأبد. يقول الرسول في الرسالة إلى العبرانيين: «وأما هذا فبعدما قدَّم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظرًا بعد ذلك حتى تُوضع أعداؤه موطئًا لقدميه. لأنه بقربانٍ واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين» ( عب 10: 12 -14).
في هذه الآيات وردت عبارة «إلى الأبد» مرتين. المرة الأولى: «جلسَ إلى الأبد»، والمرة الثانية «أكملَ إلى الأبد المقدسين».
في مفارقة مع هذا نحن نعرف أن الهيكل قديمًا لم يكن فيه كرسي، لأن العمل في ذلك الوقت لم يكن كاملاً. أما المسيح فبعد أن أكمل العمل جلس، وكان جلوسه إعلانًا لكمال عمله. فهل يمكن لواحد أن يقول للمسيح قف، لا تجلس، لأن عملك ناقص؟! حاشا.
وكما أن المسيح جالس إلى الأبد لأن عمله كامل، فإن كل مؤمن هو أيضًا كامل نتيجة عمل المسيح هذا. وما أقوى الحق المُتضمن في هذه الآية التي ذكرناها؛ لقد جلس المسيح ”إلى الأبدِ“ لأنه أكملَ إلى الأبد المقدَّسين.
نعم سيظل الصليب قويًا في تأثيره، دائمًا في فاعليته مهما تقوَّل المتقولون.
إنه عمل أبدي لا يتكرر. آه، ما أخطر هذا الذي وقعت فيه المسيحية الاسمية عندما أنزلت عمل المسيح الكامل الذي لا يتكرر مطلقًا، إلى ذبيحة تتكرر مرات بلا عدد. ليتهم يستفيقون ويرجعون للحق، فالكتاب المقدس واضح جدًا في هذا الأمر؛ أن المسيح بعدما قدَّم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد. إن عمله لا يتكرر مطلقًا، لأنه «ليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسهِ، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبديًا» ( عب 9: 12).
قال أحدهم، وعنده كل الحق في هذا، إنه لو كنا نحن الذين ذهبنا إلى جهنم لنوفي الله حقه علينا، لما أمكننا في يوم من الأيام، مهما مرّ علينا من سنين أو قرون أو عصور، أن نقول «قد أُكمِل».
أما بديلنا الكريم العظيم فقد وفى الله من فوق الصليب كل ديوننا.
أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ ( مز 55: 22 )
توجد ثلاث آيات في الكتاب المقدس تخبرنا عن مشيئة الله حيال أولاده الذين يحملون أحمالاً ثقيلة:
الأولى وتتكلم عن شيء حتمًا سنفعله:
أن يحمل كل واحد حمل نفسه «لأن كل واحد سيحمل حمل نفسه» ( غل 6: 5 ).
الثانية وتتكلم عن شيء ينبغي علينا أن نفعله:
أن نحمل بعضنا أثقال بعض «اِحملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح» ( غل 6: 2 ). وأخيرًا في مزمور55: 22 حيث تكلمنا الآية عن شيء قد نفعله، وهو أن نلقي أحمالنا على الرب «ألقِ على الرب همَّك فهو يعولك».
ولاحظ أنه لا يقول: ”ألق على الرب همَّك فهو يهتم به“، بل الوعد هو: «فهو يعولك (أنت)».
ونافع أن نقارن هذا الوعد السماوي مع آيتين في العهد الجديد؛ فيلبي4: 6، 7؛ 1بطرس5: 7 وهكذا يمكننا تلخيص الموضوع كما يلي:
(1) ماذا ينبغي علينا فعله؟ الإجابة: «ألقِ على الرب همَّك» ( مز 55: 22 ).
(2) كيف نقوم بذلك؟ الإجابة:«بالصلاة والدعاء مع الشكر» ( في 4: 6 ).
إنها نصيحة غالية: ”ألق كل همك على الرب“: اهتمام القلب، المشاكل العائلية، مشاكل العمل، المشاكل الصغيرة، المشاكل العظيمة، أي نوع مُحتمل من المشاكل والاهتمامات. ودعونا نتذكَّر باستمرار أنه لا يوجد أمر كبير أكبر من قوته «آه أيها السيد الرب ها إنَّك قد صنعت السماوات والأرض بقوتك العظيمة وبذراعك الممدودة. لا يعسر عليك شيءٌ» ( إر 32: 17 )، وأمام محبته لا يوجد أمر أصغر من أن يهتم به «أ ليس عُصفوران يُباعان بفلس؟ وواحدٌ منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم.
وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها مُحصاة. فلا تخافوا. أنتم أفضل من عصافير كثيرة» ( مت 10: 29 -31).
هذه الآية الجميلة «أما أنا فدودة لا إنسان» ( مز 22: 6 )، تشير إلى ربنا المعبود يسوع في تنازله العجيب، ونرى في هذا التشبيه البليغ العديد من المشابهات بين هذا النوع من الدود والمسيح في حياته وعمله الكفاري:
(1) هناك أنواع كثيرة من الدود صغيرة الحجم، تتغذى على ما تعفَّن وفسَّد، لكن هذه الدودة – موضوع حديثنا – هي دودة كبيرة نوعًا ما تتغذي على أنواع معينة من الأشجار، ولا علاقة لها بالعفن ولا الفساد. وفي هذا نرى ربنا يسوع في حياته الأدبية الرائعة، وكماله المطلق، هذا الذي لم يعرف خطية، ولم يفعل خطية، وليس فيه خطية، إنه «قدوسٌ بلا شرٍّ ولا دَنَس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات» ( عب 7: 26 ).
(2) كان هذا النوع من الدود يُجَمَع بأعداد كبيرة، ثم يُسحق سحقًا، فينتج عن سحقه عصارة أرجوانية اللون، وكان لا بد أن يُسحق ربنا الكريم أيضًا، الذي قيل عنه: «مسحوقٌ لأجل آثامنا» ( إش 53: 5 )، وقيل أيضًا: «أما الرب فسُرَّ بأن يسحقَهُ بالحزن» ( إش 53: 10 ). يقول عنه المرنم:
فاللهُ لم يُشفق على مسرَّة النفس الوحيدْ
بل سُرَّ أن يسحَقـهُ بالحزنِ لأجل العبيـــدْ
عزيزي يا له من تنازل عجيب أن يٌقال عن سيدنا إنه دودة لا إنسان، ويا له من ألمٍ رهيب الذي تألمه لأجلنا! وأي عقل يستطيع أن يستوعب ما يعنيه سحقه من الله الغاضب جراء خطايانا. أمام تنازله والآمه وسحقه لا نملك إلا السجود القلبي العميق.
موعد مجيء المسيح، سواء للاختطاف بالنسبة لنا، أو الظهور بعد ذلك. ولقد قال المسيح لتلاميذه بعد قيامته من الأموات: «ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه» ( أع 1: 7 ).
وعليه فتحديد يوم أو ساعة لمجيء المسيح أمر يتعارض مع كلام الرب الصريح، سواء قبل الصليب أو بعد القيامة. لكن من الناحية الأخرى، عندما يقول المسيح في هذه العظة عينها «اعلموا أنه قريب على الأبواب»، وعندما يقول في لوقا21: 28 «متى ابتدأت هذه تكون، فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن نجاتكم تقترب»، فإن هذا وذاك يؤكدان أن من حقنا معرفة اقتراب اليوم، كقول الرسول: «وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب» ( عب 10: 25 ).
وإذا كان الوقت بالتحديد لا يمكن معرفته، ولكن الحقيقة نفسها معروفة ومؤكدة. عرَّف أحدهم فورية مجيء الرب بأنه اليقين وعدم اليقين. اليقين بأن مجيء الرب قريب، وعدم اليقين من جهة يوم هذا المجيء.
فإن كان اليوم والساعة غير مُحددين، ولكن مجيء الرب قريب جدًا. ولم يقصد الله أن يعلن لنا هذا الأمر، لغرض مجيد، وهو أن يظل الأتقياء في كل العصور في حالة الانتظار والترقب لذلك الرجاء المبارك.
كم كان القديسون الذين عاشوا في القرون السابقة سيخسرون كثيرًا لو أنهم علموا أن الرب سيأتي مثلاً بعد ألفي عام، وبالتالي فإنه لن يأتي في أيامهم!
وأما هم فقد عاشوا حياة السهر والانتظار كل أيام حياتهم، وكان رجاء مجيء المسيح خير سنيد لهم في الضيقات، وثبَّتهم أمام شراسة الهجمات، وقوَّى عزائمهم في المِحن والأزمات، وضاعف تكريسهم وخدمتهم للسيد رغم المُلِمات، وملأ قلوبهم بالفرح في كل الأوقات.
وقول المسيح هنا إن هذه الساعة لا يعلم بها إلا الآب وحده، لا يخلّ بحقيقة لاهوت الابن، فهو أخلى نفسه آخذًا صورة عبد. وفي محدودية الناسوت هو ليس كُلي العلم، ولو أنه طبعًا كذلك بمقتضى لاهوته.
ونحن لا نفصل بين لاهوت المسيح وناسوته، وإن كنا نميز بينهما.
ودعنا لا ننسى أن الرب قبل أن يقول هذه العبارة، كان قد نطق بعبارة عظيمة لا يمكن أن ينطق بها أي إنسان كائن مَنْ كان: «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول».
«ينبغي» .. كلمة صغيرة ولكنها ذات عُمق شديد وقوة أدبية عظيمة، فهي تحدِّثنا عن ما هو حتمي وضروري ولا يمكن الاستغناء عنه. وفي الأصحاح الثالث من إنجيل يوحنا، نلاحظ الآيات الثلاث التي تتصدرها الكلمة «يَنْبَغِي»:
فأولاً: بالنسبة إلى الإنسان الخاطئ، وحتمية الولادة من فوق (ع7)، نحن نقرأ قول الرب يسوع لنِيقوديموس: «ينبغي أن تولدوا من فوق» (ع7).
وهنا تُشير كلمة «ينبغي» إلى حاجة الإنسان إلى الحصول على حياة جديدة وطبيعة جديدة، وهي صحيحة بالنسبة إلى البشر عمومًا. قد توجد فوارق كثيرة وعظيمة في الحالات الاجتماعية والأدبية، ولكن سواء كان الإنسان متدينًا أو شريرًا كما يقول الناس، فإنه في الحالتين في حاجة ماسة لأن يُولد ثانية. وإن لم يُولد الإنسان ثانيةً فليس له الحق في الدخول إلى السماء، فالولادة الثانية هي ضرورة حتمية للدخول في علاقة مع الله ( يو 3: 3 ، 5).
ثانيًا: بالنسبة إلى الرب يسوع مُخلِّصنا، وحتمية موته على الصليب (ع14). «وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (ع 14، 15). نعم كان ينبغي أن يُرفَع سيدنا على الصليب، لأنه كان يجب دفع أجرة خطية الإنسان، فالناس لا يمكنهم الذهاب إلى السماء في خطاياهم، وكما رفع موسى الحية النحاسية على راية في البرية، عندما لدغت الحيَّات المُحْرِقَة جميع بني إسرائيل ( عد 21: 4 -9)، «فكلُّ مَن لُدغ ونظر إليها يحيا»، هكذا كان ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي أحصل على حياة جديدة، وهذه الحياة هي في ابن الله، ولكن لا يمكن أن تكون لي إلا بواسطة موته.
ثالثًا: بالنسبة إلى المؤمن، وحتمية التكريس القلبي الحقيقي للمسيح (ع30). وإذ أُولد ثانيةً، ويصير المسيح مخلّصي، تواجهني «يَنْبَغِي» للمرة الثالثة، والتي قالها خادم الرب الأمين يوحنا المعمدان: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (ع30).
إنه من امتياز كل مؤمن أن يُعلن المسيح للآخرين باعتباره المُخلِّص الوحيد، ولكن الخادم الحقيقي ـ كيوحنا المعمدان ـ يجتهد أيضًا أن يختفي خلف سَيِّده حتى يتمجد المسيح. وكل سعي لخادم المسيح لجذب الانتباه إليه يُشكّل في الواقع ضربًا من الخيانة وعدم الولاء للرب.
بالكتاب المقدس وحده نحصل على معرفة الله، ونستطيع أن نتأمل في كمالاته ساجدين. وبالكتاب المقدس نتعرَّف بالرب يسوع المسيح مخلِّصنا لفرح نفوسنا وقوتها وعزائها.
الكتاب المقدس يصل إلى أعماق تعاستنا، ويصل إلى أوج سمو الله لأنه يأتي من عنده وينزل إلينا، ويقودنا صعودًا إليه. وكما أتي الرب يسوع من عند الله ورجع إلى الله، هكذا الكتاب المقدس الذي يعلن الله بطريقة إلهية قد أتى منه، ويرفع إليه كل الذين يقبلونه بالإيمان البسيط. فهو يجعل الله معروفًا لهم لأن الله يعلن نفسه فيه.
والدليل المباشر على أنه أتى من الله موجود في الكتاب نفسه. إن الشمس لا تحتاج إلى نور ليجعلها ظاهرة، هكذا الكتاب المقدس لا يحتاج إلى دليل من خارجه ليجعل قوته المُحيية والمجددة ظاهرة.
الكتاب المقدس هو كلمة الله. ولا يوجد امتياز أسمى من أن تكون لدينا أخبار آتية إلينا مباشرةً من الله نفسه.
الكتاب المقدس رابطة لا تنفصم عُراها، تربط نفوسنا بالله مباشرة، وقد أعطاه الله لنا لهذا الغرض. فبه يجب أن نولد ثانية «شاء فولَدنا بكلمة الحق» ( يع 1: 18 ) وبدون ذلك ما كان يمكن أن نرى الله مطلقًا. وبه يجب أن نهتدي، وإلا فلا يمكن أن نكون في الحق أبدًا. وبه يجب أن نتغذى، وإلا فلا يمكن أن تكون لنا قوة روحية للارتفاع فوق الشر المُحيط بنا.
الناس يقاومون كلمة الله لأنها الحق. لو أنها لم تصل إلى ضمائرهم، ما كانت لهم حاجة إلى إجهاد أنفسهم في مقاومتها.
الناس لا يسلِّحون أنفسهم ضد القش، بل ضد السيف الماضي الذي يرتعبون من مَضاء حدَّيه.
تحدثنا كلمة الله عن محبة ونعمة الله الذي بذل ابنه الوحيد لأجل الخطاة مثلي ومثلك ليجعلنا معه، ولكي نعرفه معرفة حقيقية عميقة ووثيقة، ولكي نتمتع به الآن، ونتمتع إلى الأبد. لقد بذله الله ليموت لأجل الخطاة مثلي ومثلك حتى تتطهر ضمائرنا تطهيرًا كاملاً، لنتمكن من الوجود في حضرته بفرح بدون أي سحابة من الخوف أو التأنيب.
إن وجودنا هناك في ملء الشعور بمحبته هو الفرح الكامل.
والكتاب المقدس يُخبرني أيضًا عن الحق من جهة نفسي كما يخبرني عن الحق من جهة إله المحبة.
ويشرح لي في الوقت نفسه حكمة مقاصده ومشوراته.
فَلَمَا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هذَا المَرَضُ لَيْسَ لِلمَوْتِ، بَلْ لِأجْلِ مَجْدِ الله، ليتمجد ابْنُ الله به ( يو 11: 4 )
إن الإيمان ينتظر وقت الله، عالمًا أنه أحسن الأوقات، فهو لا ييأس ولو تأنى، بل يستريح بمنتهى الهدوء والطمأنينة في محبة الله الثابتة الوطيدة، وحكمته الرشيدة المنزهة عن الخطأ. فمهما تأنى الرب فالإيمان يملأ القلب ثقة حلوة وطمأنينة عَذبة. فإن لم تأتهِ النجدة على جناح السرعة فيقول مطمئنًا: «كل الأشياء تعمل معًا للخير» ولا بد أن تُثمر على مرّ الزمان «لمجد الله».
والإيمان يعطي المؤمن قدرة على تبرئة الله وسط المِحَن وعند الشدائد، وهو عالم ومعترف أن محبة الله لا تألوا جهدًا في صُنع الخير والإتيان بما هو أفضل لمحبوبه.
ويا لها من راحة يَظفر بها القلب متى علم أن ذاك ـ الذي تعهد بشأننا ونحن في الضعف أو في الحاجة وأعواز السبيل الماسة من بدء الطريق إلى نهايتها ـ قد راعى مجد الله من كل وجه، وأن ذلك المجد كان جلّ غرضه في كل شيء. فسواء في عمل الفداء الخطير، أو في دقائق وتفاصيل حياتنا فلمجد الله المكان الأول والمركز الأسمى في قلب ربنا المبارك. فمهما بذل وضحى فقد سلَّم في كل شيء مدافعًا عن مجد الله ومتمسكًا به. قد تخلى عن مجده الخاص واتضع مُخليًا نفسه، وقد سلَّم في حقوقه الشخصية، وأسلم حياته الغالية الكريمة لكي يضع أساسًا راسخًا لمجد الله، ذلك المجد الذي يملأ السماء، وعن قريب سيغطي كل الأرض ويشرق بلمعانه إلى الأبد في دائرة الكون الواسع الأرجاء.
فمتى تمكَّنت نفوسنا من هذا الحق وأيقنت به، كان لنا من وراء ذلك الراحة والطمأنينة في كل أحوالنا، سواء أَ كان خلاص نفوسنا أو غفران خطايانا أو أعوازنا اليومية وكل ما مَن شأنه أن يدرِّب نفوسنا.
لقد زوَّدنا بما نحن في عَوَز إليه سواء في الوقت الحاضر أو الأبدية مُراعيًا في ذلك «مجد الله». فخلاصنا وسد أعوازنا مرتبطان كُليًا بمجد الله؛ مجد الله الذي هو المحور الذي تدور عليه أعمال الرب يسوع ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.
فخليق بنا أن نتذكَّر ـ إن لم توافنا النجدة والعون عاجلاً في أحزاننا وتجاربنا ومصاعبنا وتدريبات نفوسنا ـ أن السر في التأني هو مُراعاة مجد الله، وملاحظة خيرنا الصحيح ونفعنا الحقيقي.
ولا يغرب عن بالنا أن الله في محض نعمته جعل مجده وخيرنا مرتبطين معًا، أي متى تمجَّد ظفَرنا نحن بالخير.
فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإنْجِيل اَلْمسِيحِ ( في 1: 27 )
حرَّض الرسول بولس إخوة فيلبي في هذه الرسالة لأن يعيشوا كما يحق لإنجيل المسيح ( في 1: 27 ).
فدعنا نسأل أنفسنا أيها القارئ العزيز:
أين نحن من العيشة المتوافقة مع إنجيل المسيح؟
إن كلمة «إنجيل» تعني ”الخبر السار“، ولا يوجد خبر سار أعظم من التجسد والصليب، كفارة عن خطايانا. إلا أن: الإنجيل ليس مجرَّد خبر يُذاع، ولا حتى مجرد حقيقة تُصدق، بل هو حياة تُعاش.
إلا أنه يبرز أمامنا السؤال: كيف يعيش الإنسان الساقط، المنفصل عن الله روحيًا، والميت أدبيًا، كيف يمكنه أن يعيش كما يحق لهذا الإنجيل؟ إننا إن اعتمدنا على مجهود ذلك الإنسان ”الميت روحيًا“ أو على أعماله فإننا يقينًا ـ ومنطقيًا ـ نتبع السراب ونتخيَّل الوهم. لكن دعني أوضح الصورة كاملة.
إن ذات الإنجيل الذي يذيع أروع الأخبار عن محبة الله، يحمل في طياته قوة حياة روحية تُقيم الميت روحيًا عندما يقبله قلبيًا، وتُغيِّر الفاسد أدبيًا إذ يؤمن بقوته عمليًا. قال الرسول بولس نفسه، عن إنجيل المسيح نفسه، في رسالة رومية هذه الأقوال الخالدة: «لأني لست أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل مَن يؤمن» ( رو 1: 16 ).
إذًا فلكي يُعَاش الإنجيل كما يحق، ينبغي أولاً أن يُقبَل كقوة الله للخلاص من الخطية ودينونتها.
عزيزي: هل قبلت الإنجيل؟ ليس سؤالي هو هل قرأت الإنجيل؟ بل هل قبلت البشارة المُفرحة؟ بل بالحري هل قبلت صاحب البشرى السارة نفسه، وموضوع الإنجيل ذاته، الرب يسوع المسيح مخلِّصًا شخصيًا لحياتك؟ هل رجعت إليه بكل قلبك تائبًا عن شرَّك معترفًا بأنك خاطئ وأنك قد أخطأت وأنك لا تملك في ذاتك قدرة، بل ربما ولا حتى رغبة في بعض الأحيان لترك طرقك الردية؟ قُل للرب الآن:
توّبني فأتوب ... ارجعني إليك فأرجع ( إر 31: 18 ). وإلا فالبؤس نصيبك هنا، والشقاء مصيرك هناك.
ليتك تتعقل وتتأمل آخرتك ( تث 32: 29 )
وتدرك أن الفرصة المُتاحة أمامك الآن، قد تضيع إلى الأبد غدًا، وثق أنك عندما تقبل إنجيل المسيح للخلاص، فإنك ساعتها فقط يمكنك أن تبدأ طريق العيشة كما يحق لهذا الإنجيل.